الردُّ على إبراهيم البحراني ( 1 )


الردُّ على إبراهيم البحراني

( الشبهة الأولى )

سمِعتُ كلامًا ولا أقولُ مناظرةً قد دارَ بين محمد هايف النائب السابق وبينَ إبراهيم البحراني الشيعي الذي أطلقَ على نفسِه خادمَ أهلِ البيتِ !!!وقد قامَ البحراني بتسجيلِ ما دارَ بينهما ــ وهذا دأبُهم ـ من غير أن يعلم مُحمد هايف ظانًا منه أنَّه انتصرَ على الحقِّ، أو نالَ بُغيتَهُ، وكانَ الكلامُ يدورُ حولَ عمرَ ــــ رضي الله عنه ــــ كعادَتِهم، وأهمُّ ما دار بينهما:
ما قالَه عمرُ ـــ رضيَ اللهُ عنه ـــ : ” إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ ” فإبراهيمُ البحراني يسألُ مُحمد هايف: هل قولُ عمرَ موجودٌ بالبخاري أم غيرُ موجودٍ ؟ وهو يريدُ من سُؤالِه التوصُّلَ إلى أنَّ عمرَ اتَّهمَ النبيَّ ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ أنه غلبَه الوجعُ، وذلك ليصرفَه عن الكتابةِ حينما أرادَ أنْ يكتبَ كتابًا لا يَضلُّوا بعدَه ، ولي ــــ على ما عَلِقَ في قلبِ إبراهيم البحراني من السوءِ لِعمرَ ـ عدَّةُ وقفات .

الوقفةُ الأولى :
أقولُ له: نعم الحديث في البخاري وهو صحيح لا مطعنَ فيه ، وهذا نصُّه : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ . رواه البخاري 

الوقفة الثانية :
لا بُدَّ أن نعلمَ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم يُحبُّونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويَفدُونه بكل ما يملكون من غالٍ ونفيسٍ فهو أحبُّ إليهم من آبائهم وأمهاتِهم وأبنائهم ومن أنفسِهم فهم يُشفقون عليه أيَّمَا إشفاقٍ ولما وقعَ زيدُ بن الدَّثِنَّةِ أسيرًا في يد كفار قريش وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ . وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ – قبل أن يسلم – فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قَدِمَ لِه أَنْشُدُك اللّهَ يَا زَيْدُ أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنّك فِي أَهْلِك ؟ قَالَ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي . قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا ؛ ثُمّ قَتَلَهُ 0راجع سيرة ابن هشام .
فزيد أقلُّ منزلةً من أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ فإذا كان هذا موقِفُه من حبِّ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ــ فما بالُك بهؤلاءِ ثم إنَّ هؤلاءِ الأربعةَ تربطهم مع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ علاقةُ نسبٍ وليست علاقةَ دينٍ فحَسْب ، فقد تزوجَ رسولُ الله ابنةَ أبي بكرٍ وابنةَ عمرَ وزوَّج عليه السلام ابنتَه رقيةَ لعثمانَ، وبعد موتها زوَّجه ابنتَه الثانيةَ أمَّ كلثومٍ وزوَّج رسولُ الله عليَّ بنَ أبي طالبٍ فاطمةَ رضي الله عنهم أجمعين ، فهؤلاء أشدُّ الناسِ حُبَّا لرسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحدَ من المسلمينَ يشكُّ في ذلك، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فأيُّ قولٍ صدرَ من أحدِهم يجب أن يُحملَ على مَحملٍ حسنٍ، وللهِ الحمدُ لا يُوجَدُ أحدٌ من المسلمين يُحمِّلُ كلامَ أحدٍ من الصحابةِ سوءًا إلا من كانَ في قلبه مرضٌ ، وأشدُّ الناسِ بُغضًا للصحابة ــــ لا سيما أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ــ هم خدامُ وأحفادُ أبي لؤلؤةَ المجوسيِّ الفارسيِّ وعبدِ اللهِ بنِ سبأ اليهودي، وهذا هو النوبختي من علماء الشيعة في أواخر القرن الثالث ـــ وهو أقرب إلى عهد الصحابة والتابعين ممن جاء بعده ــــ له كتابٌ أسماه فِرق الشيعةِ يقولُ فيه : أوَّلُ مَنْ طعنَ في أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ هوَ عبدُ اللهِ بنُ سبٍأ اليهودي .

الوقفة الثالثة:
البحراني وقبله الرافضةُ حملُوا قولَ عمرَ على أسوأ المحاملِ
فقد قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ ) رواه البخاري 0 قالت الرافضة : إنه يريدُ أنْ يَصْرِفَ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ــ عن الكتابةِ وعن ولايةِ عليٍّ ـ رضي اللهُ عنه ــــ ، وأهلُ السنةِ : حَمَلُوا كلامَ عمرَ : غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا ، لم يكنْ هذا الكلامُ مُوجَّهًا للنبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــ حاشا وكلا ، ولفظُ الوجعِ من عمرَ لرسولِ اللهِ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ليس فيه منقصةٌ له ، وإنما قال عمرُ ذلك للطائفتين لما كَثُر الكلامُ والنزاعُ واللغطُ وهم بشرٌ وليسوا بملائكةٍ وقد رأى عمرُ أن المرضَ اشتدَّ بالنبيِّ ــ صلى الله عليه وسلم ـــ فيَشُقُّ عليه إملاءُ الكتابِ أو مُباشرةُ الكتابةِ، أو أنَّه يقتضي التطويلَ وأرادَ أنْ يُخفِفَ عن رسولِ اللهِ ــــ صلى اللهُ عليه وسلم ــــ وجَعَه لأنَّ ابنَ عباسٍ ــــ رضي الله عنه ــ وهو من آلِ البيتِ قال: ” لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ ـــ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـــ وَجَعُهُ ” فالوجع اشتدَّ عليه وبانَ ، فعمرُ قالَ هذا القولَ شفقةً ورحمةً برسولِ اللهِ، وأنه آثرَ جانبَ الصِّحةِ على الكتابةِ وأنَّ الرسولَ ـــ صلى اللهُ عليه وسلم ـــ سيكـتبُ ما بدا لهُ عندما يُشفَى من وعكَتِه ، ولأنَّ عمرَ لا يظنُّ أنَّ رسولَ الله ـــ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـــ سيموتُ بدليلِ أنه لمَّا ماتَ النبيُّ ـــ صلى الله وسلم ــــ بعد ذلك بأيامٍ لم يُصِّدقْ عمرُ ، وأنكرَ عَلى من قالَ ماتَ ، فهو من شِدةِ الصدمةِ والفاجعةِ وحبِّه للنبيِّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم يكن مصدِّقًا الخبرَ، وهذا دليلٌ واضحٌ أنَّ عمرَ لما قالَ: ” غلبَهُ الوجعُ ” أرادَ الشفقةَ برسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ــ وأن يخففَ عنه وجَعَه الذي اشتد عليه ، ولئلا يتأذى بالكتاب .
فانظرْ أيُّها المستمعُ إلى الفريقين: فريقِ الرافضةِ أرادوا الطَّعنَ والنيلَ والتشفِّي من عمرَ، وفريق أهلِ السُّنةِ حملُوا كلامَه على محملٍ حسنٍ، وهذا هو الظنُّ الحسنُ المطلوبُ من المؤمنِ للمؤمنِ ، ونظيرُ ذلكَ أنَّ أهل السنة حملُوا قولَ عليٍّ ــ رضي الله عنه ـــ حينما استشارَه النبيُّ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في حادثةِ الإفكِ أحسنَ المحاملِ، ولم يحمِلُوا قولَ عليٍّ على أنه مبغضٌ لعائشةَ وفي نفسِه شيءٌ من حادثةِ الإفكِ حينما قال عليٌّ : لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ 0 قال أهل السنة : آثر عليٌّ ــ رضي الله عنه جانبَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لما رآه مغتمًّا، مع ما يعلم من شدةِ غَيرتِه – صلى الله عليه وسلم -، فرأى أنه إذا فارقَها سكنَ ما عِندَه، ثم راجَعَها عندَ تحقُقِ براءَتِها، ولم يُرِدْ بقوله ذلك عيبًا ولا نقصًا وقالوا أيضًا : رأى انزعاجَ النبيِّ ــ صلى الله عليه و سلم ـــ بهذا الأمرِ فأرادَ راحةَ خاطِرِه، وكان ذلكَ أهمَّ من غيرِه 0 فانظرْ أيُّها المسلمُ كيف حمل أهلُ السُّنةِ قولَ عمرَ: غلبَهُ الوجعُ، وقولَ عليٍّ للنبي في حادثةِ الإفكِ: لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ ، فأهلُ السُّنةِ يُدركونَ تمامًا أنَّ هناك أحكاماً وأحداثاً منها ما يكونُ واضحاً وهو المحكمُ لا يخفَى على كثيرٍ من الناسِ ، ومنها المتشابهُ الذي يشتبِه على كثيرٍ من الناسِ، ويحملونَ المتشابهَ على المُحكَمِ، وأمَّا الرافضةُ فيأخذونَ المتشابِهَ، ولا يحملُونَه على المُحكَم ؛ لأنَّ قلوبَهم فيها مرض وزيغ ، فيُثيرونها لأجلِ الفتنةِ وتفريقِ المؤمنينَ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ )

الوقفة الرابعة :
يمتنعُ غايةَ الامتناعِ أنَّ اللهَ ـ جلَّ وعَلا ــ يُريدُ بيانَ حكمٍ يُكمِلُ به الدينَ، ويَأمُرُ نبيَّه بتبليغِهِ ، وتأتي إرادةُ عمرَ فتمنعُ من ذلك قالَ تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) .

الوقفة الخامسة:
هل كانَ الذي سيُبلِّغه النبيُّ ــ صلى اللهُ عليه وسلم ــ أمراً لازماً واجباً حتما لابُدَّ منه، بهِ يَتِمُّ الدينُ وبهِ تكمُلُ الشريعةُ ؟ إذا قُلنا: نَعَمْ هو أمرٌ لازمٌ وواجبٌ لابُدَّ منه والنبيُّ ــ صلى الله عليه وسلم ـــ لم يُبلغه.
مَعنى ذلكَ أنَّ النبيَّ ـــ صلى اللهُ عليه وسلم ـــ ماتَ ولم يَتِمَّ الدينُ ولم تكتَمِلْ الشريعةُ، ولم يبلِّغْ ما أُنزِلَ إليه من ربِّه، ولا شكَّ أن هذا القولَ فيه تكذيبٌ للقرآنِ من وجهٍ، وطعنٌ في النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـــ من وجهٍ آخرَ، ولا يقولُ به عاقلٌ فضلًا عن مؤمنٍ لأنَّ اللهَ ـ سبحانه وتعالى ــ يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية : فلو كانَ ما يكتبُه في الكتابِ مما يجبُ بيانُهُ وكتابتُه لكانَ النبيُّ ــ صلى اللهُ عليه وسلم ــ يُبيِّنه ويكتبُه ولا يلتفِتُ إلى قولِ أحدٍ) . فالآيةُ نصٌ صريحٌ على أنَّه لا أحدَ من الناسِ ــ مهما كان منزلته ـــ يستطيعُ أن يمنعَ رسولَ اللهِ ـــ صلى عليه وسلم ـــ من تبليغِ ما يريدُ لأنَّ اللهَ أمرَهَ بذلك، وعصَمَه من الناسِ والآيتانِ صريحتانِ في أنَّ اللهَ ـــ جل وعلا ـــ قد أتمَّ الدينَ، وأنَّ الرسولَ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قد بلَّغَ جميعَ ما أُنزِلَ إليه.

الوقفة السادسة :
عمرُ ــ رضي اللهُ عنه ــ وغيرُه من الصَّحابةِ فَهِموا أنَّ الأمرَ لا يعدُو كونَه إرشادًا ونصحًا وتذكيرًا لِما سَبقَ بيانُه من النبي ، وليسَ مما يجبُ بيانُه وكتابتُه، ومما يدلُ على أنَّ أمرَ الرسولِ ـــ صلى الله عليه وسلم ــ بالكتابةِ كانَ على وجهِ الاختيارِ وليس الوجوب عدةُ أوجُهٍ :
الوجه الأول :
لو كانَ الأمرُ الذي أرادَ الرسولُ ـــ صلى الله عليه وسلم ــ كتابتَه مما لا يستغنون عنه، لم يتركُه لأجلِ اختلافِهم ولَغَطِهم؛ لقوله تعالى : ( أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وقد أخرجَ البُخاريُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }.
الوجه الثاني :
عمرُ ــ رضي الله عنه ــ يُدركُ أنَّ اللهَ ــ عزَّ وجل ــ أتمَّ دينَه وأكمَلَه على أحسنِ وجهٍ، وأنزلَ هذه الآيةَ قبلَ موتِ نبيِّه بثلاثةِ أشهُرٍ في حَجَةِ الوداع لقولِه تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) بل إن أعداءَ الأمةِ من اليهودِ وغيرِهم يُدركونَ أنَّ الدينَ الذي جاء به الرسولُ ــ صلى الله عليه وسلم ـــ قد تمَّ واكتملَ على أحسنِ وجهٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا }قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ .
الوجه الثالث :
عمرُ رضي الله عنه يُدركُ أنَّ النبيَّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ قبلَ موتِه بثلاثةِ أشهرٍ في حَجَّةِ الوداعِ قد أتمَّ تبليغَ الرسالةِ، وتأديةَ الأمانةِ ونُصحَ الأمةِ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه كما جاءَ في حديث جابرٍ( وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَد اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ) أخرجه مسلم وأيضا هذا الحديثُ أخرجه المجلسيُّ ـــــ وهو من علماءِ الشيعةِ ــــ في بحار الأنوار ، وفي البخاريِّ من حديثِ ابنِ عمرَ في حَجَّةِ الوداعِ ( أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثًا ) .
الوجه الرابع :
عمرُ رضي اللهُ عنه حينما قالَ عند تنازعِ الطائفتينِ غلبَهُ الوجعُ (وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا ) كان موجِهًا خطابَه للطائفتين، كأنَّه يقول لهم : دَعُوا رسولَ اللهِ ــ صلى الله عليه وسلم ــــ يرتاح حسبُنا كتابُ اللهِ، وكرِهَ أنْ يُكلِّف النبي صلى عليه وسلم نفسَه ما يشق عليها، وعمرُ في تلك الحالة مستحضرًا قولَه تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) وقولَه تعالى: (وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ومُستمسكًا بوصيةِ رسولِ اللهِ ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ التي أوصاهم بها في حَجَّة الوداع قبل مرضه بثلاثة أشهر فقد قالَ لهم من حديثِ جابرٍ ( وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ ) و ــــ هذا اللفظُ عندَ الشيعةِ في كتابِ بحارِ الأنوار للمجلسي ــــ فعمرُـــ رضي الله عنه ـــ يدرك إدراكًا جازمًا أن النبيَّ ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ قد بلَّغ الرسالةَ وأتمَّها في حَجَّةِ الوداعِ، وأمرَهم بالاعتصامِ بكتابِ اللهِ ـــ عزَّ وجلَّ ـــ ؛ لأنَّ فيه الهُدى والرَّشاد قال تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) 0هذه الوجوه الأربعة وغيرُها مما سبق جعلت عمر ــ رضي الله عنه ـــ وغيرُه من الصحابةِ يفهمونَ أنَّ الأمرَ لا يعدو كونَه إرشادًا ونصحًا وتذكيرًا، وليسَ مما يجبُ بيانُه وكتابتُه ، وأنَّ أمرَ الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بالكتابة كان على وجه الاختيار وليس الوجوب .

الوقفة السابعة :
قولُه صلى الله عليه وسلم نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) ذهب الرافضةُ إلى تفسيرِ كلمة ” لا تَضِلوا بعده ” بالمعنى العام وهو الكُفرُ الذي هو ضدُّ الإيمانِ، وهذا تفسيرٌ خطأ ، ومعلومٌ أنَّ الضلالَ يُطلَق ويُرادُ به معانٍ مختلفةٌ منها:
أولا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به الخطأ ضلّ فلان منزله إذا أخطأه لا تَضِلوا معناها: لا تُخطِئوا 0
ثانيا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به الغفلةُ لا تَضِلوا معناها: لا تغفَلُوا.
ثالثا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به الجهلُ لا تَضِلوا معناها: لا تَجهَلُوا.
رابعا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به ذهابُ الشيءِ وغيابُه لا يَضِلُّ لا يغيبُ
خامسا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به الحَيرةُ .
سادسا : يُطلَق الضلال ويُرادُ به الترددُ ويدخلُ في هذه المعاني قولُه تعالى: ( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ) وقولُه تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) ضالٌ ليس معناها فاسق، بل معناها أنَّه كان جاهلاً لا يدري قال تعالى: { وكذلك أوحينآ إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وقوله تعالى: ( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) من الجاهلين أي كنتُ أجهلُ .
سابعا: يُطلَق الضلال على الْغَيْبُوبَة وَالِاضْمِحْلَال، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا غَابَ وَاضْمَحَلَّ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ ، إِذَا غَابَ فِيهِ وَاضْمَحَلَّ ، وَلِأَجْلِ هَذَا سَمَّتِ الْعَرَبُ الدَّفْنَ فِي الْقَبْرِ إِضْلَالًا ; لِأَنَّ الْمَدْفُونَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ فَيَغِيبُ فِيهَا وَيَضْمَحِلُّ .
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ) يَعْنُونَ: إِذَا دُفِنُوا وَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، فَضَلُّوا فِيهَا، أَيْ: غَابُوا فِيهَا .
ثامنا : يُطلَق الضلال ويُرادُ به الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) 0
تاسعا: يُطلَق الضلال ويُرادُ به النسيانُ لقوله تعالى ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ) أن تضل إحداهما أن تنسى .
إذن الضلالُ له معانٍ متعددٌة ، فيُحمَل قولُه صلى عليه وسلم (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ ) قد يراد به لا تغفَلوا ولا تنسوا وكأنه يريد من ذلك تذكيرًا بأمر يخصُّه بمزيدِ عنايةٍ مع أنه قد أشار إليه صلى الله عليه وسلم فيما سبق بقولِه أو بفعلِه أو بتقريرِه لأنَّه مِن المعلومِ أنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قد بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ولم يَكتُمْ شيئًا مما أنزَلَه الله عليه .

الوقفةُ الثَّامنةُ :
أجمعَ أهلُ السُّنةِ والشِّيعةِ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاشَ بعدَ ذلك الوجعِ أربعةَ أيامٍ ـ أصابَهُ الوجعُ يومَ الخميسِ وماتَ بأبي هو وأمي يوم الإثنين ـ ولم يأمرهُم بإعادةِ الكتابةِ في أثناءِ تلك الأيامِ حينَما وجدَ من نفسِه خِفَّةً، فخرَجَ بينَ رجلين للصلاةِ وصلَّى بالمسلمين، ولو كانَ واجبًا لم يتركْهُ لاختلافِهم فدلَّ ذلكَ على أنَّ أمرَهُ بالكتابةِ كانَ للاختيارِ والندبِ وليس للوجوبِ ، وأنَّ عمرَ أرادَ أنْ يُخَفِفَ عن رسولِ اللهِ ، ولهذا لم يُعاتِبْ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرَ حينما رآه بعد ذلك ، بل إنَّ كُتبَ الشيعةِ تَنُصُّ على أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرضَ عن كتابةِ الكتابِ ولم يَتَطرقْ إليه، ولو كانَ يُريدُ من كتابةِ الكتابِ أن يَنُصَّ على ولايةِ عليٍّ لبيَّنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما دخلَ عليه عليٌّ بنُ أبي طالبٍ والعباسُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ والفضلُ بنُ العباسِ، بل أمرَهُم بالتمسُّك بكتابِ اللهِ وهذا ما ذكرَهُ علماءُ الشيعةِ في كُتُبِهم كالشيخِ المفيدِ في كتابهِ الأمالي والمجلسي في كتابهِ بحارِ الأنوارِ وغيرِهما من علماءِ الشيعةِ وإليكَ الروايةَ نصًّا من كُتبِ الشِّيعةِ ، فعن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ قال: إن عليَّ بنَ أبي طالبٍ والعباسَ بنَ عبدِ المُطَّلب والفضلَ بنَ العباسِ دخلُوا على رسولِ اللهِ في مرضِهِ الذي قُبِضَ فيه فقالوا: يا رسولَ اللهِ هذه الأنصارُ في المسجد تبكي رجالُها ونساؤُها عليكَ فقال: وما يُبكيهم قالوا: يخافونَ أن تموتَ، فقال: أَعطُوني أيديَكم فخرجَ في ملحفَةٍ وعِصابَةٍ حتى جلسَ على المِنبَرِ فحمَدَ اللهَ وأثنى عليهِ، ثم قالَ أمَّا بعدُ أيُّها الناسُ أَلا إِني لاحقٌ بربِّي، ثم قالَ : وقد تركتُ فيكم ما إنْ تمسكتُم به لن تَضِلُوا كتابَ اللهِ تعالى بينَ أظهُرِكم تقرؤونه صباحًا ومساءً فلا تنافسُوا ولا تحاسدُوا ولا تباغضُوا، وكونُوا إخوانًا كما أمرَكُم اللهُ وقد خلَّفتُ فيكم عترَتي أهلَ بيتي وأنا أُوصيكم بهم، ثم أُوصيكم بهذا الحيِّ من الأنصارِ إلى آخرِ الحديثِ ) فلم يتطرَّقْ إلى ما هَمَّ من كتابةِ الكتابِ 

الوقفة التاسعة:
وَلي أنْ أسألَ هل كانَ عليٌّ ـ رضي اللهُ عنه ـ حاضراً وموجودًا في هذه الحادثة أم لا ؟ الجوابُ نَعَمْ كانَ حاضرًا وهذا بالاتفاقِ ولا خلافَ عندَ الجميعِ ( أهلِ السنةِ والشيعةِ و أحفادِ أبي لؤلؤة المجوسي وأحفادِ عبدِ اللهِ بنِ سبأ اليهودي ) أنَّ عليًّا رضيَ الله عنه كان حاضرًا إذن لماذا لم يكتبْ عليٌّ ـ رضي اللهُ عنهُ ـ ولماذا لم يَذهبْ بنفسِهِ ويحضر الكتابَ والقلمَ ويكتب ؟ ولماذا لم يقلُ: قُلْ يا رسولَ اللهِ ما شئتَ فنحنُ نحفظُ ؟ كلُّ هذا وذاك لم يصدرْ من عليٍّ رضي اللهُ عنه، ولا من غيرِه من عظماءِ الصَّحابةِ مع وجودِهِم وقدرَتِهم، وهذا إن دلَّ إنما يَدُلُّ على إقرارِهم، وأنَّهم فهِموا كما فهِم عمرُ أنَّ أمرَ الرسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالكتابِ لا يَعْدُو كونَه إرشادًا ونُصحَاً وتذكيرًا، وليس مما يجبُ بيانُه وكتابتُه، وأنَّهم آثروا جانبَ صحتِه على الكتابةِ .

الوقفة العاشرة:
ما هو هذا الأمرُ الذي أرادُ النبيُّ ـ صلى الله عيه وسلم ـ أن يبلِّغَه ويكتبَه ؟ ذهبتْ الشيعةُ أنَّ الذي يريدُ أن يكتبَه ويبلَّغَه ولاية علي ، وذهبَ أهلُ السُّنة أن الذي أرادَ أن يبلِّغَه ويكتبَه خلافةُ أبي بكر قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَقَدْ حَكَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْل الْعِلْم قَبْله أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرَادَ أَنْ يَكْتُب اِسْتِخْلاف أَبِي بَكْر – رَضِيَ اللَّه عَنْهُ – ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اِعْتِمَادًا عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ تَقْدِير اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ، كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابِ فِي أَوَّل مَرَضِه ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَاب وَقَالَ : يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْر – والحديث في البخاري – (عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في مَرَضِهِ « ادْعِى لي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى. وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ ). ثُمَّ نَبَّهَ أُمَّته عَلَى اِسْتِخْلاف أَبِي بَكْر بِتَقْدِيمِهِ إِيَّاهُ فِي الصَّلاة .

الوقفة الحادية عشرة :
قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا ، هذا القول من عمرَ لا يدلُّ على الاستغناءِ عن السُّنةِ كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) لا يدلُ على الاستغناءِ عن السُّنة، وقولِه تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) وقولهِ تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقولهِ تعالى: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) هذه الآياتُ لا تدُلُّ على الاستغناءِ عن السُّنةِ كما أنَّ قولَ عمرَ لا يَدُلُّ على الاستغناءِ عن السُّنة حينما قال ( َوعْندَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا ) وقد ذكرَ المجلسيُّ وهو من علماءِ الشِّيعةِ في كتابهِ بحارِ الأنوارِ حديثًا أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذكرَ كتابَ الله طرفُه بيدِ اللهِ وطرفُه بأيدِيكم فاستمسكُوا به لن تضلوا .

الوقفة الثانية عشرة :
النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصاهُم عند موتِه بالصلاةِ وما ملكتْ أيمانُهم وهذا ثابتٌ عندنا أهلَ السُّنةِ وثابتٌ عندَ الشيعةِ فقد ذكر الكليني وهو من علماء الشيعة في كتابه الكافي ( أنَّ عليًا ـ عليه السلام ـ قالَ إنَّ آخرَ ما تكلَّم به نبيُّكم عليه السلام أنْ قالَ أُوصيكم بالضعِيفين النساءِ وما ملكت أيمانُكم ) الكافي ج 7 ص 51 وذكره المجلسيُّ الشيعيُّ أيضًا في كتابهِ أنوارِ البحارِ وغيرُه ، وهذا يدل أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماتَ ولم يكتُمْ شيئًا، وأنَّ ما أراد كتابته إنما هو من بابِ النّصحِ والتذكيرِ قد أشارَ إليه من قبلُ في أقوالِه وأفعالِه وتقريراتِه، وليسَ واجبًا قالَ النووي: ( اعلمْ أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – معصومٌ من تركِ بيانِ ما أُمِرَ ببيانِهِ وتبليغِ ما أوجبَ اللهُ عليهِ تبليغَهُ) فلَمْ يَقبِضِ اللهُ نبيَه حتى بيَّن لأمتِهِ معالمَ دينِهِ، وأوضحَ لهم سبيلَه ولم يتركْ شيئا تحتاج إليه الأمةُ إلا بيَّنه فقد تركَهم على المحجةِ البيضاءِ ليلُها كنَهارِها لا يَزيغُ عنهَا إلا هالكٌ، فمن زَعَمَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُكْمِل دينَه فقد ردَّ كتابَ اللهِ، ومن ردَّ كتابَ اللهِ فقد كفَرَ 0
الوقفة الثالثة عشرة : قالَ ابنُ عباسٍ (إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ) قالَ ابنُ تيميةَ: فإنَّ ذلكَ رَزِيةٌ في حَقِّ مَنْ شَكَّ في خلافةِ الصِّديقِ وقدحَ فيها إذْ لَوْ كانَ الكتابُ الذي همَّ به أمضَاهُ لكانتْ شبهةُ هذا المرتابِ تَزُولُ بذلكَ ويقولُ خلافتُهُ ثبتَتْ بالنصِّ الصَّريحِ الجَليِّ فلمَّا لم يوجدْ هذا كانَ رَزِيةً في حَقِّهِ من غيرِ تفريطٍ من اللهِ ورسولِهِ، بل قد بلَّغَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ البلاغَ المبينَ وبيَّنَ الأدلةَ الكثيرةَ الدالةَ على أنَّ الصِّديقَ أحقُّ بالخلافةِ من غيرِه وأنَّه المُقَدَّم وليسَتْ هذهِ رزيةً في حقِّ أهلِ التَّقوى الذينَ يهتَدُونَ بالقرآنِ، وإنَّما كانتْ رزيةً في حقِّ مَنْ في قلبِهِ مرضٌ كما كانَ نسخُ ما نسخَهُ اللهُ، وإنزالُ القرآن، وانهزامُ المسلمين يومَ أحدٍ، وغيرُ ذلكَ من مصائبِ الدُّنيا رزيةً في حقَّ مَنْ في قلبِهِ مرضٌ قالَ تعالى: ( فأمَّا الذينَ في قلوبِهم زيغٌ فيتبعونَ ما تشابهَ مِنِهُ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِه) سورة آل عمران. وإن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا .

كتبه الشيخ / فيحان الجرمان


شارك المحتوى: