أسامة بن زيد رضي الله عنهما وموقفه من الفتن (ولكنَّ هذا أَمْرٌ لم أَرَهُ)


أسامة بن زيد رضي الله عنهما وموقفه من الفتن (ولكنَّ هذا أَمْرٌ لم أَرَهُ)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، أما بعد:
فقد رأى أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما الاعتزال وعدم المشاركة فيما وقع في موقعتي الجمل وصفين، لكراهيته قتل المسلمين. فقد روى البخاري في صحيحه (7110) قال: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان قال: قال عَمْرو: أخبرني محمد بن علي ان حَرْمَلَةَ مولَى أسامة أخبره، قال عمْرو: وقد رأيت حرملة قال: أرسلني أسامةُ الى علي وقال: انه سيسألُكَ الآن فيقول: ما خَلَّفَ صاحبك؟ فَقُلْ له: يقول لك: لو كُنْتَ في شِدْقِ الأسَدِ، لأَحْبَبْتُ ان أكون معك فيه، ولكن هذا أَمْرٌ لم أرَهُ. فلم يعطني شيئاً، فذهبت الى حسن وحسين وابن جعفر فأَوْقَرُوا لي راحلتي.
فوائد:
-1 ذكره محمد بن اسماعيل البخاري في كتاب الفتن من كتابه الصحيح.
-2 وتلك اشارة منه رحمه الله الى ترجيحه لاعتزال الفتن ومواقع القتال.
-3 أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان ابن زيد بن حارثة من الموالي، وعاش حتى جمع الموالي، فحرملة كان مولى لأسامة بن زيد.
-4 وفيه خلق الحسن والحسين وابن جعفر.
-5 الحرص على الوصية مع حسنها، فأوصاه بما هو في حاجة له، ويعينه على قضاء أمره. كان أسامة بن زيد رضي الله عنهما في المدينة. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة. وأرسل أسامة حرملة من المدينة الى علي في الكوفة، وأوصاه، بما توقع ان يُسْأَلَ عنه .وكان يسأل مالاً من بيت المال وهذا مقصد الرحلة.
قال الحافظ في الفتح (6/13): قوله: «وقال انه يسألك الآن فيقول: ما خلَّف صاحبك الخ» هذا هيَّأَهُ أسامة اعتذاراً عن تخَلُّفه عن علي، لعلمه ان علياً كان يُنكرُ على من تخلَّفَ عنه، ولاسيما مثل أسامة، الذي هو من أهل البيت، فاعْتَذَرَ بأنه لم يتخلف ضنَّاً منه بنفسه عن علي ولا كراهة له، وأنه لو كان في أشد الأماكن هولاً، لأحبَّ ان يكون معه فيه، ويواسيه بنفسه، ولكنه انما تخلَّف لأجل كراهيته في قتل المسلمين، وهذا معنى قوله: «ولكنَّ هذا أَمْرٌ لم أَرَهُ».

(نصح الولاة بالسر وليس علانية)
قال أسامة بن زيد رضي الله عنه: «أترون أني لا أُكلمه الا اسمعَكم»، لقد استقر عند السلف مما عرفوا من شرع الله ان نصح الولاة والانكار عليهم لا يكون الا سراً، فلا يباشرون اثارة الفتنة بالانكار علانية.
وقد روى البخاري (7098)، ومسلم (2989/ 51) في «صحيحيهما» من طريق الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: قيل لأسامة: ألا تُكَلّم عثمان؟- وفي رواية: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟-، فقال: أَتَرون أَني لا أُكَلّمَهُ، الا اسمعَكُم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون ان أَفتتح أمراً، لا أُحِبّ ان أكون أَوَّل من فتحه.
وفي رواية للبخاري في الصحيح (3267): «اني أُكَلّمه في السرِّ دون ان أفتح باباً، لا أكون أَوَّلَ من فتحه».
قوله: «والله لقد كلمته فيما بيني وبينه»، وفي رواية: «اني أُكَلّمه في السر»: وفي هذا بيان حرص الصحابة على ان الانكار على الولاة لا يكون الا سراً، فلا يفتحون باباً يوغر صدور الراعي والرعية، ويؤلب الناس على الولاة، ويمهد الأمر للجرأة على الحاكم، ونزع هيبة السلطان من قلوب العوام، فتتسع الفجوة بين الراعي والرعية.
قوله: «ما دون ان أفتتح أمراً، لا أحب ان أكون أول من فتحه»: فيه دلالة على أنه هذا الأمر وهذه الطريقة في الانكار لم تكن مسلكا لأحد من الصحابة رضي الله عنهم، من غير أسامة بن زيد.
فلم يفتح هذا الباب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الا ما علم من فعل ذي الخويصرة التميمي أمام جمع من الصحابة وَأُنْكِرَ عليه فعله المخالف هذا.
ولم يفتح باب الانكار العلني على ولاة الأمر في عهد أبي بكر الصديق رضي الله. وكذلك لم يُثر هذا الأمر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال ابن بطال في «شرح صحيح البخاري» (56/10): يريد، لا أكون أوَّل من يفتح باب الانكار العلني على الأئمة علانية، فيكون باباً من القيام على أئمة المسلمين، فتفترق الكلمة، وتتشتت الجماعة، كما كان بعد من تفرق الكلمة، بمواجهة عثمان بالنَّكير.
وقال ابن حجر في «الفتح» (51/13): قوله: (قد كلمته مادون ان أفتح بابا)، أي: كلمته فيما أشرتم اليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السرّ، بغير ان يكون في كلامي ما يثير الفتنة.
والحمد لله رب العالمين

د.عبدالعزيز بن ندى العتيبي
www.ahlalathar.com


شارك المحتوى: