الحث على الاتباع في المنهج والسلوك


الحث على الاتباع في المنهج والسلوك

يكثر تحذير العلماء وطلبة العلم في هذه الأعصر المتأخرة من الخوارج ومن سار سيرهم، لعظيم فتكهم بأهل الإسلام وجنايتهم عليه.

فإنهم قد أضروا بالدين وأهله وشوهوا صورته، وخربوا سمعته، فإن ضررهم وإفسادهم عظيم، فقد شمل الدين والدنيا، فإن الشريعة أمرت بحقن دماء المسلمين وحفظ أمنهم، وقد اضر هؤلاء بالدين ضررا بالغا، فطمسوا حسنه وبهاءه وشوهوا أمام العالمين صورته.

ولا شك أن من حذر من الخوارج وهو مقتف للسنة صالح القصد مأجور عند الله، فإن السلف رحمهم الله قد بينوا أن الرجل إذا أدى النوافل والرغائب من صلاة وصيام وقراءة للقرآن فهو على خير، لكن نفعه قاصر على نفسه، أما إذا حذر من أهل البدع وبين ضلالهم وسوء صنيعهم، فإن نفعه متعد للمسلمين، فهو قامع لشوكة أهل البدع، راد عن السنة تعديهم على حرماتها وانحرافهم عن سبيلها.

وهنا على صاحب الحق والذاب عن حياضه أن لا يغفل عن أمرين اثنين، وهما من الأخطاء التي نتجت عن سوء الفهم للدين، وقد يلبس بهما الشيطان على بعض المسلمين، فإنه لا يبالي بهم في أي أودية الضلالات هلكوا.

أولهما: أن إئمة الدين وعلماءه لما كانوا يقولون: إن الرد على أهل البدع أعظم عند الله من صيام النهار وقيام الليل، لا يقصدون ما قد يعن للأذهان ويسبق للخواطر من التهوين من قدر هذه الطاعات أو التقليل من شأنها.

وهذا الغلط في فهم الشريعة وهذا الخلل في فهم تقريرات العلماء، أوقع بعض المسلمين في التهوين من شأن العبادة والتضييع لمواسمها والتفريط في الإقبال على الله بمحابه ومراضيه، فصاروا من المضيعين للعبادة والمفرطين في اغتنام أعمارهم واستدراك ما فات من أوقاتهم في التعبد وتزكية النفوس، وهم يحسبون أن هذا أمر جاء به الشرع وأقره، وهذا غلط على الشريعة وسوء تقدير للمنقول عن أئمتها.

وقد كان علماء السلف ورؤوسهم أكثر الناس تعبدا وإقبالا على الله ومبادرة إلى القربات والطاعات مع اشتغالهم بالعلم النافع ومراغمة أهل البدع، فإنهما أمران لا يتناقضان إلا عند من قصر علمه وقل فهمه.

ثانيهما: أن الأحاديث المتظاهرة المحذرة من الخوارج الذين يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم نصت على كثرة تعبدهم وصلاتهم وصيامهم وقراءتهم للقرآن، والمقصود من هذا أن لا يغتر المسلم بكثرة تعبدهم وأثر طول العبادة في نحول أجسادهم وتغير ألوانهم، فيقع في بدعتهم ويسلك طريقتهم منخدعا بمقولاتهم مفتونا بصلاحهم وطاعاتهم الظاهرة.

لكن من قليلي البضاعة في فهم هذه الأخبار والآثار من قد يتجافى عن محاب الله ومراضيه، فيقل نسكه وينقص تعبده، فلا يكثر من الصلاة ولا من الصيام ولا من قراءة القرآن لكونها ارتبطت في ذهنه ومخيلته بالخوارج، فيفوت على نفسه أجورا عظيمة وخيرات كثيرة.

والدين الذي أكمله الله لعباده وأتمه ورضيه لهم، بريء من هذا الفهم الأعوج والنظر القاصر لحقائق الشريعة ومقاصدها، فإن الشريعة جاءت بالأمر بإحسان العمل أي أن يكون العمل على السنة كما في قوله تعالى: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة : 112]

فإسلام الوجه لله يكون بتوحيده وإخلاص العمل له، والإحسان يكون بلزوم السنة وعدم الابتداع في الدين.

وأمرت الشريعة بالإكثار من الطاعات والتزود منها والمسابقة إليها والحث على استدراك الأعمار والأوقات في صنوف القربات والمبادرة في فعل الخيرات، قال الله تعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض ِ) [سورة الحديد : 21]

وقال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضَُ) [سورة آل عمران : 133]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا. رواه مسلم

وقد أخبر الله تعالى وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن من عمل من الخير مثقال ذرة أو تصدق بشق تمرة فإن الله يحصيها له ويوفيه أجورها ويضاعفها له يوم القيامة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصلاة والصيام وقراءة القرآن ويقوم الليل حتى تتفطر رجلاه، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول له شفقة عليه ومحبة له: أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا !

ويكثر الصيام أياما متوالية حتى يقول أصحابه ومن حوله لا يفطر، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قراءة القرآن وتدبره ومدارسته معتنيا به معظما لشأنه، حاضا أصحابه وأمته على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.

وقد كان الصحابي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله مرافقته في الجنة، فيقول له: أعني على نفسك بكثرة السجود.

وكان الصحابي يجيء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله عن أفضل العمل فيدله على الصيام، ويقوله له: عليك بالصوم فإنه لا مثل له.

وأخبر أن أعظم السبل لمدافعة الفتن والنجاة من دعاتها الفرار إلى الله، وملازمة التعبد والإكثار منه، فقد جاء في صحيح مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عبادة في الهرج كهجرة إلي.

وقد أمرنا الله بالتأسي بنبيه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [سورة اﻷحزاب : 21]

فرغب النبي صلى الله عليه وسلم أمته في العبادة وحضهم على الإكثار منها والمسابقة في ميادينها، وحبب أصحابه رضي الله عنهم فيها، فكانوا رهبانا بالليل صواما بالنهار، لعلمهم بفضل الله عليهم وجزيل نعمته لهم وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في شكره تعالى وبالغوا فيه، ليؤدوا بعض حقَّه؛ فكانوا على عقيدة صحيحة وسنة متبعة ومنهج سديد في التعبد والسلوك والتزكية.

كتبه محمد بن علي الجوني

13صفر 1436


شارك المحتوى: