العقل السقيم [رد على من زعم أن أحاديث صوم عاشوراء تخالف العقل]


العقل السقيم

[رد على من زعم أن أحاديث صوم عاشوراء تخالف العقل]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فقد وصلني من بعض إخواني في الكويت مقطع، عليه شعار صحيفة المال، وفيه لقاء مع (محمد عبد الله نصر) أنكر فيه مشروعية صيام يوم عاشوراء، وذكر أن عاشوراء أكذوبة، وأن الحديث في صيامه مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقد بنى هذا الإنكار على عقله المريض، وماذا نصنع به إن كان عقله هذا؟! ولو لا مخافة الاغترار به، ممن لا يعرف السنن، ولا يعرف حال المذكور في العلم، لما كتبت هذا، فالله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وإليك أيها القارئ الكريم بيان بطلان قوله على وجه الإيجاز:

أولا: أحاديث صيام يوم عاشوراء ثابتة من وجوه كثير في الصحيحين وغيرهما، بل قد بلغت مبلغ التواتر، فقد خرجه البخاري ومسلم من: حديث عائشة، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وأبي موسى الأشعري، وابن مسعود، وسلمة بن الأكوع، والرّبيّع بنت معوذ، وأخرجه مسلم من حديث أبي قتادة، وجابر بن سمرة.

فهؤلاء عشرة من الصحابة -رضي الله عنهم- رووا صيامه، في أصح الكتب بعد كتاب الله! فضلا عما في السنن والمسانيد والمعاجم والمصنفات.

ثانيا: وبناء على ثبوته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعله، وترغيبه في صيامه بقوله، فقد اتفق العلماء -رحمهم الله- على مشروعية صيامه، كما حكاه: ابن عبد البر، وابن رشد، وابن هبيرة، والقاضي عياض، وغيرهم.

ثالثا: بنى هذا القائل كلامه على أربعة أمور، دالة على جهله، وسفه عقله، وضعف بصيرته في الأدلة الشرعية رواية وفقها، وإليك هذه الأمور وردها:

1- زعم أن القول بهذه الأحاديث يعني جهله صلى الله عليه وسلم أن هذا اليوم يوم عيد عند اليهود، وأن هذا اليوم هو الذي نجّى الله فيه موسى من كيد فرعون، بدلالة سؤاله لهم عن صيامهم لهذا اليوم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: (قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، فرأى اليهودَ تصومُ عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، نَجَّى اللهُ فيه موسى وبني إِسرائيل من عدوِّهم، فصامه…).

وجوابه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى اليهود تصومه فسألهم عن السبب أو الحال، ولم يسألهم عن الحكم؛ لأنه كان يعلمه قبلهم، والدليل على هذا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه قبل هجرته إلى المدينة، كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه).

2- زعمه أن القول بهذه الأحاديث معناه أنه -صلى الله عليه وسلم- أصبح تابعا لليهود وليس متبوعا لهم؛ إذ صامه معهم.

وجوابه: أن هذا كلام من لا يعرف ما يخرج من رأسه، فحاشاه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون تابعاً لغيره، بل هو المتبوع شرعا لازما، وحُكما مُحكما. وقد تقدم في حديث عائشة ما يدل على بطلان هذا الزعم الفاسد، ويؤكد ذلك حديث ابن عباس -رضى الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم: (ما هذا اليوم الذى تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه؛ فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال -صلى الله عليه وسلم- : فنحن أحق وأولى بموسى منكم. فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه). متفق عليه واللفظ لمسلم. فهو تَبِع موسى -عليه السلام- في صيامه، وقد قال تعالى -لما ذكر جملة من الأنبياء- : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقد يكون ذلك من ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- المعلومة عنده-عليه الصلاة والسلام-؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن اليهود والنصارى كانوا يعظمونه، وقريش -كما سبق- كانت تعظمه.

3- زعم أن أول الحديث يتناقض مع آخره؛ إذ إن في أوله أنه سأل السؤال أول ما قدم المدينة، وقال: (لئن بقيت إلى قابل لأُصَومنّ التاسع)، فتوفي -صلى الله عليه وسلم- قبل العام القابل، وزعم أن الأخذ بذلك يفضي إلى أنه مكث في المدينة عاما واحدا فقط، وهذا خلاف المقطوع به من أنه بقي في المدينة أحد عشر عاما.

وجوابه: أن هذا جهل مركب؛ ذلك أن هذه الجملة (لئن بقيت إلى قابل لأُصَومنّ التاسع) ليس في الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالها حين قدم المدينة، مقترنة بسؤاله عن صيام اليهود ليوم عاشوراء، فمن أين جاء بهذا ابن نصر؟!

فالرواية في صحيح مسلم من حديث أبي غطفان قال: سمعت عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: (حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).

ومما يؤكد أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل هذه الجملة أول ما قدم المدينة: أن الذين رووا الحديث من الصحابة لم يذكروها، وإنما جاء ذلك في حديث ابن عباس، مرة مجموعة كما في الرواية التي ذكرتها، ومرة مفردة كما في رواية عبد الله بن عمير في صحيح مسلم.

وما ذكرته هو الذي يوافق هديه -صلى الله عليه وسلم-، الذي بينه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في قوله (الفتح 6/280) : (وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام، أحب مخالفة أهل الكتاب –أيضا- كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذلك، فوافقهم أولا وقال: نحن أحق بموسى منكم، ثم أحب مخالفتهم؛ فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده؛ خلافا لهم).

والحديث الذي أشار إليه هو في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان -صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء..)

4- ما ذكروه أن اليهود خرجوا من المدينة بعد خمس سنوات من قدومه المدينة فكيف سألهم؟

وجوابه: أن السؤال كان في مقدمه للمدينة، وأما المخالفة فكانت في آخر حياته -صلى الله عليه وسلم-.

فهذا جواب مختصر عن هذا الكلام الساقط، الأجنبي عن العلم، المفرط في الجهل، الذي لا يصدر إلا عن جهل مركب، وعقلٍ لا يعقل.

وأذكر القارئ الكريم بأن ما استنتجه هذا الجاهل يعني تسفيه عقول الأمة بعلمائها على مرّ هذه القرون المتطاولة، فقد رووا هذه الأحاديث ولم ينكروها، وعملوا بها، ودعوا إليها، كما يتضمن الطعن في أصح كتابين بعد كتاب الله، بإجماع العلماء: صحيح البخاري، وصحيح مسلم!

نسأل الله أن يصلح حالنا وحاله، ويفقهنا في الدين، ويعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

كتبه/ عبد العزيز بن محمد السعيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

4/ 1/ 1436هـ

لقراءة المقال بصيغة pdf

http://islamancient.com/ressources/docs/732.pdf


شارك المحتوى: