هكذا تكلّم نيتشه أبو الفكر الليبرالي


(هكذا تكلّم نيتشه)

[أبو الفكر الفردي الليبرالي]

[نظرة نقدية لفكر نيتشه]

عندما نتكلم عن الفكر الليبرالي فلابد أن نتكلم عن اثنين الأول نيتشه، والثاني سارتر؛ أمّا نيتشه فهو عميد الفكر الليبرالي و مُنظّره الأوّل، و عندما نتكلم عن نيتشه فنحن نتكلم ابتداءً عن أهمّ كتبه وهو (هكذا تكلم زاردشت)

وزاردشت هذا هو أحد أهم مؤسسي الديانة الباطنية، وكان موطنه في بلاد فارس، والباطنية هي التي تقول بأنّ الفرد هو أساس الكون وإمكانية وصوله إلى درجة الإله، وتنادي بالوقوف أمام أيّ نظام اجتماعي يربط الفرد بالمجتمع، وينظم الحياة، وأوّل هذه الأنظمة هي شرائع الدين ومحاولة إزالة بالدرجة الأولى ، أو تحريفه لخدمة الباطنية.

لن أتكلم عن نفسية نيتشه ولن أتهمه بمرض نفسي وأُكثر الكلام حول هذا الموضوع كما يفعل كثير من النقاد فأنا أعتبر غير ذلك فأفكاره تعبر عن رؤيته ومذهبه الفردي وما يعتقده تجاه أمور الحياة عامة.

و أمّا ما أصابه من مرض عضوي عضال فليس هو سبب فلسفته فمذهبه وجد قبل مرضه.

تكلم نيتشيه عن أمور كثيرة في الحياة وقام بفلسفتها وأهمّ أفكار تدور حول محورين،

المحور الأول : التركيز على تدعيم فردية الانسان بشكل متطرف، وتكوين ما يسمى بالرجل القوي أو المتفوق أو السوبرمان،

و جعل المجتمع مجرد محطة لتعبئة الوقود أو حاضنة له ثم الانطلاق في عالم الفردية.

فمن أقوال نيتشه في دعم الفردية وفكرة الإنسان القوي أو المتفوق المزعومة وإنشاء عداء وهمي بين الفرد والمجتمع:

١-على الفرد دائما أن يقاسي ليبقى حراً من هيمنة المجتمع , ستكون وحيداً وأحيانا خائفاً لكن الثمن ليس غالياً في مقابل أن تمتلك نفسك.

٢-إنني آتٍ إليكم بنبأ الإنسان المتفوّق , فما الإنسان العاديّ إلّا كائن يجب أن نفوقه فماذا أعددتم للتفوّق عليه.انتهى كلامه.

إن النزعة الفردية في الأصل نزعة باطنية وأصلٌ عندهم فكل المذاهب والأديان الباطنية تركز على دعم الفردية والانعزال وتدعو إلى عدم الاندماج في المجتمع وتشجع على التبتل والعزوبية،

وعدم تكوين أسرة إلاّ أن تكون محطة تزود فقط .

وقد أعجب نيتشه بالإسماعلية الباطنية وأشاد بها وجعلها نموذجا ممتازاً للإنسان القوي وأتساءل إذا كان نيتشه هو وغيره من مفكري الغرب الليبراليين يمتدحون الباطنية الإسماعلية في أهمّ شيء نادى به نيتشه ونادت به الليبرالية عموما ومفكروها ألا وهو الإنسان المتفوق الحر في زعمهم والمنعزل عن المجتمع والمتمرد عليه ، فعلى أي شيء يدل هذا !؟ إنه لا يدل إلّا على أنّ الليبرالية امتداد طبيعي للأديان والمذاهب الباطنية

يقول نيتشه عن الإسماعلية ورئيسهم ابن الصبّاح ومُعيباً على المسيحية عدم أخذها بقوة منه هذه الطرائق والعقائد، يقول نيتشه:

(عندما اصطدم الصليبيون بهذه الفرقة التي لا تغلب، هذا التنظيم لعقول حرة بامتياز، الذي يعيش أعضاؤه الرتب السفلى في طاعة لم يعرف مثيلها قط أيّ تنظيم رهباني، فإنهم «الصليبيون» تلقوا، من حيث لا ندري، بعض الأنوار عن هذا الرمز، هذا الشعار السري بذوي المقامات العليا وحدهم: لا شيء حقيقياً، كل شيء متاح، إذن، هو ما يسمى حرية الفكر، وما يطرد كل إيمان بالحقيقة ذاتها، هل هناك أي فكر أوربي حر، مسيحي، تاه يوماً في هذا القول وفي متاهة عواقبه؟ هل عرف بالتجربة مينوتور هذا الكهف؟ إني أشك في هذا وأعلم أن الأمر خلاف ذلك) جينيالوجيا الأخلاق (180-181)

وتوضيحاً لما سبق فإن الباطنية هي دين إبليس وأعوانه،

فلا ننسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من الانفراد والعزلة عن الجماعة (إنما يأخذ الذئب من الغنم القاصية ) وكذلك الحديث الذي يحكي تكريم إبليس لأحد أعوانه عندما قال: ما زلت به حتى طلق زوجته فيُدنيه منه ويقول له أنت أنت مع أنّ غيره أوقع شخصا آخر في الشرك والآخر في الزنى وهذا يدل على مدى استيعاب إبليس نعوذ بالله منه لأهميّة المجتمع وخطورة الانفراد عن المجتمع والخروج عن نظامه.

إنّ تدعيم الفكر الليبرالي للفردية والحرية أدّى إلى نُشوء الدعوة إلى ما يسمى بالإنسان القوي (السوبر مان) ونجد هذا بارزاً في الأدب الغربي من الروايات والأفلام التي تدعم فكرة السوبر مان أو الرجل القوي،

وأنّ المجتمع مجرد حاضن له وأنّ له سلطته الخاصة بنفسه الخارجة عن سلطة نظام المجتمع ومن خلال سلطته هذه الخاصة به يطبق نظرته في تحقيق العدالة ومحاربة الظلم وهذا الأمر متجذّر في الفكر الليبرالي ألا وهو الخروج على السلطة وتحقيق العدالة من خلال النظرة الشخصية حسب سياسة الفرد للأمور وهذا هو نفس منطلق الخوارج ومنطقهم.

لقد ربى الفكر الليبرالي الجانب المتوحش في الإنسان فصنع إنساناً يدوس على كل فضيلة في سبيل تحقيق حريته بل ويدوس على البشر الضعفاء فنجد نيتشه لا يعترف بحق العاجز أو الضعيف في الحياة، وهذه نتيجة طبيعية لتبنّيه المبدأ الفردي الوجودي الذي هو أساس الليبرالية،

فوجود العاجز ينافي أوّل مبدأ في الليبرالية ألا وهو الإنسان القوي

و نذكر بعض أسباب رفض الفكر الليبرالي للعاجز ولو لم يظهر ذلك عند كل فلاسفته جليّاً لكنها سمة واضحة على الفكر الليبرالي فمن الأسباب الموهومة عندهم .

١-أنّ العاجز يحتاج إلى نظام مجتمعي يساعده أمّا الإنسان القوي في عقيدتهم فهو ضد الاعتماد على نظام المجتمع فلا يحتاج إلى نظام المجتمع بل هو الذي يساعد المجتمع في حالة وصوله إلى مرحلة الإنسان القوي ويحدد كيفية إقامة العدالة.

٢- أيضاً العاجز ناقص في حريته فلم تتحقق فيه صفات الرجل الليبرالي ألا وهي القوة والاستغناء فالوجه المتوحش لليبرالية في الجانب الأخلاقي يظهر هنا وبجلاء وخصوصا عند نيتشه، كما ان الوجه المتوحش لليبرالية يظهر أيضاً جلياً في الجانب الاقتصادي لليبرالية ألا وهي الرأسمالية فهي من أبرز الوجوه المتوحشة لليبرالية.

إنّ الليبرالي وعلى رأسهم منظّريهم يفهمون الأمور الفطرية بشكل متطرف فيوقعهم هذا الفهم في التناقض فتجد أنّ إمامهم نيتشه يعظم القوه والاستغناء ويدعو إليها و لكن هذا الأمر يخالف طبيعة الإنسان وفطرته وخصوصا طبيعة المرأة والعاجز، و بما أنّ الإنسان فطرةً اجتماعي بطبعه ومحتاج لغيره فيتجه الفكر الفردي لحظتها إلى وضع قيود على المجتمع يظن أنّها تحمي مبدأه الفردي من تعظيم للقوة ودعوة للاستقلالية فيظلم ويعطل مهمة المجتمع ويفرض أيضاً على الفرد نمط حياة يعزله عن المجتمع نفسيا وفكريا مع أنّه يعيش فيه ظناً منه أنه يعزز الفردية والحرية وهو في حقيقة الأمر يصنع وحشاً اسمه الفرد الليبرالي

يعادي المجتمع ويقف منه موقف البغض والنديّة وهذه من أكبر معضلات الفكر الليبرالي .

وأما المحور الثاني الذي تدور عليه فلسفة نيتشه : فهو رفض أيّ نظام يجعل الفرد جزء من منظومته و أبرز هذه الأنظمة في نظر نيتشيه هي الأديان السماوية حيث نجد هذا في أحد مقولاته ( الإله مات ونحن من قتله) فيتضح من هذا رفضه للدين السماوي،

أما الأديان الباطنية كالبوذية مثلاً فهو لا يعارضها أصلاً لأنها تدعو إلى الانفراد والاستغناء عن المجتمع وتسعى في نظره إلى تعزيز فكرة الإنسان القوي أو المتفوق

وما مدحه للزرادشتية والإسماعلية منّا ببعيد

إن الناظر يستنتج كذلك ومن خلال فلسفة نتشيه التي تشكل جزء كبيراً من أساس الليبرالية اليوم ومن خلال تركيزه على الإنسان المتفوق القوي أنّ المرأة عند نيتشه لا تدخل في حيز الإنسان المتفوق أو القوي (السوبر مان) الذي هو غاية الليبرالية بل إن المرأة كما قال عنها أنّها(فخ نصبته الطبيعة) وهذا انعكاس وترجمة لما تقوله الديانات الباطنية عن المرأة حيث أنّها لا ترى المرأة خلقت إلا للرجل أو للإنسان القوي وتدور في فلكه فالإنسان الذكر عندهم هو مدار الكون،

وهذه معضلة ثقافية تعاني منها الليبرالية و المذاهب الفردية عموما لكنها تحاول إخفائها وذلك لأنّ القول بتساوي الرجل مع المرأة في أساس فلسفتهم يؤدي إلى وجود نظام اجتماعي حاكم وهم يرفضون أيّ نظام اجتماعي حاكم لهم لذلك قالوا بأن الفرد الذكر هو مدار الكون

فهناك تساؤل !؟ إذا كانت المرأة فخ نصبته الطبيعة

فمن يكون الإنسان القوي !؟ لا شك انه الفرد الذكر

إذاً فالفكر الليبرالي فكر ذكوري لأن تعاملك مع الفخ سيكون تعامل حذراً خالي من الثقة فلا بدّ أن يكون التعامل اقصائي تخويني يؤدي به إلى التهميش. فقط إنك تأخذ من هذا الفخ على حذر ما تريد سواء متعة أو ولد أو مرور و اجتياز أو أيّ شيء آخر ثم تتركه . ولسارتر الوجودي أيضاً فلسفة في هذا الأمر وقد أدركت خليلته هذا الأمر وألّفت فيه كثيراً.

ومن مقولات نيتشه في المرأة

قوله (حتى الآن ولحسن الحظ، كان التنوّر شأن الرجال وهبة الرجال. بقي المرء بين أهله. أخيراً يحق للمرء أن يتحفظ حيال كل ما تكتبه النسوة في المرأة وأن يسأل: هل تريد المرأة أصلاً تنويراً حول ذاتها؟ هل يمكن لها أن تريد؟)

فإذا كان نتشيه عميد الفكر الليبرالي الوجودي الفردي يرى أنّ التنوير ليس إلّا للرجل وكذلك ينفي عن المرأة الإرادة

فليس لنا أن نقول الّا أنّ الفكر الليبرالي فكر ذكوري والذكورية سمة من سمات الباطنية.

ولنيتشه خصوصا ولليبرالية عموما محاور أخرى خادمة للمحورين الأساسيين آنفي الذكر منها

– محاولة تسخير الأنظمة الاجتماعية المنظمة للمجتمع و تحريف جوهرها لخدمة الفرد القوي فقط، و ذلك في حالة العجز عن هدمها وإقامة مجتمعات خادمة لليبرالية الفردية و مؤسسة على المذهب الباطني وأوّل هذه الأنظمة الدين السماوي.

نخلص مما سبق إلى عدة نتائج:-

ا- أنّ الفكر الليبرالي فكر باطني حذو القذّة بالقذّة لكنه بثوب جديد.

ب-الفكر الليبرالي فكر متطرف يهيئ للإرهاب و يساعد على نشوئه.

ج-الفكر الليبرالي فكر إقصائي. خلاف ما يدّعي

د-أنّ الفكر الليبرالي فكر ذكوري بسبب فرديته وليس كما يزعم أنّه من أنصار المرأة فما ترونه ماهو إلّا خداع كما عودتنا عليه الفِرق الباطنية منذ الأزل.

هـ- إنّ الباطنية دائما تأتي بعدة وجوه في عصر واحد وإقرار الفردية أو الخروج من الجماعة سَمّهِ ما شئت والحزبية سواء ليبرالية أو إخوانية أو قاديانية أو مختلطة جزء من هذه الباطنية فمهما ادعت وادعى أربابها وأتباعها الوطنية أو العدالة فهي وهم كاذبون في ذلك والواقع يشهد.

ولعل الوقت يسعفنا بإذن الله لنكتب عن باقي محاور الفكر الليبرالي وسماته التي تنبع من محاوره الرئيسية. ا.هـ

كتبه أخوكم

عبدالله بن محمد الشبانات

في يوم الأحد الموافق

١٤٣٩/١/٢٥هـ


شارك المحتوى: