إرجــــاء الإخــــوان المـسـلـمـــين محمد العوضي … أنموذجاً


إرجــــاء الإخــــوان المـسـلـمـــين

محمد العوضي … أنموذجاً

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أما بعد:

فإن مذهبَ المرجئةِ مِن أخبثِ المذاهب التي خَالفت السَّبيلِ، وصَادَمت التنزيلِ، وفُتنتْ بِها الأمةُ، وزادت بأسبِابها الغُمَّة، وهَوّنت مَسالك الكُفْر والعِصيان، وزيَّنت لمن أراد الله ضَلاله اتِّباعَ سُبلِ الشَّيطانِ، وهِي داءٌ خطيرٌ، وشرٌّ مُستطيرٌ؛ قَد أجمعَ السَّلف عَلى التحذيرِ منه، والتنفيرِ عنهُ، وَعَدّوه مِن دَسائسِ اليهود، وَمَكائدِ كلِّ عَدوٍ لدودٍ، حَتى تَسوّر الأعداءُ من خِلاله حصونَ الإسلامِ المنيعة، وشَكَّكوا في ثوابت الدينِ والشّريعة، فلم يجلس الزنادقة على المنابر، ولم تسوّق مقالاتهم بأسمائهم في الدفاتر لما أكرم الله تعالى الإسلام بالحكومة الراشدة، والدولة الإسلامية السعودية العادلة، حتى جعلوا لهم من بين الناس أبواقا، من بني جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، زعموا خدمة الإسلام، وتسنَّموا منابر العلم والإعلام، فدعوا إلى كلّ مذهبٍ خبيث، ونشروا بين الناس مقالات السوء، وهؤلاء هم الأئمة المضلون الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منهم، ومما جلبوه إلى سوق أهل السنة، وأفسدوا به فهوم العامة والخاصة: مذهب الإرجاء، وهو من أقبح المذاهب، قال إبراهيم النَّخَعِيّ: «لفتنتهم يعني المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة» أي الخوارج! فهم والتنظيمات الإرهابية في الفساد والإفساد سواءٌ بل أخطر! وقال الزهري: «ما ابتُدعت في الإسلام بدعةٌ أضرُّ على أهلِه من الإرجاء» وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: «ليس شيءٌ من الأهواءِ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء» وقال شريكٌ القاضي وذكر المرجئة فقال: «هم أخبثُ قوم، حسبك بالرافضة خبثًا، ولكن المرجئة يكذبون على الله» وقال سفيان الثوري: «ترَكَتِ المرجئةُ الإسلام أرق من ثوب سابِرِيّ» أي هزيلٍ رقيقٍ لا تُعظم فيه المحرمات، ولا تُجتنب فيه المنكرات، ويتجاسر بسببه على الُمكفِّرات!

وأنشد ابن أبي داود:

ولا تَكُ مُـرْجِيَّاً لَعُــوبَاً بِـدِينِهِ ألا إنَّما المُرْجِيُّ بالدينِ يَمْزَحُ

ومن دناءة دينِ المرجئةِ أنَّ كثيراً من طوائفِ أهلِ الضَّلالِ يَسلكونه ويدعون إليه، فتجده عند الروافضِ والجهميةِ والصُوفيِّة وخلقٍ كثير، ومن الفرقِ التِّي حَمَلت مَذْهبَ المرجئةِ، ودَعَت إليه، وَرَوَّجَت بِضَاعَتَهُ بالقولِ والعَمَلِ: «فرقة الإخوان المسلمين!» فتساهلوا في كثيرٍ من المكفِّرات، وتجاسروا على أنواعٍ من المنكرات، وعطّلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضيَّعوا الولاءَ والبراء، وقَرَّبوا اليهودَ والنَّصارىَ، بل زعمَ بعضُ أئمتِهم بأنّهم من أهل الجنة! وترحّم على من مات منهم، ولم يفرِّقوا بين الديموقراطية والإسلام، بل قدَّموها –والحرية- عليه، وجعلوا بين الإسلامِ واليهودية توفيقاً وإحسانا، وقرَّبوا ضُلّالَ الروافضِ، وعظَّموا غلاةَ المتصوفَةِ، وأدْنَوا مَلاحدةَ الليبرالية، وَغَضُّوا الطَّرْفَ عن اعْتزالياتِ الغَزَالي، وكُفْريَّاتِ التُرابي، وَعَقْلانياتِ القَرْضَاوي، واعْتِراضاتِ السويدان، وَزَنْدَقاتِ عدنان إبراهيم، فَهُم –وايمُ الله- أهلُ الإرْجَاء، ومن أقْبَحِ طَوائفِ العَصْرِ من أهل البدع والأهواء.

وكان من آخرِ ما سَارَت بهِ ركائبُ الإعْلامِ، وتَناقلاتُه تصاوير الأفلام: مقطعٌ لمحمد العوضي يَحكي فيهِ أنَّ سائلةً سألتُه:

ما ذنب الهندوس والبوذيين والوثنين والناس الذين عقائدهم حتى لو اعترضنا عليها عقليا أنها عقائد فاشلة ما ذنبهم أنهم يدخلون النار بهذه البساطة؟

فقال: قلت لها :من قال لك إن الكفار سيدخلون النار؟

قالت: أليس الكفار سيدخلون النار؟

قلت لها: ومن قال لك إن الكافر سيدخل النار؟

قالت: أليس الذي يموت وهو كافر سيدخل النار؟

قال: قلت لها: ومن قال لك إن من يموت وهو كافر يدخل النار؟

وكانت السائلة الحائرة: أهدى سبيلاً من العوضي! وألزمَ لنصوص الشرع، وأعرف بدلائل الألفاظ منه! فتمسَّكَت بصريحِ مَنطوقِ النصوصِ الشَّرعيةِ المتظافرةِ مِن الكتابِ والسنةِ عَلى أنَّ «الكافرَ» في النّارِ كَما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 39] وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 257] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 116] وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [الزمر: 8] والآيات في المعنى كثيرة، وثبت في “الصحيحين” عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مات يُشْرِكُ بالله شيئاً دخلَ النَّارَ، وقلتُ [أنا] : مَنْ مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» وعند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثِنْتَان مُوجِبَتان» قال رجل: يا رسول الله، ما الموجِبتان؟ قال: «مَن مات يُشْرِك شيئاً بالله دَخلَ النَّارَ، ومَنْ مات لا يُشْرِكُ شيئاً دَخَلَ الجنة».

فالكفرُ موجبٌ لنار جهنم، ومحرِّمٌ على أصحابه دخول الجنة، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72] وقال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف: 50].

وقد صدّر العوضي كَلامَهُ بِذكر سعةِ رحمة الله تعالى وكمالِ عدله، وسبحانه عز وجلّ تمت رحمته، وكَمُل عدلُهُ على الخلق أجمعين؛ عربِهم وعجمِهم، جِنِّهم وإنْسِهم: فأرسلَ الرسلَ، وأنْزَلَ الكُتُبَ، وأقامَ الحُجَجَ، وأظهرَ الدَّلائلَ الدِّينيةِ والكَوْنِيَّةِ عَلى وَحْدَانيتِهِ، وَأخَذَ عَلى عبادِهِ العَهْدَ والمِيثَاقَ بأنْ لا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً، فَلَيْسَ لأحدٍ عَلى اللهِ حُجة بَعد ذلك، كَما قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 165 – 169] فلا يَكفْر بعد ذلك إلا من لم يرد الله تعالى هدايته، ولم يهدِهِ طريقاً إلا طريق جهنم خالداً فيها أبداً (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال: 23] ويوم القيامة يقول الله تعالى لجميع الثقلين -بلا استثناء-: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: 130] فلا ينكر ذلك أحد، بل أقر جميع الكافرين على أنفسهم بالكفر، وشهدوا على ذلك، فقد شملت الثقلين دعوة الرسل، وأتم الله عليهم الحجة، فيقول الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر: 24] وقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36] والعوضي يزعم أن الروم والترك -وهما من الأمم- لم تبلغهم دعوة الرسل! ولم يأتِهم من الله نذيرٌ، ولم تقم عليهم حجة الله! ويجادل الله تعالى عنهم، ويزعُم بأنَّ الله يغفر لهم، وقد أخذَ الله تعالى على نفسه عهداً بأن لا يغفر للمشركين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء: 48] وذلك لأن الله تعالى جمع جميع الخلائق وهم في صلب آدم، وأخذ عليهم العهد والميثاق بأن لا يكفروا بالله ولا يشركوا به شيئاً، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) ثم قطع الله تعالى عنهم الاعتذار بـ:

[1] الغفلة والجهل!

[2] والتقليد والهوى.

فقال: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف: 172- 173].

واحتج اللهُ عليهِم بِهذا العَهْدِ كما احتج عليهم بإرسال الرسل؛ فَثَبت في “الصحيحين”عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يقول لأهون أهل النار عذابا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك» فكلُّ من كفرَ على وجْهِ الأرضِ فَهُو كَافِرٌ بَعْدَ إيمانِهِ بِذلك العَهْدِ، وَشَهادَتِه عَلى نَفْسِه بِه، كما قال تعالى:(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران: 106] وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) [التوبة: 17].

فعجباً للعوضي! تسأله المرأة عن بوذييِّن هندوسٍ ووَثنييِّن! يكفرون بالله تعالى، ثم يزعم أن الله تعالى: يغفر لهم، ويزعم أنهم لا يكفرون حتى يثبت جحودهم للإسلام، وتكذيبهم به! وكل ما يقومون به من كفر، وعبادة غير الله، وإنكار للنبوات والمعاد لم يكن كفراً عنده، وهذا من أبلغ الجهل وأقبح الإرجاء، وقد وَسَم الله الأمم الكافرة السابقة بالكفر، وحكم عليهم بالنار، وحرّم عليهم الجنة، وما للظالمين من أنصار.

واحتج العوضي بكلام للغزالي في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” حيث قسم الغزالي الناس إلى ثلاثة أقسام، فقال الغزالي في نصّ كلامه (ص84): «إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة، إن شاء الله تعالى أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة فإنهم ثلاثة أصناف:

[1] صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلا فهم معذورون.

[2] وصنف ظهر لهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام المخالطون لهم.

[3] وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته ووصفه .. فهؤلاء عندي في محل الصنف الأول…».

ثم ذكر الصنف (ص87) الذي قرع سمعه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: «واشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فادركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضاً مغفور له ثم له الرحمة الواسعة …».

وكلام الغزالي ليس عليه نظام، وفهم العوضي أشد منه سوءً وانحرافا، حيث قال العوضي: «العلماء فرقوا بين بلوغ الرسالة وبين إقامة الحجة … خليني أشرح بالتفصيل من كلام الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” محمد الغزالي لما تكلم عن رحمة الله تعالى وفي هذا الكتاب يقول: لم يسارع إلى التكفير إلا جاهل، محمد الغزالي يقول: الناس أصناف:

[1] صنف لم تبلغهم الرسالة؛ وهؤلاء معذورون لا شيء عليهم أمام الله سبحانه وتعالى.

[2] وصنفٌ بلغتهم الرسالة؛ وقامت عليهم الحجة؛ وشخصت أمامهم البراهين؛ وراوا كل شيء فعرفوا حقيقتها وتنكروا إليها فهؤلاء هم اللي يحاسبون.

[3] صنفٌ بلغتهم الرسالة مشوشة؛ كما قال الغزالي: بلغهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم ولم تبلغه صفته، كسماعنا عن ابن المقفع؛ ونحن صغار، نسمع عنه انه كذاب ودجال ومدعي كذا إلى آخره، فهؤلاء القوم لم تتحرك عندهم دواعي البحث عن الحقيقة، فهم سمعوا عن انسان أنه مدعي للنبوة وأنه كذاب وانه كذا حاشاه؛ فهؤلاء أيضاً يقول أبو حامد- يحملون على الصنف الأول، أيضاً معذورون …».

ثم قال: «شف الروعة يقول بأن أهل الإيمان من كل الأديان والملل، المؤمنون بالله وبالخالق، هؤلاء الذين وصلتهم الرسالة، وأخذوا يبحثون عن الحقيقة للتأكد، وكانوا من أهل الجد والصدق في اكتشاف الحق، هؤلاء إن وافتهم المنية … فهؤلاء معذورون غير مأزورين يلحقون بالصنف الأول المعذور …».

إلى أن قال: «بقي المكابر المعاند المجاحد الذي فرشت له الأدلة ونصبت له البراهين وجاءت الأشعة الساطعة، والكشافات المنيرة، وقالت له: هذا الحق وشافه وعاند، فهذا ينطبق عليه: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33] كفر الجحود والعناد هؤلاء هم الذين يستحقون العقوبة أنهم مكابرون معاندون متنكرون للحقيقة!».

فحصر العوضي الكفر في: «الجحود والاستكبار والعناد» وهذا غيٌّ وضلال، فقد ذكر الله تعالى أمما كافرة بـ«الشك»والريب في قلوبهم، (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: 32] وقال تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف:35-37] فسمى شكّه في قيام الساعة: كفراً.

ومن الكفر: كفر الإعراض! كما قال تعالى:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف:3].

ومن الكفر: كفر الجهل؛ كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام: 111] وقال تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 138، 139].

ومن الكفر: كفر النفاق؛ وإظهار الإسلام وإبطان الكفر بسائر دواعيه السابقة؛ كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون:3].

فليس الكفر محصوراً على التكذيب والإباء والاستكبار والعناد، بل كل ما لا تصح لا إله إلا الله إلا به يقابله كفرٌ بقَدْرِه في الطَّرف الآخر:

فلا إيمان لمن «يجهل» حقيقة لا إله إلا الله وحقه، أو لم «شك» فيها، أو «كذب» في القول بها، أو «أعرض» عن العمل بمقتضاها، أو «رفض» ما جاءت به، أو «كرهها» وكره ما جاءت به، أو «نقضها باتخاذ الشريك لله تعالى» فكلّ هؤلاء كفّار، فلم يكن الكفر محصوراً على العناد والاستكبار والجحود.

والأدلةُ على كفرِ من لم يؤمن بالله تعالى، والنص على استحقاقهم النار كثيرة جداً، تقدم بعضها، سواء بلغتهم الرسالة أم لم تبلغهم، وسواء استبانت لهم كما هي أم حُرّفت ولُبِّس عليهم، فالمشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلغ كثيراً منهم أنه: يقطع الأرحام، ويسفّه الأحلام، وينتهج السحر، وينظم الشعر، ويفرق بين المرء وأبيه، ومع ذلك كفرهم جميعاً وحكم عليهم بالنار، وما كان هذا الظن شافعاً لهم، وروى ابن ماجه (19/ 230) عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: جاء أعرابا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: «في النار» قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما مررت بقبر مشرك، فبشره بالنار».

قال البوصيري في “مصباح الزجاجة” (101-102): «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، محمد بن إسماعيل وثقه ابن حبان والدارقطني والذهبي، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين».

فأين العناد والاستكبار عن هذا؟

ومثله ما ثبت في “صحيح مسلم” (1/ 191) عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: «في النار»، فلما قفى دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار».

فأين الإباء والاستكبار فيهم؟

ومثله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن الصلت وابن جدعان ممن ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنهم في النار.

وسائر الأنبياء بلَغَت أسماؤهم الأُمم، وشوّه المبطلون أوصافهم ونعوتهم! ولم يكن ذلك عذراً لأممهم يدفع عنهم الكفرَ وعذابَ النار، وسخطَ اللهِ والعقوباتِ العاجلةِ، فهذا فرعون يقول لقومه عن موسى: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26] وزعمت ملكة سبأ أن سليمانَ عليه السلام يبتغي الملك عليهم، وقالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34] وأخفت عنهم صفة النبوة! فلم يدفع ذلك الكفر عنها –قبل إسلامها- وعن قومها فقال تعالى عنهم: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) [النمل: 43].

وتوهموا فيهم: الجنون والسحر، والعبث بالأموال (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر: 6] (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) [الزخرف: 49] و(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87] فلم يكن ذلك كلُّه شافعاً لهم حتى لا يوصفوا بالكفر، والحكم عليهم بالنار، فكلّ هذا يكشف بطلان قول الغزالي والعوضي في زعمهم العفو والمغفرة للكفار الذين:

[1] بلغتهم صورة الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مشوهة.

[2] أو أنه بلغهم ذلك وماتوا وهم «يبحثون عن الحقيقة للتأكد، وكانوا من أهل الجد والصدق في اكتشاف الحق» كما يقوله العوضي، وهذا القول من العوضي من فروع أقوال أهل الكلام؛ الذين يرون أن من جاء بالنظر والاستدلال فقد جاء بأول الواجبات عليه، بينما الصحيح أن أولئك الذين بلغتهم دعوة الرسل، ثم تأخروا لنظرهم واستدلالهم لا يزالون في غيهم يترددون، معرضون عن الله، غير مؤمنين به، والواجب عليهم أن يقولوا لا إله إلا الله ويسلموا تسليما، وهم كفارٌ (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون) [الأنفال: 23].

فمن مات على الكفر فهو في النار خالداً مخلداً فيها لمناقضته للفطرة، ومصادمته للعقل، ومخالفته بما جاءت به الرسل، وكلهم من جند إبليس وأتباعه سواء كان ذلك عنادا واستكبارا أو تقليدا وجهلا، أو شكاً وريبة، لا فرق بينهم في ذلك كلّه.

فكان الجواب الصحيح لتلك السائلة أن يقال:

بأن الله تعالى لا يُسأل عما يعمل؛ وأنه حكمٌ عدل، وما ربّك بظلام للعبيد، وأن هؤلاء الذين كفروا ولم يصدقوا بالرسل، لم يسلبهم الله تعالى ما وهب غيرهم من الحواس، وأسباب قبول الحق، بل أقام أمامهم الحجج، وأخذ عليهم العهد والميثاق وهم في صلب أبيهم آدم، وجعل الكون علويه وسفليه آيات ودلائل تدل على ربوبية الله وألوهيته، وفرق ما بين الحق والباطل، وبين من يخلق ومن لا يخلق؛ وبعث في كلّ أمة نذيراً، ثم (اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) [التوبة: 23] و (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة: 16] وكفروا بالله و(اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) [الفرقان: 3] وإلاّ فهل تقبل العقول لو لم يبعث الله الرسول: أن يعبدوا بقرة يأكلونها؟ أو ناراً يورونها؟ فالعقول السليمة تأبى ذلك وترفضه، والفطرة قبل ذلك تنادي إلى خلافه، ثم جاء الرسول تمام الحجة، وأبانوا للناس المحجة، فلا يزيغ عنها بعدهم إلا هالك، ولا يُحرم من سبيلهم إلا مخذول لم يرد الله تعالى هدايته، والله يفعل ما يشاء ويختار.

ويقال لها:

إنما هو التوفيق والإنعام من الله تعالى؛ فعندما هداكِ الله لم يكن بذكائك، وإنما هو فضل الله عليك، فمنهم من هم أذكى منك، وآتاهم الله علوما وما آتاهم فهوما، وأعطاكم ذكاء وما وهبهم زكاء، وجعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة (لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف: 26] فصرف عن الهدى أبا جهلٍ وأبا لهب وكفار قريش! وساق إليه سلمان الفارسي تطوى به الديار حتى دخل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة وآمن به، هذا (فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].

وختــــــامـــاً:

يجدر التنبيه إلى أن أهل العلم والفضل في كلَّ مكان، والمؤسسات الدينية الموثوقة كهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لا يضيق عطنهم –إن شاء الله- من استقبال الأسئلة كيف كانت، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم بصنوف من الأسئلة عن المحسوسات والغيبيات، وما ينبغي السؤال عنه وما لا ينبغي، فأجاب في ذلك كله، وأرشد الجاهل، ونبه الغافل، وأثبت لطالب الحجة، وأزال الشبهة، وعلّم وأدّب عليه الصلاة والسلام، فما نقله العوضي بأن السائلة: «طالبة جامعية من دولة خليجية، وخافت تسأل بعض الشخصيات أو بعض المؤسسات ظناً منها أنها توصف بالكفر والردة ومن ثمّ ما يترتب على ذلك!!» ليته أزال عنها تلك الفرية الشيطانية التي يحجب بها الشيطان الناس عن العلماء، كي لا تقع هي وغيرها فريسة بأيدي الجهال الذين ضلّوا وأضلوا عن سواء السبيل.

تم بحمد الله وعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

بدر بن علي بن طامي العتيبي

الطائف، ضحى يوم الأحد 6/ جمادى الآخرة/1438هـ.


شارك المحتوى: