مركز (الحرب الفكرية) و حدّ الردة


سم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد:

فرأيت تغريدات في حساب مركز الحرب الفكرية عن حد الردة ، استنكرتها كثيرًا ، لأنها تحمل أفكارًا دخيلة ، وعن منهج أهل السنة غريبة ، وللأدلة الشرعية مخالفة ، وللإجماعات الكثيرة مناطحة ، وإنما تُعرف هذه الأفكار عن العقلانيين والإخوان المسلمين كالقرضاوي ، والترابي ، ومحمد عمارة ، والسويدان .. وأمثالهم ممن غلو في الحرية وجعلوها مقدمة على الشريعة.

وذلك أن حد الردة مجمع عليه وتوارد علماء المذاهب الأربعة على ذكره في كتبهم ، وذكروا باب حكم المرتد ، وهذا ما عليه العلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ، وعليه علماؤنا المعاصرون كالعلامة محمد بن إبراهيم –رحمه الله تعالى- ، والعلامة عبدالعزيز بن باز –رحمه الله تعالى- ، والعلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- ، وعلى هذا سماحة المفتي العام -وفقه الله- ، والعلامة صالح الفوزان -وفقه الله- .

وهذا ليس غريبًا منهم ، لأن الإجماعات متواردة على بيان أن الرجل إذا ارتدَّ فإنه يُقتل لمجرد ردته لا لشيء آخر بخلاف المرأة فقد خالف أبو حنيفة، والجمهورُ على خلاف قوله وليس منزع أبي حنيفة كمنزعهم لذا وافق غيره في قتل الرجل المرتد.

ومن الأدلة على قتل المرتد ما يلي:

أولًا/قال تعالى: {يحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [التوبة : 74] .

قال ابن جرير-رحمه الله- في تفسيره (11/ 575) : “يعذبهم عذابا موجعا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذبهم في الآخرة بالنار” .

وذكر مثله غيرُه من المفسرين كابن كثير-رحمه الله-

ثانيًا/ أخرج البخاري ( 3017 ) عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من بدل دينه فاقتلوه» ، أي من غير دينه من دين الإسلام إلى غيره فاقتلوه

ثالثًا/ أخرج البخاري (6923) ومسلم (1733) أن مُعاذًا أتى أبا موسى فإذا هو جالس في فِنَاء قبَّتِهِ، وإذا يهوديّ قائماً عنده، يريد قتله، فقال: يا أبا موسى، ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم، ثم رجع إلى يهوديته، فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاءُ الله ورسوله ثلاث مرات فقتله.

رابعًا/ الإجماع فقد أجمع عليه أهل العلم على قتل المرتد وممن حكى الإجماع ابن عبد البر في كتابه (التمهيد [5 / 319] ) ، و(الاستذكار [7 / 154] ) ، وابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع [ 1 / 127] ) ، والنووي في (شرحه على مسلم [12 / 208] ) ، وابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام [2/ 217] )، وابن حجر في (فتح الباري [12 / 202] ) ، وغيرهم من العلماء .

إلى غير ذلك من الأدلة والإجماعات.

وقد رأيت في تغريداتهم أمورًا مستنكرة ، أذكر بعضها على عجالة سريعة بما يتناسب مع هذا الرد المختصر وإلا تتبع تغريداتهم يطول لأن فيها تقرير ما يهول :

الأمر الأول: قالوا : كثر الجدل قديمًا وحديثًا في حد الردة ، فيقال : أما الجدال في حد الردة قديمًا فلا يُعرف عن أهل السنة ، ولا عن علماء المذاهب الأربعة ، أما حديثًا فنعم ، عُرف عن العقلانيين وعن الإخوان المسلمين ، وغيرهم ممن زاغ عن الصراط المستقيم ، أما أهل السنة فلم يخالفوا في حد الردة ولم يحصل جدل بينهم لا حديثًا ولا قديمًا .

الأمر الثاني: قالوا : غلا الإرهابيون في حد الردة فاحتجنا إلى أن نضبط ذلك ، فيقال : إن الإرهابيين والخوارج الضلال الهالكين المارقين قد غلوا في أشياء كثيرة من الدين ، غلوا في الجهاد ، وغلوا في كره الكافرين ، وغلوا في إقامة الحدود الشرعية المنصوصة في الكتاب والسنة ..إلى غير ذلك ، فهل معنى هذا أن نُغلق هذا الباب أو أن نسير فيه سيرًا يخالف ما جاءت به الأدلة وما عليه سلف هذه الأمة ؟ كلا ! ، وإنما ينبغي أن تُضبط بالأدلة الشرعية ، فإذا غلا قوم وجفا آخرون فليثبت أهل الحق على الصراط المستقيم ، كما قال سبحانه : {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153] .
روى العسكري (المقاصد الحسنة [ 1 / 332] ) عن الأوزاعي أنه قال : ما من أمرٍ أمرَ الله به ، إلا وكان للشيطان فيه نزغتان ، إما إلى غلو وإما إلى جفاء ولا يُبالي بأيهما ظفر ، فأهل الحق ثابتون على الحق ، لا يبالون بمن هلك غلوًا أو جفاءً ، وليس معنى وجود من غلا أو من جفا أن نُغير الحق أو أن نحاول أن نجعله على صورة يتوافق مع واقع يصلح أن نرضي به الغربيين و الكافرين ، أو أن نسير على ما يسير عليه العقلانيون أو الإخوان المسلمون الضالون الهالكون .

الأمر الثالث: قالوا في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه : «التارك لدينه المفارق للجماعة» (مسلم [1676] ) ، جعلوا هذا الحديث مفسرًا لحديث : «من بدل دينه فاقتلوه» (البخاري [3017] ) ، وهذا خلاف صنيع أهل العلم ، فإن أهل العلم فسروا هذا الحديث وهو : «التارك لدينه المفارق للجماعة» بحديث : «من بدل دينه فاقتلوه» ، كما صنع ذلك جمع ، وممن صنع ذلك ابن رجب رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم [1 / 318-319] ) .

الأمر الرابع: أنهم أرادوا أن يجعلوا المفارق لدينه والتارك للجماعة ، موجبًا للقتل لأنه استعمل السلاح وحارب ..إلى غير ذلك في مفارقة الجماعة وليس السبب الردة ، فيُقال : هذا خلاف فهم أهل العلم ، فإن أهل العلم اختلفوا في فهم هذا الحديث ، هل التارك لدينه قسم ، والمفارق للجماعة قسم ؟ فيكونان قسمين:

الأول: يُقتل لأنه تارك لدينه ، أي مرتد .

الثاني: يُترك لأنه مفارق للجماعة ، كالخوارج ونحوهم ، ومنهم من قال حتى أهل البدع ، كما ذكر ذلك القاضي عياض في شرحه على مسلم .

أو أن قوله : «التارك لدينه المفارق للجماعة» قسم واحد ، وهو وصف لكل مرتد ، فإن كل مرتد قد ترك دينه وفارق جماعة المسلمين في دينهم ، كما صنع هذا جمع من أهل العلم كما ذكر ذلك ابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام [2 / 217] ) ، وابن رجب –رحمه الله- في كتابه (جامع العلوم والحكم [1 / 318-319] ) ، الحافظ ابن حجر في (فتح الباري [12 / 201] ) ، وغيرهم .

فإذن : سواء كان التارك لدينه صنفًا مستقلًا والمفارق للجماعة صنفًا مستقلًا ، أو كانا صنفًا واحدًا فإن أهل العلم لا يتنازعون في أن المرتد يُقتل لأنه مرتد ، ولو لم يُشهر سيفه ولم يفرق جماعة المسلمين ، خلافًا للإخوان المسلمين والعقلانيين ، وللأسف وقع في ذلك (مركز الحرب الفكرية) لما حاولوا أن يجعلوا سبب قتل هؤلاء أنهم أرادوا أن يفارقوا الجماعة ..إلى غير ذلك ،وهذا خطأ قطعًا ، وينبغي أن نسير على ما سار عليه علماء المسلمين ، لا أن نسير على ما سار عليه العقلانيون وأذنابهم من الإخوان المسلمين ..إلخ .

الأمر الخامس: قالوا : لو كان حد المرتد حدًا لما أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة ، يقال : هذا خطأ ، فالعلماء متواردون على أن حكم المرتد القتل ، ودونكم كتب أهل العلم ، والحد قد يُسقط لمصلحة راجحة ، ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه أسقط قطع يد السارق في عام المجاعة (مصنف عبدالرزاق [10 / 242 “18990”] ) ، (أعلام الموقعين [ 3 / 17] ) وقد أشار لهذا التأصيل أيضًا في كتابه زاد المعاد(3/236) وقرر مثل هذا ابن تيمية في كتابه الصارم المسلوم في مواضع منها(1/237)
إذن قد يُسقط الحد لمصلحة راجحة ، وإسقاطه لمصلحة راجحة لا يتنافى مع كونه حدًا ، خلاف ما قرره القائمون على (مركز الحرب الفكرية) .

وأخيرًا : أرجو من القائمين على مركز الحرب الفكرية أن يستعينوا بالموثوقين من أهل العلم والمعرفة في طرح أفكارهم حتى لا ينحرفوا عن ما قامت عليه هذه البلاد الطيبة دولة التوحيد والسنة السعودية أعزها الله بالتوحيد والسنة ، وألا يسلكوا طريقًا مخالفًا لما عليه أهل السنة ، فقد بدأوا بداية قوية في نصر السنة والسلفية والكلام على الإخوان المسلمين الضلال -وهم مشكورون في ذلك- ، لكن هذه التغريدات خالفت ما قامت عليه هذه الدولة المباركة التي أعزها الله بفضله وكرمه بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى- ، وبنصرة الإمام محمد بن سعود -رحمه الله تعالى- ، ثم باستمرار هذه الأسرة المباركة ، إلى أن منَّ الله علينا بمن له فضل كبير علينا بعد الله بالملك المصلح المجدد عبدالعزيز -رحمه الله رحمة واسعة- ، حتى أسس هذه الدولة الثالثة ، وله فضل علينا وعلى كثير من المسلمين في نشر الخير ونشر السنة في بلادنا وفي كثير من بلاد المسلمين ، ثم سار على ذلك أبناؤه الملوك من الملك سعود -رحمه الله- إلى ملكنا وخادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله- وأيده ونصره بالتوحيد والسنة .

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يهدينا وإياهم وجميع المسلمين لما يحب ويرضى ،وأن يجعل هذه زلة ، ولكل جواد كبوة ، وأن يرجعوا لما بدأوا به وأرادوا أن يسيروا عليه من حرب الأفكار الدخيلة على بلادنا وعلى منهج أهل السنة .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

د. عبدالعزيز بن ريس الريس

المشرف العام على شبكة الإسلام العتيق

1439-3-14هـ


شارك المحتوى: