الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبْتَلَى بِهِ النَّاسُ أَنْ تُزَيَّنَ لَهُمُ الْإفسادُ بِاسْمِ الْإِصْلَاحِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَهِيَ فِي حَقِيقَتِهَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادٌ لِلْعِبَادِ.
عِبَادَ اللَّهِ:
لَقَدْ كَثُرَتْ فِي زَمَانِنَا دَعَوَاتٌ إِلَى الْمُظَاهَرَاتِ وَالْمَسِيرَاتِ وَالِاعْتِصَامَاتِ، يَدْعُو إِلَيْهَا أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْخَيْرَ بِزَعْمِهِمْ، فيَغْتَرُّ بِهَا عَوَامُّ النَّاسِ، وتارةً يغترُ بها الشبابُ دونَ غيرِهم وَهُمْ المُسَمَّوْنَ بِجِيلِ (زد) وَهِيَ فِي حَقِيقَتِهَا خلافَ ذلكَ، بَلْ تَشْتَمِلُ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ وَمَخَاطِرَ جَسِيمَةٍ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا لأسبابٍ:
الأولُ: ِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ، فَالْمُظَاهَرَاتُ وَسِيلَةٌ دَخِيلَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَعْرِفْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ، وَلَا دَعَا إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلَا إِظْهَارَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْجَمَاعِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، بَلْ يَرَوْنَ النَّصِيحَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْأُسْلُوبِ الشَّرْعِيِّ، والصبرَ على ظلمِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تَجُرُّ الْفِتَنَ وَتَفْتَحُ أَبْوَابَ الشَّرِّ، كَمْ مِنْ بَلَدٍ خَرَجَ فِيهِ النَّاسُ فِي مُظَاهَرَاتٍ يَطَالِبُونَ بِالْحُقُوقِ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ، وَانْهَارَتِ الدُّوَلةُُ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَهُتِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَتَمَنَّى النَّاسُ حَالَهُمُ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانُوا يَشْكُونَ مِنْهُ! والواقعُ خيرُ شاهدٍ، ومنْ قلبَ البصرَ والفكرَ فيمنْ حولَهُ وجدَ ذلكَ ظاهرًا جليًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسْتَفِيدَ مِنْهَا هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، إِنَّ الْغَرْبَ الْكَافِرَ، وَأَجْهِزَةَ الِاسْتِخْبَارَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، تُدَاعِمُ هَذِهِ الْمُظَاهَرَاتِ وَتُخَطِّطُ لَهَا وَتَبُثُّهَا عَبْرَ الْإِعْلَامِ؛ لِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهَا معولُ هْدِمٍ للْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الدَّاخِلِ.
وَمَا جَمَاعَةُ الْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَأَشْبَاهُهُمْ إِلَّا أَدَوَاتٌ تُسْتَعْمَلُ لِتَأْجِيجِ الشُّعُوبِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُنجحونَ مَشَارِيعَ الْغَرْبِ دُونَ أَنْ يَشْعُرُوا.
الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَمَرَتْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لَا بِالْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ إِذَا نَزَلَتْ بِنَا الشَّدَائِدُ أَوْ أَصَابَتْنَا الْفِتَنُ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَثُورُ، وَلَا يُشَاغِبُ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، كَالتَّوْحِيدِ، وَأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَدَفْعِ الزَّكَوَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، كَالشِّرْكِ مِنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، أَوْ تَقْدِيمِ النُّذُورِ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَوِ السِّحْرِ، وَتَرْكِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالظُّلْمِ، وَالرِّبَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43].
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: 94-95].
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أما بعد:
فإِنَّ الْأَمْنَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا، وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِهَا التَّحْرِيضُ وَإِثَارَةُ الْفِتَنِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» رواه مسلم.
وَالْمُظَاهَرَاتُ الْيَوْمَ إِنَّمَا هِيَ وَسِيلَةُ تَفْرِيقٍ وَتَخْرِيبٍ، تُضْعِفُ الْأُمَّةَ وَتُفْرِحُ الْعَدُوَّ، وَتُحْزِنُ الصَّدِيقَ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاحْذَرُوا دُعَاةَ الْفِتْنَةِ، وَكُونُوا مِمَّنْ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ،
وَيَثْبُتُونَ إِذَا اضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْإِصْلَاحَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا بِالصَّخَبِ وَالْهَتَّافَاتِ.
أَيَّتُهَا الْمُسْلِمُونَ: اعْتَبِرُوا وَأَفِيقُوا وَاسْتَفِيدُوا مِنَ الْمَاضِي، فَلَقَدْ قَامَتْ ثَوْرَاتٌ فِي بِلاَدِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فَلَمْ يَسْتَفِدِ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا، فَقَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَامَتْ ثَوْرَةٌ عَلَى الْمَلَكِيَّةِ طَلَبًا لِلْجُمْهُورِيَّةِ، فَسَاءَتِ الْحَالُ أَكْثَرَ وَتَمَنَّى الْعُقَلَاءُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَقَبْلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَامَتِ الثَّوْرَاتُ الْمُسَمَّاةُ بِالرَّبِيعِ الْعَرَبِيِّ فَلَمْ يَسْتَفِدِ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا، بَلْ زَادَ حَالُهُمْ سُوءًا، وَمَا كَانُوا يَشْتَكُونَ مِنْهُ صَارُوا يَتَمَنَّوْنَهُ الْيَوْمَ، إِنَّ لِلْإِصْلَاحِ بَابًا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَأَكَّدَتْهُ التَّجَارِبُ وَالْوَقَائِعُ، فَمَنْ لَمْ يَسْلُكْهُ لَمْ يَحْصُلْ مَبْتَغَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَرْجُو النَّجَاةَ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ،
اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَاشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ،
اللَّهُمَّ احْفَظْ بِلَادَنَا ووُلَاةَ أَمْرِنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ،
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى السِّلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.