قصة الغرانيق


 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطاهرين ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

أما بعد

من القصص الواردة في كتب الحديث والتفسير والسير، والتي يحتاج طالب العلم إلى رويّة، وتأنّ، وسبر للمرويات، واستقراء لكلام أهل العلم حتى يميل إلى قول محقّق فيها، قصة الغرانيق.

القصة أوردها كثير من المفسرين وعلى رأسهم إمام المفسرين وشيخهم أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).

ومجملها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على ملأ من المسلمين ومن كفار قريش بمكة سورة النجم، فلما بلغ: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، ألقى الشيطان محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم على أسماع المشركين: تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لتُرتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وسجد معهم المشركون، فكان هذا سبب نزول قول الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ… الآيات من سورة الحج).

من أجلّةِ أهل العلم المتقدمين والمتأخرين كمحمد بن إسحاق والقاضي عياض وأبو بكر بن العربي والألباني رحمهم الله من ردّها وأبطلها وحكم باختلاقها، وانفصل بعد سبر لطرقها، ونظر في مرويّاتها إلى أنّها من دسائس الملاحدة، ومن وضع الزنادقة، لكونها تمسّ جناب النبوة، وتقدح في مقام الرسالة، وتنافي العصمة.

ومن كبار أهل العلم المحققين وحذّاق المحدثين كابن تيمية وابن حجر العسقلاني والقسطلاني وابن باز رحمهم الله من رأى أنّ كثرة طرقها، وتعدّد مخارجها تدلّ على أنّ لها أصلا.

فمن كان يحتجّ بالمرسل فلا يسعهُ إلا قبولها، ومن كان لا يحتجّ به، ومشى على القواعد الحديثية، فإنّه يوقن بثبوتها، وأنّه يستحيل توارد رواتها كأبي بكر بن الحارث وأبي العالية وسعيد بن جبير وقتادة والزهري رحمهم الله على الخطأ والغفلة في نقلهم.

وأنّ المرجّح في تفسير هؤلاء الآيات، أنّ الشيطان انتهز نُهزة سكوت النبي صلى الله عليه وسلم بين الآية والأخرى، فحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وساغ هذا على المشركين، فألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاه، فظنّوه يمتدح آلهتهم ويثني عليها، ثم نسخهُ الله، وأبطله، وأحكم آياته، وهذه سُنّة جارية على الأنبياء والمرسلين أنّ الله سبحانه ينسخ ما يُلقي الشيطان في قراءتهم ثم يُحكم آياته ويصونها من عبث الشيطان وتخليطه.

وكون بعض الملاحدة والمستشرقين وأخصام الدين كسلمان رشدي صاحب رواية آيات شيطانية وغيره قد اتّخذوا من القول بثبوت هذه القصة مدخلا للطعن في الدين، والإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، فذلك لا يجعلنا ننفيها، ونتبرأ منها، هربا من سهامهم الجائرة، وطعناتهم المغرضة.

فالصواب الذي لا معدل عنه، أنّ هؤلاء المغرضين الحاقدين قد طعنوا في أمور ثابتة في القرآن وفي الصحاح والمسانيد والسُنن لا يمكن تزييفها ولا ادعاء توهينها، كزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي تصغره بعقود، وزواجه من أكثر من أربع نسوة، ومنعهِ من تزوّج علي رضي الله عنه بابنة أبي جهل حتى لا تكون ضرّة لابنته فاطمة رضي الله عنها، وقصة زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها حين استنكر بعض المنافقين ذلك وقالوا: كيف يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من مطلقة زيد، وزيد ابنه بالتبني، كما دندن حول هذا المعنى معروف الرصافي في كتاب الشخصية المحمدية المنسوب إليه.

فمطاعنهم لا تجعلنا نُكذّب بما كان ثابتا أو نصدّق ما كان مُختلقا، ولا تحملنا على تحريف معاني القرآن والسنّة أو تأويلها بما يتّفق مع أفكارهم الملتاثة، وعقولهم المنحرفة.

ومن يكن ذا فم مريض… يجد مُرّا به الماء الزلالا

كتبه محمد بن علي الجوني الألمعي


Tags: ,

شارك المحتوى: