الارشيف حسب شهور
الاقسام الفرعية
تصفح حسب الشيخ
الشيخ : محمد بن علي الجوني
مذاهب أبي حامد الغزالي
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطاهرين ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد حار العلماء والدارسون في أمر كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، فهو يحلُّ في كتاب ما ربطهُ في كتاب آخر، وينقض في كتاب ما عقدهُ، وشدّ إحكامه في كتاب آخر. بل قد ضلل الفلاسفة والباطنية والمتكلمين بأمور، عاد ليقول بها. مما جعل طائفة من العلماء يصفونه بالتناقض، وذلك لقوله بمقالات، واعتقادهِ بمعتقدات، كان هو من أشدّ الساعين لنقضها، وبيان تهافتها. ومن العلماء من جعل ذلك دليلا على تغيُّر أفكاره وتطوّرها مع تقدّمهِ في العمر، وتوسّعهِ في العلم، وعزَو ذلك لجودة ذهنه، وشدّة ذكائه، وتوقّد قريحته. ومنهم من يرى أن الغزالي لم يكن متناقضا في نفسه، بل تعمّد أن يكتب كتبهُ لكل الطوائف ولكل الناس على اختلاف مشاربهم ومناهجهم، وكلّ يأخذ منها ما يصلح له، بقدر استعداده، وقُدرته على الفهم. يقول د. سليمان دنيا رحمه الله أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في كتابه الحقيقة عند الغزالي: ( وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب ميزان العمل حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام: 1/ رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه. 2/ ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد. 3/ ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده … لذلك ذكر في كتاب الجوهر أن …
جناية اتّباع الهوى على حقائق الشريعة
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد يجب أن يكون النّاظر في أقاويل العلماء ومصنفاتهم، مُخلصا لله وحدهُ في طلبهِ للحقّ، صادقا في اتّباعه، مُعظّما للشريعة، مُسلّما لأحكامها، مُتقصّدا براءة ذمّته، وفِكاك رقبتهِ عند ربّه، وإلا كانت سعةُ اطلاعه، وجودةُ فهمه، وتفنّنهِ، وبالا عليه. ففي باب العلم لتقريب المعنى المقصود، من نظر في متنٍ لإمام مُعتبر في منظومته الفكرية، فعندهُ أصلٌ، وهو أنّ كلّ ما يقولهُ صاحبُ هذا المتن حقّ، وإنْ كان منحرفا عن السبيل، مجانبا للدليل. وذلك بطرق التأويل والتوجيه والمجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، والعام بأنواعه والخاص والمطلق والمقيّد والمنطوق والمفهوم والنص والظاهر والمؤول والمحكم والمتشابه والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وأنواع الدلالات كالمطابقة والتضمن واللازم وغيرها من أدوات علم الأصول والمعاني والبديع والبيان. ولو تناقض كلامُ مُعظّمهِ، وتهافتت أفكارهُ، فهو قادرٌ على الاستدلال على معقوليتها وسلامتها من العطب والتعقّب، بما أوتيهُ من أدوات معرفيّة، ووسائل تأويلية، بله حتى أخطاء متبوعه يستطيع جعلها بشيء من التأويل من دلائل فهمه، ورسوخهِ، وتضلُعهِ في دقائق العلم، لكن الناس لقصرِ نظرهم، ومحدوديّة فكرهم، وعدم معرفتهم باللسان العربي وإحاطتهم به، وعدم استيعابهم لمقاصد الأئمة والنُظّار، أساءوا فهمه. ويستطيع التنقُّل بين مدرستي النحاة البصرية والكوفية لتوجيه كلامه، والاستفادة من لغات العرب كهذيل وقريش وكنانة وقيس وأسد، والنظر في …
ضرورة معرفة أصول المقالات
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد مما ينبغي تقديمهُ والتّوطئة له، لفهم الفلسفات والأفكار، والشخصيات والرموز التي لها شأن وتأثير في العقيدة والتاريخ، أن نعرف مصادرها وجذروها، قبل الانشغال بتتبّع جزئيّاتها، أو الاستغراق في النظر في تفاصيلها، وما يترتّب عليها من لوازم ومآلات. فإنّ هذا من أعظم ما يُعيننا بالضرورة على فهمها، ويُمكّننا من الحكم العادل عليها، وبغير هذه الخُطّة الحكيمة، والطريقة القويمة، سوف يَتيهُ الباحث الجادّ في معرفة السبب الموجب لهذه المقالات، والنصّ المؤسس لهذه الشطحات والأفكار. والمقصود أن تنظر للصورة الكليّة، والمنظومة الفكريّة من لحظة انبثاقها ثم تسلسلها وتطورها في عقول ومصنفات دعاتها والمُنظّرين لها. وذلك بأن تُردّ هذه الجزئيات والتفاصيل والمقالات المتناثرة إلى أصولها، وأن تُعاد الفروع والأغصان المبعثرة إلى شجرتها، حتى تُفهم على حقيقتها، وتُقرأ على الوجه الذي قرره أصحابها. أقولُ هذا، لأنّنا رأينا بعض المعاصرين يصفون أولئك الفلاسفة والنُظّار الذين تخبّطوا في فهم خطاب الشريعة، وسلكوا طرائق مُحدثة في فهمها وتفسيرها أو الاعتراض عليها، بأنّهم من المفكّرين الأحرار، والعقلانيين المستنيرين الذين خرجوا عن عباءة التقليد، وتمردوا على الأفكار والقيم والأنماط السائدة، وخالفوا المنظومة الفكرية والاجتماعية التي كانت مهيمنةً في عصرهم. وهذا لا يُسلّم لهؤلاء المزيّفين للحقائق، بل النّاظر في مقالات ومذاهب أولئك الفلاسفة، والدارس لأصولها، ومصادر انبثاقها، يجدُها …
إماتة حظوظ النفس
محمد بن علي الجوني
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد خلقنا الله في هذه الحياة الدنيا للابتلاء بالخير والشرّ يقول الله تعالى: ( ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا تُرجعون )، وجعل سبحانه هذه الحياة الدنيا زينة ولعبا ولهوا، يفتتنُ الخلق بها، ويستبقون على زينتها، ويتنافسون على متاعها، وزُخرفها الزائل. ونبّه الله جل شأنه المكلّفين إلى أن لا يغفلوا عن السّعي للدارالآخرة، وأن يستعدّوا للرحيل من هذه الدنيا الفانية، يقول سبحانه: ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون). إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى … ولاقيت يوم الحشر من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله … وأنك لم ترصد كما قد كان أرصدا ومن أعظم الابتلاء وأشدّ صوره، أن يقع الإنسان في الفتنة، ويتقلّب بين أعطافها من حيث لا يشعر، فيتخوّض في شهوات النفس وملاذها وما يوافق مادّتها، ويجري وراء جموحها ورغباتها وأغراضها المصادمة للحقّ، وهو يحسب نفسهُ على خير وهدى .. ! فيُدِلّ بحالهِ وبتديّنهِ الظاهر على من ابتُلي بشيء من المحرمات الظاهرة والمنكرات السافرة، ويرى أنّ غيرهُ ممن هو أقلّ علما وعبادة منه، قد افتُتن بالدنيا واغترّ بزينتها وغفل عن الدار الآخرة والسّعي لها، وهو -في حقيقة الحال- أشدُّ منه تخوّضا في الفتنة، وأعظم تعلّقا بسلاسل الدنيا وأغلالها. فمن خديعة إبليس، …
الردّ على مقولة ” لا تظلموا المثليّين “
محمد بن علي الجوني
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد يشيرُ من سبك هذه التسمية الحادثة بمثليّ الجنس، إلى من عمل عمل قوم لوط، وكأنّ المقصود بها، أنّ هذا الأمر مركوزٌ في نفوسهم، مُركّبٌ في طبائعهم وغرائزهم، لا قُدرة لهم على دفعه، ولا سبيل إلى رفعه. كما يدّعي ذلك الدعيّ، أنّه يجب علينا تقبّلهم كما هم، -فهذه طبائعهم وهذا توجههم وهذا خيارهم-، وذلك بالتّسامح معهم، وملاطفتهم، وعدم كسر قلوبهم بإعلان النّكير عليهم، فعلى الوالدين القائمين على تربية الولد أو المرأة شريكة حياة هذا الزوج، أن تتفهّم هذه الحال، وتتقبّل الشّاذ على ما هو فيه، وإن قدِرت على معالجته ومساعدته للتشافي من ميوله، فهذا أمر محمود. الذي تدلُّ عليه مُحكمات الشريعة، أنّهُ لا يوجد شيء اسمه مثلي الجنس، وهذا التركيب مثلي الجنس، يستكنُّ فيه معنى التفهّم والاعتراف والتسامح والتقبّل في المجتمع، مثل قولهم لتسويغ بعض المناكر، مشروبات روحيّة ويعنون بها الخمر، وفوائد وهي ربا يسمّونها في كثير من الصور المعاصرة بغير اسمها. فليس هناك شيء اسمه مثليّ، وليس هناك جينات أو جينوم يضطرهم ويحتّم عليهم ارتكاب هذا الفعل، كما يقوله التطوريون الداروينيون الخَلقيون وغير الخلقيين منهم. الحقيقة التي يتعامون عنها، ويُعرضون عن البخوع لها، أنّه إتيان للذكران، ومقارفة للفاحشة، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، يحملهم …
البداءة بالأصول والكليّات قبل الذيول والحواشي
محمد بن علي الجوني
الحمد لله وبعد .. وجدت كثيرين وعلى رأسهم ريتشارد دوكنز، يعتقدون أنّ اختلاف وتنازع الأديان والمذاهب، دليلٌ صارخ على بطلانها وبشريّتها. فإذا ادّعى كل مذهب وقَبيل الحقيقية المُطلقة، فذلك دالّ عندهم على نسبيّة الحقيقة، وأنّه لا يمكن للإنسان المحدود بقدراته وإمكاناته الوصول إلى المطلق واللامتناهي. ثم يبنون على هذه المقدمة الخاطئة أنّ الأنبياء عليهم السلام أما أن يكونوا كذبة أو أنّهم يظنون الوحي الذي يتنزّل عليهم حقّا، وهو في نفس الأمر محضُ خيال، ثم يستنتجون من هذه المعادلة المتهافتة إنكار وجود الخالق سبحانه، وأنّ الكون بمجرّاته وأفلاكه، وُجد عبثا، بعد الانفجار العظيم البق بانق .. ! وهذا تسطيح منهم لهذه القضيّة العظيمة، وخلط لأوراقها، فلا المقدّمة صحيحة، ولا النتيجة التي يسعون لتقريرها سليمة. ومثل هذه القضيّة المتعلّقة بالإجابة عن الأسئلة الوجوديّة الكبرى، لا ينبغي أن تُقرأ ولا أن تُدرس على هذا النّحو المُبتسر، الذي يضلُّ به صاحبه عن الحقّ، ويزيغ عن الهُدى. كان الواجب البدء بدراسة قضيّة التوحيد، وإثبات أن الله تعالى هو الخالق المدبّر المتصرّف في هذا الكون، فإذا تقرر هذا المعنى وتأسّس، وأنّ هذا الكون بنظامه المحكم، ودقّته، وعظمة تصميمه، وبديع صُنعه، لا يمكن أن يوجد على هذا النّسق وعلى هذه الهيئة، دون خالق مبدع فاطر له. فإذا نظر الفلاسفة والنُظّار في حقيقة هذا الوجود، وأقرّوا أنّ له خالقا عظيما، وفاطرا جليلا، ومُدبّرا عليما، …
أنوار البروق فيما بين عُلماء السُنّة والأدعياء من الفروق
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد مما يكشفُ لك النّقاب عن الفرق بين العلماء المُتّبعين للسُّنن والآثار من غيرهم من الأدعياء وأصحاب الأهواء، الاطّراد المنهجي، والانضباط العلمي في تقرير العقائد والأصول وفي اختيار الفتاوى وفي الحكم على الحوادث والنوازل. فتجدُ العالم السُنيّ الراسخ له أصولٌ منضبطة، وقواعدُ راسخة مٌحرّرة، يسير في ضوئها، ويتتبّع معالمها، ويتلمّح مقاصدها، سواء في باب العقائد أو التفسير أو في الفقه وأصوله، فيسير على مهيع سلفيّ واضح، وطريق بيّن لاحب، لا خفاء فيه ولا اعوجاج له. كما قال العلامة السِّعدي رحمه الله –في منظومته-: فاحرص على فهمك للقواعد … جامعة المسـائل الشّوارد لترتقي في العلم خير مُرتقى … وتقتفي سُبل الذي قد وُفّقا حتى أنّ من عرف اطّراد منهج العالم، وانضباط مسلكه من تلاميذه وملازميه، يستطيع معرفَة قوله ِفي مسألة من المسائل أو قضيّة من القضايا أو نازلةٍ من النوازل، وإن لم ير منصوصهُ، وصريح قوله في عين هذه الواقعة، بإلحاق هذا الفرع أو قياس هذه النازلة على أصوله، وتخريجها على قواعده المنضبطة، فتنتج نتيجة سليمة لا تتخلّف، لابتنائها على وجهٍ شرعيّ مُعتبر، وذلك لسلامة أُصوله التي ينزع ويستقي فهمه للشّريعة منها، وبرائتها من الانخرام والتدافع. فالعالم الراسخ يستسلم للنّصوص من الكتاب والسُنة، ويُعظّمها، ويحتجّ بقول الصحابة إذا لم يُعرف …
فائدة نفيسة من كتاب العبودية
محمد بن علي الجوني
فائدة نفيسة من كتاب العبودية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه ورضي الله عن صحابته أجمعين. أما بعد كنت أقرأُ كتاب العبوديّة لتقيّ الدين ابن تيمية رحمه الله، وهو كتابٌ عظيم الفائدة، جليلُ القدر، عُني فيه مصنّفهُ رحمه الله بتقرير حقيقة العبوديّة، والإفصاح عن رُتبتها، وتجلية الأكدار عن معناها، بعد أن رانت على أنوار شمسها ضلالات المنحرفين، وتخليطات المُخلّطين الذين خاضوا فيها بغير علم، وتكلّموا عن درجاتها ومنازلها ورُتبها بغير هُدى من الله. ومن الفوائد الغِزار، والمنافع الكثار من ذخائر هذا الكتاب النّفيس، الذي أكاد أجزم أنّهُ لا يستغني عنهُ طالب علم، بل هو محتاجٌ من حين لآخر إلى مراجعته واستشراحه وإدامة النّظر فيه، لتعلُّقه بأهمّ المهمات، وأجلّ المطالب التي خلق الله الخلق لأجلها، وأوجدهم لتحقيقها وهي عبودية الله سبحانه وتعالى وتوحيده. والذي دعاني للحديث عن هذا الكتاب في هذا المقام، أنني رأيت الشيخ تقيّ الدين رحمه الله في حال ردّه على المخالفين، لا يغلقُ الأبواب المفتوحة المُفضية لدعوة المخالفين إلى الحقّ الذي يدينُ الله به، ولا يُقفل -ما استطاع- منافذ وقنوات المجادلة والمناظرة معهم بالتي هي أحسن. بل كان رحمهُ الله يُغير عليهم في معاقلهم وهم غارّون، ويقتحم عليهم حصونهم، ثم يعمل على إفسادها من الداخل، وذلك بالتفتيش عن مصطلحاتهم الحادثة، وعباراتهم المُخترعة، وتفكيكها، ورفع الإجمال والغموض عنها، …
منائح القرائح فيما يُشرع للمسلم عند نزول الجوائح
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين. أما بعد المفتاح الموصل إلى مقام التعبّد في هذا الباب، والمدرجة المُفضية لأول منزلة من منازل التفكر والاعتبار، انزعاج القلب من حصد هذا الوباء للأنفس، وعِظم انتشاره في البلدان، وإخافته للآمنين، وترويعه للمطمئنين في كلّ مكان. فليس أحدٌ في مأمنٍ من فتكه وعطبه، مهما كان عمُره، ومهما كانت صحّتهُ وقوّته، فكلُّ أحد مُعرّض لطعنته، ولا أحد يستطيع الفكاك من قبضته، إلا أن يحوطهُ الله بحفظه، ويكلأه برعايته، ويقيه من التعرّض لآفته المُتلفة للأنفس، والمهلكة للأرواح. فلهول هذا الحدث، وشدّة وطأته على النفوس، وعِظم وقع أخباره ومستجدّاته على القلوب، على العبد أن يقابل ذلك كلّه بالاستيقاظ من رقدته، وأن يُعجّل بالصّحو من سكرته، وأن لا يُديم الغفلة مع الغافلين، والبقاء في السفاهة والجهالة مع الجاهلين. فإذا وفّقهُ الله لمشاهدة الواقع بعين البصيرة، وفْقَ النواميس الكونيّة، والأحكام القدريّة الجارية على الخلق كلّهم مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، غنيّهم وفقيرهم، فلينتبه عند ذلك من تكاسله وتهاونه، وليُشمّر إلى الله بهمّته، إيقانا بتوحيده، وتمسّكا بسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقبالا على طاعته، وصدقا في التّوبة إليه، ولياذا بجنابه، وخلاصا من الذنوب التي أسرته، وقيّدته بأغلالها، ومزّقته بأنيابها، كما أمر الله تعالى بالمبادرة إلى التوبة النّصوح فقال: { يَا …
قصة الغرانيق
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطاهرين ورضي الله عن الصحابة أجمعين. أما بعد من القصص الواردة في كتب الحديث والتفسير والسير، والتي يحتاج طالب العلم إلى رويّة، وتأنّ، وسبر للمرويات، واستقراء لكلام أهل العلم حتى يميل إلى قول محقّق فيها، قصة الغرانيق. القصة أوردها كثير من المفسرين وعلى رأسهم إمام المفسرين وشيخهم أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). ومجملها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على ملأ من المسلمين ومن كفار قريش بمكة سورة النجم، فلما بلغ: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، ألقى الشيطان محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم على أسماع المشركين: تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لتُرتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وسجد معهم المشركون، فكان هذا سبب نزول قول الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ… الآيات من سورة الحج). من أجلّةِ أهل العلم المتقدمين والمتأخرين كمحمد بن إسحاق والقاضي عياض وأبو بكر بن العربي والألباني رحمهم الله من ردّها وأبطلها …
من الصور المعاصرة لاتباع الهوى
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محد وعلى آله الطيبين ورضي الله عن الصحابة أجمعين. أما بعد حذّر الله سبحانه عباده من اتّباع الهوى والسير في ركابه، والتحايل على الشريعة بتكذيبها أو تأويلها فقال سبحانه: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) سورة النساء (65) وقال تعالى: ( فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) سورة القصص (50) وقال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) سورة الأحزاب (36) وقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) سورة الحشر (7) وقال تعالى: ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) سورة النساء (80) وقال سبحانه: ( إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ أَن یَقُولُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ) سورة النور (51) يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: ” أي الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو …
سمّوا لنا شيوخكم .. وبيّنوا إسنادكم في الدين
محمد بن علي الجوني
الحمد لله الموصوف بصفات الكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى الصّحب والآل. أما بعد كان الصحابة ضي الله عنهم في صدر الإسلام وفي ابتداء أمر هذه الأمّة، يُحسنون الظنّ بكلّ من تكلّم في دين الله، ونسب الحديث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحملون النّاس على الصّدق في حديثهم، والعدالة في دينهم، لصلاح الناس، واجتماع قلوبهم، وقُرب عهدهم بأنوار النبوة وهدايات الرسالة. فلما ذرّت قرون الفتنة، واختلف الناس، وصارت كل طائفة تريد الاستقواء بنصوص الشرع لإثبات صحة مقالتها، وبُطلان مقالات ومذاهب من خالفها. صار الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم بإحسان لا يرفعون رأسا بكلّ من تكلّم في الدين، أو زعم نسبة قوله إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى يسمّي لهم شيوخه، ويبيّن لهم إسناده، ليتبيّن المُحقّ من المبطل، ويتميّز المؤمن الصّادق من الدعيّ الأفّاك. واقتفى المحدّثون هذه الصناعة، وصاروا يحاكمون المرويّات إلى هذا الميزان، فلا يقبلون قولا لقائل في الدين حتى يوازنوا قولهُ بقول غيره من أقرانه ونُظرائه، ويسبروا مرويّاته، فإن وافق مروياتهم، وقلّت مخالفته لهم، قُبل حديثه واتُّقي خطؤه، وحكموا له بالصدق في حديثه، والعدالة في دينه، وإن أكثر من مخالفتهم والشذوذ والإغراب عن مرويّاتهم، ردّوا حديثه، وبيّنوا زيفه، واتّهموه باختلاق المرويّات، ووضع الأحاديث المكذوبات. تلك كانت …