فضل الجمعة وظاهرة التأخر عنها


الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ; فَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِعِبَادِهِ، وَأَمْرَهُمْ بِالْمُسَارَعَةِ فِيهَا، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، أَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ; كَتَبَ الْأُجُورَ الْعَظِيمَةَ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ; رَحْمَةً بِنَا، وَإِحْسَانًا إِلَيْنَا، وَمُرَاعَاةً لِضَعْفِنَا (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) فَلَهُ الْحَمْدُ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، كَمَا أَثْنَى هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ; لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا).

عبادَ اللهِ: إن من نعم الله العظيمة، وأفضاله الجسيمةِ على هذه الأمة المباركة؛ أن هداها إلى يومِ الجمعة، وأضل غيرها من الأمم، قال ﷺ: «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، هَدَانَا اللَّهُ لَهُ، وَضَلَّ النَّاسُ عَنْهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هُوَ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ»، قال ابن رجب: “المراد: أنهم أوتوا الكتاب ثم فُرض عليهم يومُ الجُمُعَة فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فالناس لنا فيه تبع”.

أيها الناس: إن يوم الجمعة يوم عظيم جليل، فهو أفضلُ الأيام وأعظمُها عند الله تعالى قال ﷺ: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وقال ﷺ: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ»، وفيه ساعة الإجابة قال ﷺ: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، وفيه تُكَفَّرُ السيئات قال ﷺ: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى»، والصدقة فيه أفضل من الصدقة في غيره كما ذكره أهل العلم؛ فبهذا وغيره استحقَّ أن يكون يومُ الجمعة عيدَ الأسبوع؛ لمِاَ اجتُمِعَ فيه من الفضائل ما لم يَجْتَمِعْ في غيره؛ ولهذا يُكره إفراده بالصيام قال ﷺ: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ».

عباد الله: إنَّ خصائصَ يومِ الجُمُعَةِ كثيرةٌ؛ وما ذلك إلا لشريف قدره وعظيم أمره، وإن من أعظم ما اخُتُصَّ به؛ شهودُ صلاته والتبكيرُ إليها وخطرُ التخلف عنها، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ)، وقال ﷺ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ»، وقال ﷺ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ»، وقال ﷺ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»، وقال ﷺ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ المَلاَئِكَةُ، يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (سَارِعُوا إِلَى الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِالْقُرْبِ عَلَى قَدْرِ سُرْعَتِهِمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدْ أُحْدِثَ لَهُمْ)، فتأمل يا عبد الله كم من الخيرات، ومغفر السيئات في يوم الجمعة، وانظر لحالك في الحرص عليها والمسارعة إليها، وراجع منزلتَها في قلبك، وقدرَها في نفسك، واعلم أن قربَ منزلتِك من الله تبارك وتعالى في الجنة تكون بقدر منزلتِك يومَ الجمعة، والعاقل لا يفوِّت هذه الفضائل العظيمة، ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ).

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرِّحِيمُ.

 

الخُطْبةُ الثَّانيةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله، وعظموا ما عظم الله ورسوله ﷺ، واشكروه تعالى على ما هداكم إليه، وأضل غيركم عنه، وقوموا بحقه على الوجه الذي يرضيه عنكم، فالسعيدُ من وفَّقَهُ الله لطلب مرضاتِه، والمسارعةِ في طاعاتِه، والشقيُّ من أضلَّهُ الله بسبب غَفَلاتِه وعدمِ التوبة من سيّئاتِه.

أيها الناس: كانَ المسلمون إلى عهدٍ قريب يُسارعون في الحضور لصلاة الجمعة، ويملؤون المساجدَ بوقت مبكر، وأَمَّا اليوم فقَلَّ مَنْ يعملُ بذلك، فنرى كثيراً من الناس لا يدرك تقريب دجاجة ولا بيضة، ومنهم من لا يحضر المسجد إلا وقد طوى الملائكةُ صحفَهُم، وهذا حرمانٌ عظيم، ونقصٌ كبير، بل يبلغ التفريطُ ببعضهم أن تفوتَهم صلاةُ الجمعة إما نوماً، أو خروجاً إلى متنزهاتٍ وحدائقَ لا يخرجون إليها إلا يوم الجمعة، والناس في مساجدهم يسألون ربهم، وربما كان أحدُهم في بيته، وهو بجوارِ المسجد ولا يقومُ إلى الصلاةِ إلا عندما يدخُلُ الإِمامُ، يخشى أن يُمضيَ شيئاً من الوقت في المسجد قبلَ حضورِ الإمام، وهو لا يأنَسُ بجلوسهِ في المسجد، بل ربما اعتبر ذلك حبساً، ولا يدري أنَّهُ مطلوبٌ منه التبكيرُ والانتظارُ، وأنَّ صرفَ الوقتِ في ذلك من أفضلِ الأعمال، ولا يدري أنَّ الخُطُبةَ من الذكر الذي أمرَ الله بالسعي إليه في قوله: (فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ)، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان، فألله ألله عباد الله بهذه الشعيرة العظيمة، احْرُصُوا عليها، وبَكِّروا إليها، وتهيئوا لها، فإنها فريضة من فرائض الله تعالى، وشعيرة من شعائره، شرعها لتقربَكُم إليه، ولتكون زيادة في حسناتكم، ورفعة لدرجاتكم، وتكفيراً لخطاياكم، وكم نقارف من الذنوب والعصيان خلالَ سبعةِ أيام، والجمعة إلى الجمعة مكفرة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.

نسألُ اللهَ أن يحيِيَ قلوبنا، وأن يزكِيَ نفوسنا، وأن يطهِّرَ أخلاقنا، وأن يرزقنا حسنَ الاستعداد ليوم المعاد، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، وترك المنكرات؛ إنه سميع مجيب الدعوات.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ / اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم بإحسان إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ / اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين / اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين / اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والربا والزنا والزلال والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين / اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم أجمعين اللهم أجزهم عنا خير الجزاء يا كريم اللهم اجمعنا بهم وبأحبابنا في الفردوس الأعلى يا رب العالمين / (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ).


شارك المحتوى:
1