أتاكم شهر البركات
الحمد لله ، والصَّلاة والسَّلام على رسوله ومُصطفاه ٬ أما بعد : فإن الفرح بقدوم شهر رمضان المبارك ٬ وتهنئة الناس بذلك ٬ لَمِن الإيمان الذي يرجو به صاحبه النَّجاح والفلاح في الدَّارين
قال اللَّه تعالى : { قل بفضل اللَّهِ وبرحمتِه فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يَجمعون }
قال الإمام الطَّبري رحمه اللَّه : فإنَّ الإسلام الَّذي دعاهُم إليه ، والقرآن الَّذي أنزلَه عليهم خيرٌ ممَّا يَجمعون من حُطام الدُّنيا وأموالِها وكنوزِها .
[ تفسير الطبري (15/105) ]
وقال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه : وإنَّما أمر اللَّهُ تعالى بالفرح بفضلِه ورحمتِه لأنَّ ذلك ممَّا يُوجبُ انبساطَ النَّفْسِ ونشاطَها ، وشكرَها للَّه تعالى ، وقوَّتَها ، وشدَّةَ الرغبةِ في العلم والإيمان الدَّاعي للازدياد منهما .
وهذا فرح محمودٌ ؛ بخلاف الفرح بشهوات الدُّنيا ولذَّاتِها ، أو الفرحِ بالباطل ؛ فإنَّ هذا مذمومٌ .
[ تيسير الكريم الرحمن (366) ]
وقد كان النَّبيُّ ﷺ يُبشِّر أصحابَهُ بقُدوم الشَّهر المبارك فيقولُ لهم : أتاكم رمضانُ شهرٌ مباركٌ ؛ فرضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليكم صيامَهُ ٬ تُفتح فيه أبوابُ السَّماء ؛ وتُغلق فيه أبواب الجحيم ؛ وتغلُّ فيه مَردةُ الشَّياطين ؛ للُّهِ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهرٍ ٬ مَن حُرم خيرَها فقد حُرِم .
[ صحيح سنن النسائي (2106) ]
قال بعض العلماء : هذا الحديث أصلٌ في تهنئة النَّاس بعضهم بعضًا بشهر رمضان ٬ كيف لا يُبشَّر المؤمنُ بفتح أبواب الجِنان ؟ كيف لا يُبشَّر المذنبُ بغلق أبواب النِّيران ؟ كيف لا يُبشَّر العاقلُ بوقتٍ يُغَلُّ فيه الشَّياطين ؟ من أين يُشبهُ هذا الزَّمان زمان ؟!
[ لطائف المعارف (148) ]
جاء شهر الصيام بالبركات
فأكرم به من زائر هو آت
ومن عظيم هذا الشهر قول النَّبيِّ ﷺ : إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضان صُفِّدت الشَّياطين مَردة الجنِّ ؛وغُلِّقت أبواب النَّار فلم يُفتح منها بابٌ ؛ وفُتحت أبواب الجنَّة فلم يُغلق منها بابٌ ؛ ويُنادي مناد : يا باغيَ الخير أَقبل ٬ ويا باغيَ الشَّرِّ أَقصر ٬ وللَّهِ عُتقاءُ من النَّار [ وذلك كلَّ ليلة ] .
[ صحيح ابن خزيمة (١٨٨٣) والزيادة في صحيح سنن الترمذي (٦٨٢) ]
قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه : صُفدِّت : أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال .
[ فتح الباري (4/114) ]
وقال القرطبي رحمه اللَّه : فإنْ قيل : كيف نرى الشُّرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا ؛ فلو صُفِّدت الشَّياطين لم يقع ذلك ؟! فالجواب :
١) أنَّها إنَّما تقلُّ عن الصَّائمين الصَّوم الَّذي حُوفظَ على شروطِهِ ، ورُوعيت آدابه .
٢) أو المصفَّد بعض الشَّياطين ٬ وهم المردَةُ لا كلُّهم ، كما تقدَّمَ في بعض الرِّوايات .
٣) أو المقصود تقليلُ الشُّرور فيه ، وهذا أمرٌ محسوسٌ ؛ فإنَّ وقوعَ ذلك فيه أقل من غيره ؛إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شرٌّ ولا معصيةٌ ؛ لأنَّ لذلك أسبابًا غير الشَّياطين ، كالنفوس الخبيثة ، والعادات القبيحة ، والشَّياطين الإنسيَّة .
ثم عقب الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله : وقال غيره في تصفيد الشَّياطين في رمضان إشارةٌ إلى رفع عُذرِ المكلَّف ، كأنَّه يُقالُ له : قد كفَّت الشَّياطين عنك فلا تعتلَّ بهم في ترك الطَّاعة ، ولا فعل المعصية .
[ فتح الباري (4/114-115) ]
وقال الطِّيْبي رحمه اللَّه : يا طالبَ الثَّواب أقبل هذا أوانُكَ ؛ فإنَّك تُعطى ثوابًا كثيرًا بعمل قليلٍ ، وذلك لشرف الشَّهر ؛ ويا مَن يشرع ويسعى في المعاصي تُب وارجع إلى اللَّه تعالى ، هذا أوانُ قَبول التَّوبة ، وللَّه عُتقاءُ من النَّار ، لعلَّكَ تكون من زُمرتهم .
[ شرح المشكاة (5/1576) ]
ومن عظيم فضل ركن الصِّيام أنَّ اللَّهَ جلَّ وعلا جعل لأهله بابًا يَلِجونَ منه إلى جنَّته .
قال ﷺ : إنَّ في الجنَّة بابًا يقال له الرَّيانُ يدخلُ منه الصَّائمونَ يوم القيامة ٬ لا يدخلُ منه أحدٌ غيرهم .
[ متفق عليه (1896) (1152) ]
قال المهلَّبُ رحمه اللَّه : إنَّما أفردَ الصَّائمينَ بهذا الباب ليُسارعوا إلى الرِّيِّ من عطش الصِّيام في الدُّنيا ، إكرامًا لهم واختصاصًا ؛ وليكون دخولُهم في الجنَّة هيِّنًا غير مُتزاحم عليهم عند أبوابها ؛ كما خَصَّ النَّبيُّ أبا بكر الصِّدِّيق ببابٍ في المسجد ، يقرُب منه خروجُه إلى الصَّلاة ، ولا يُزاحمه أحدٌ ، وأغلق سائرها إكرامًا له وتفضيلا .
[ شرح البخاري لابن بطال (4/15) ]
ولا أدلَّ على عظيم فضل الصَّوم من قول النَّبيِّ ﷺ : كلُّ عمل ابن آدم يضاعفُ الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف ؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ : إلَّا الصَّوم ؛ فإنَّه لي ، وأنا أجزي به ؛ يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي ؛ للصَّائم فرحتان : فرحةٌ عند فِطره ؛ وفرحةٌ عند لقاء ربِّه .
[ صحيح مسلم (1151) ]
قال الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه : فتكون الأعمال كلُّها تُضاعفُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلَّا الصِّيام ؛ فإنَّه لا يَنحصرُ تضعيفُهُ في هذا العدد ؛ بل يضاعفه اللَّهُ عزَّ وجلَّ أضعافًا كثيرةً بغير حَصْرِ عدد .
[ لطائف المعارف (150) ]
وكيف لا يكون هذا الفضل العظيم ، وقد سمَّى النَّبيُّ ﷺ رمضانَ بشهر الصَّبر فقال : صومُ شهر الصَّبر وثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر ؛ صومُ الدَّهر .
[ صحيح الجامع (1447) ]
وفي رواية : يُذهبنَ وَحَرَ الصَّدر .
[ صحيح الجامع (3804) ]
وربُّنا سبحانه وتعالى يقول : { إنَّما يُوفَّى الصَّابرون أجرهم بغير حساب }
وفي بيان عظيم فضل الصَّوم أذكر قصَّةَ الرَّجُلين الَّذين قَدِما على النَّبيِّ ﷺ من بلي ؛ فكان إسلامهما جميعًا واحدًا ، وكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر فغزا المجتهدُ ؛ فاستُشهدَ وعاش الآخر سنةً حتَّى صام رمضان ، ثمَّ مات ؛ فرأى طلحةُ بن عبيد اللَّه خارجًا خرج من الجنَّة ؛ فأذِنَ للَّذي تُوفِّي آخرهما ، ثمَّ خرج فأذِنَ للَّذي استشهد ، ثمَّ رجع إلى طلحة فقال : ارجع فإنَّه لم يأنِ لك .
فأصبح طلحة يُحدِّثُ به النَّاسَ ٬ فبلغ ذلك النَّبيَّ ﷺ ؛ فحدثوه الحديث وعجبوا فقالوا : يا رسول اللَّه ٬ كان أشدَّ الرَّجُلين اجتهادًا ؛ واستشهد في سبيل اللَّه ؛ ودخل هذا الجنَّةَ قبلَهُ ؟!
فقال النَّبيُّ ﷺ : أليسَ قد مكث هذا بعدَهُ بسنةٍ ؟ قالوا : [ بلى ]
قال : وأدركَ رمضان فصامَهُ وصلَّى كذا وكذا في المسجد في السَّنة ؟ قالوا : بلى
قال : فلَمَا بينهما أبعد ممَّا بين السَّماء والأرض .
[ التعليقات الحسان (2971) وما بين معقوفتين من مسند أحمد (1403) وسنن البيهقي (6530) ]
وفي بيان هذا الأمر أشار الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه بقوله : إنَّ الصِّيام سرٌّ بين العبد وربِّه لا يطلع عليه غيرُهُ ؛ لأنَّه مركَّبٌ من نيَّةٍ باطنة لا يطلع عليها إلَّا اللَّه ؛ وتركٍ لتناول الشَّهَوات الَّتي يستخفي بتناولها في العادة ؛ ولذلك قيل : لا تكتبه الحَفَظة .
وقيل: إنَّه ليس فيه رِياء .
[ لطائف المعارف (154) ]
وأختم مقالتي بما نقله الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه فقال : كم ممَّن أمَّلَ أن يصوم هذا الشَّهر فخانه أمله ؛ فصار قبله إلى ظلمة القبر ٬ كم من مُستقبل يومًا لا يستكمله ، ومؤمِّل غدًا لا يُدركه ؟! إنَّكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره .
خطبَ عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها : إنَّكم لم تُخلقوا عبثًا ، ولن تُتركوا سُدًى ٬ وإنَّ لكم مَعادًا ينزل اللَّهُ فيه للفَصل بين عباده ؛ فقد خابَ وخسرَ مَن خرج من رحمة اللَّهِ الَّتي وَسِعت كلَّ شيء ، وحُرِمَ جنَّةً عرضُها السَّموات والأرض .
ألا ترون أنَّكم في أسلاب الهالكين ؟ وسيرتها بعدكم الباقون ، كذلك حتَّى تُردُّ إلى خير الوارثين ، وفي كلِّ يوم تُشيِّعون غاديًا ورائحًا إلى اللَّه ، قد قضى نَحبه ، وانقضى أجله ؛ فتودِّعونه وتَدَعونه في صدع من الأرض غير موسَّدٍ ولا مُمهَّدٍ ؛ قد خلعَ الأسباب ؛ وفارق الأحباب ؛ وسكن التُّراب ؛ وواجه الحساب ؛ غنيًّا عمَّا خلف ؛ فقيرًا إلى ما أسلف ٬ فاتَّقوا اللَّهَ عباد اللَّهِ قبل نزول الموت ، وانقضاء مواقيته .
وإنِّي لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذُّنوب أكثر ممَّا أعلمُ عندي ، ولكن أستغفر اللَّهَ وأتوب إليه .
ثمَّ رفع طرف ردائه وبكى حتَّى شهق ، ثمَّ نزل ؛ فما عاد إلى المنبر بعدها حتَّى مات رحمة اللَّه عليه .
يا ذا الذي ما كفاه الذَّنب في رجب
حتَّى عصى ربَّه في شهر شعبانِ
لقد أظلكَ شهر الصَّوم بعدهما
فلا تُصيِّرهُ أيضًا شهرَ عصيانِ
واتل القُرانَ وسبِّح فيه مُجتهدًا
فإنَّه شهر تسبيحٍ وقرآنِ
فاحمل على جسد ترجو النَّجاة له
فسوف تُضرم أجساد بنيرانِ
[ لطائف المعارف (149) ]
والحمدُ للَّهِ ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي .
غرَّة رمضان 1436 هـ .