الاتباع والسنة في طلب العلم الشريف
يشيع بعض المنتسبين للعلم دعوة مفادها أن حث وترغيب الراغبين فيه أي في الاشتغال بالعلم واستفراغ جهودهم وأوقاتهم وأنفاسهم في طلبه وتحصيله هو السبيل القويم وحده لمعرفة الحق والبصيرة به والنجاة من الفتن.
فيعنون في دروسهم ومحاضراتهم بدعوة الطلبة وعامة المسلمين إلى العلم، دعوة مرسلة فضفاضة واسعة، بدعوى أن طلب العلم وحده بعد طول الزمان وكر الأيام وتوالي السنين سيكون ذريعة ورقية إلى معرفة أهل الحق، واللحاق بركبهم، والانضواء تحت رايتهم.
كل هذه دعاوى طيبة في ظاهرها، وشعارات حسنة قشيبة يولع البعض بترديدها وتكرارها وكثرة الطرق على معانيها، لكن الوقائع شاهدة بعدم كفايتها وسلامتها وصحتها من كل وجه حتى يكون سلوك سبيل العلم الشرعي الشريف على اتباع وسنة.
أعني بذلك أننا رأينا من شابت لحاهم واحدودبت ظهورهم وتصرمت أعمارهم وهم مشتغلون بالعلم وتحصيله وبذله والدعوة إليه، فلا يغادرون وقتا من أوقاتهم ولا ساعة من أعمارهم إلا بكتاب يتدارسونه أو متن يحفظونه أو مخطوطة يحققونها أو حاشية يشتغلون بالتعليق عليها.
وهؤلاء العلماء رغم كل هذا النشاط المحموم في العلم والتعليم والحرص على بثه في الناس مع افتراض صدق النوايا وسلامة المقاصد، صاروا في نهاية الأمر علماء سوء ودعاة للبدع وسماسرة للفتنة.
يجب أن نعلم أن أهل القبلة لم يعودوا كما كانوا في أول الأمر على طريق واحد مرضي، وجادة واضحة مستقيمة، ينهلون من معين واحد ويردون من مهيع لا يخالطه كدر ولا يشوب ماءه قذى.
فقد أقحم أهل البدع والضلال في تفاسير القرآن ومصنفات العقائد ودواوين السنة كثيرا من تزويقهم وإفسادهم وأدخلوا في بطونها زيغهم وشبهاتهم، ونشأت بعد ذلك مدارس علمية تتبنى هذا الانحراف وتقعد له؛ وتنافح دونه، فصار لزاما على من تقفر العلم وسعى في طلبه أن يعلم حملة السنة والأثر فيأخذ العلم عنهم، وأن يعرف أهل البدع والأهواء الفاسدة فيتقيهم، ويحذر الانغماس في مشربهم.
إننا نعرف في زماننا هذا من كانوا يحثون الطلبة على الحرص على العلم وكتبوا في ذلك مصنفات سارت بها الركبان، وسعوا في الأمصار لنشر العلم والترغيب فيه، ثم انقلبوا بعد حين دعاة للفتن متنكرين للسنن محاربين لأهلها، حتى أن منهم من صار ينازع في معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ويتهم أئمة الدعوة وأعلامها زورا وبهتانا برأي الخوارج !
فقد تكون الدعوة للعلم إذا لم يدع إليها وفق قانونها الصحيح، أضر على صاحبها من الجهل، وقد كان بعض رؤوس البدع ساعة احتضاره ولحظة مفارقته الحياة، يتمنى أن يموت على دين العجائز !
لأنه يعلم أن ذلك العلم الذي كان يعانيه لا يقرب صاحبه من الله ولا يوصله إلى رضوانه، فكم من علم ضر المشتغل به، وكان بقاء صاحبه على الفطرة السليمة التي فطره الله عليها ولم تخالطها الحوادث والعاديات مع قلة العلم وحسن العمل أولى به وأصلح لخاتمته.
بل إن ممن كان من طلبة العلم ملازما لأهله متتلمذا على شيوخه من رجع للأمة بعد أن اشتد عوده وقوي ساعده ليكتب كتابا سماه: الدامغ في الرد على القرآن!
ومنهم من بز أقرانه في العلم وصار أستاذا واسع الاطلاع في زمانه، ثم نكص على عقبيه فكتب كتابا يدعو فيه المسلمين لارتكاب الفواحش ومقارفة المنكرات، سماه: العالم يعصي لهذا يصنع الحضارات !
ومنهم من انقلب على الحق وحارب دعاته بعد أن كان من المقدمين في قومه، فكتب: المجد للشيطان؛ من قال لا في وجه من قالوا نعم !!
وغير هذا كثير من قوافل الضالين وجحافل الزائغين عن الصراط المستقيم، ممن كانوا يدعون العلم ويحرصون عليه ويشتغلون به ، فكان أخذهم للعلم على غير سنته وجادته السلفية؛ سببا في عطبهم وهلاكهم وسوء صنائعهم.
والمقصود أنه كما نعلم أن السلف الصالح رحمهم الله بعد وقوع الفتنة وظهور قرن البدع كانوا اذا ابتدرهم أحد بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الإسناد واستوضحوا منه عن النقلة، ليأخذوا دينهم عمن استقامت سيرته، وصحت عقيدته، وأمن جانبه.
فكذلك نحن اليوم أحوج ما نكون للرجوع لذلك الأمر العتيق والطريق الصحيح الذي كانوا عليه، فلا نأخذ الدين إلا عمن عرف بالسنة ولزومها والاعتصام بها، حتى تتضح معالم الطريق للسالكين، وتجد قلوب طلابه برد اليقين عند القيام بأداء هذه الفريضة الشريفة والقربة الجليلة التي تواترت النصوص الآمرة بها والحاثة على طلبها على سبيل وسنة.
كتبه محمد بن علي الألمعي
جمادى الأولى 1437