مكانة العلماء وعظم فقدهم


الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.

عباد الله: العلماء عظَّم اللهُ شأنهم، وأعلى قدرهم، وأثنى عليهم، وأفاض عليهم من معين فضله؛ قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

يقول الإمام الآجري رحمه الله مبِّينًا فضل العلماء: “إنَّ الله عز وجل وتقدَّست أسماؤهاختصَّ مِنْ خلقه من أحب، فهداهم للإيمان، ثم اختصَّ من سائر المؤمنين مَنْ أحب، فتفضَّل عليهم، فعلَّمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل وفضَّلهم على سائر المؤمنين؛ وذلك في كل زمان وأوان، رَفعهم بالعلمِ وزَينهم بالحلمِ، بِهم يُعرف الحلالُ من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح.

فَضْلُهم عظيم، وخَطرهم جزيل، وَرثةُ الأنبياء، وقُرةُ عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة – بعد الأنبياء– تشفع، مجالسهم تفيد الحكمةَ، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة.

هم أفضل من العُبَّاد، وأعلى درجة من الزُّهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يُتوقع لهم بائقة، ولا يُخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصِّرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على مَنْ خالَف بقولهم محجاج، الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عَنَد.

هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيَّرُوا، وإذا أسْفَرَ عنها الظلامُ أبصروا، وصدق الله العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

وقال الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.

وقال عزَّ وجل: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ، قال محمد بن الحسين: “وهذا النعت ونحوه في القرآن يدل على فضل العلماء، وأن اللهعزَّ وجلجعلهم أئمة للخلق يقتدون بهم.

وعن أبي الدرداء ÷ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ  × يقول: >فضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلةَ البدرِ على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكنهم ورثوا العلمَ، فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافر<. رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود.

وعن معاوية ÷ قال: قال رسول الله × : >من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين< متفق عليه.

وعن الحسن أن أبا الدرداء ÷ قال: >مثل العلماء في الناس كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها<.

عباد الله: إنَّ بقاء العلماء نعمةٌ من الله ورحمة، وذهابهم مصيبة تصيب الأرض وأهلها، ونقمة وثُلمة في الدِّين لا يسد شيء مسدها، بل إنَّ مِن أعظم الرزايا التي تُرْزَأ بها الأمة الإسلامية ذهاب أهل العلم الربانيين، فبموت العلماء وفقدهم تكمن المصيبة، وتعظم الرزية، وتخرب الدنيان حين لا يجد الناس علماء ربانيين عاملين، فيبرز حينئذٍ أهل الجهالة والضلالة، ومن يدعي العلم وليس من أهله فحق للأرض أن تتصدع، والسماء أن تحزن، وللأمة أن تبكي على موت العالم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص {قال: سمعتُ رسول الله × يقول: >إنَّ الله عزَّ وجللا يقبض العلم انتزاعًا، إنما يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا <.

عباد الله: إنَّ الثقات عند الله هُمُ العلماءُ، وقد أشهدهم على توحيده من فوق سبع سماوات، قال الله تعالى فيهم: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

والله تعالى مدحهم وأثنى عليهم، وجعل كتابَه آياتٍ بيناتٍ في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.

وبيَّن سبحانه أنهم ورثة الأنبياء، وأنهم أهل الذكر الذين أُمِرَ الناسُ بسؤالهم، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

وأخبر سبحانه أنَّ العلماء يستغفر لهم كلُّ شيء، قال أبو الدرداء ÷ قال رسول الله × :>ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في البحر<. رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

وبيَّنَ سبحانه أنَّ أهل العلم الذين يبلِّغُون الناسَ شرعَ الله تعالى هم أنَضَرُ الناسِ وجوهًا، وأشرفهم مقامًا، بدعاء رسول الله × لهم؛ قال × :> نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها، فَرُبَّ حاملِ فقهٍ غير فقيه، رُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه<. رواه ابن ماجه.

وأخبر تعالى أن العلماء هم أكثرُ الناسِ خشيةً له، قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.

عباد الله: إنَّ العلماء من أفضل المجاهدين في سبيل الله بجهادهم بالحجة والبيان، وهو جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء، وهو أعظم منفعةً من الجهاد باليد واللسان، لشدة مؤنته، وكثرة العدو فيه، قال تعالى:﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ۝ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا.

يقول ابن القيم رحمه الله: “فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادينِ، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ۝ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.

عِبَادَ اللَّهِ: أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيل فَاسْتَغفِرُوه إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له تعظِيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.

أما بعد، عباد الله: اتقوا اللهَ ربَّكم واستمسكوا بحبلِه المتينِ، وكتابِه المبينِ، فإنَّ الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقواماً ويضعُ به آخرين، ألا وإنَّ ممن رفعَهم الله بهذا الكتابِ العظيمِ أهلَ العلمِ العاملين، الذين هم أركانُ الشريعةِ وأمناءُ اللهِ في خلقِه، وخلفاءُ النبيِّ × في أُمَّتِه.

فالعلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، بهم تحفظُ الملةُ وتقوم الشريعةُ، ينفون عن دينِ اللهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الضَّالين، فللهِ دَرُّهم وعليه أجرُهم، ما أحسن أثرَهم وأجلََّ ذكرَهم.

عباد الله: إنَّ اللهَ تعالى قد فرضَ لأهلِ العلمِ الراسخين والأئمةِ المرضيين حقوقاً، من أخذَ بها وعملَ نجا، ومن أعرضَ عنها أوقعَ نفسَه في الهلاكِ والرَّدَى.

عباد الله: إنَّ من حقوقِ أهلِ العلمِ محبتَهم وموالاتَهم، وذلك أنه يجبُ على المؤمنِ محبَّةُ المؤمنين وموالاتُهم، كما قال تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فيجبُ على المسلمين بعد موالاةِ اللهِ تعالى ورسولِه  × موالاةُ المؤمنين، كما نطق به القرآنُ خصوصاً العلماءُ الذين هم ورثةُ الأنبياءِ .

فحبُّ أهلِ العلمِ والدينِ قربةٌ وطاعةٌ، فإذا رأيتم الرجلَ يذكرُ أهلَ العلمِ بالجميلِ ويحبُّهم ويقتدِي بهم فأمِّلوا فيه الخيرَ، فهم القوم لا يشقى بهم جليسُهم.

عبادَ الله: إنَّ من حقوقِ العلماءِ احترامَهم وتوقيرَهم وإجلالَهم، فإن إجلالَهم وتوقيرَهم من إجلالِ اللهِ تعالى وتوقيرِه، ولذلك قال بعض السلف: “من السُّنةِ أن يُوقَّرَ العالمُ“. ولقد كان السلفُ الصالحُ رحمهم الله يوقِّرون علماءَهم توقيراً كبيراً، ويتأدَّبون معهم، فهذا عبدُ الله بنُ عباسٍ ÷ حبرُ الأمة وترجمانُ القرآن، كان يأخذُ بركابِ ناقةِ زيدِ بن ثابتٍ ÷ ويقول: “هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا“.

عباد الله: إنَّ من حقوقِ علماءِ الشريعةِ وحَفَظةِ المِلَّةِ الذبَّ عن أعراضِهم وعدمِ الطعنِ فيهم، فإنَّ الطعنَ في العلماءِ العاملين والأئمةِ المهديين طعنٌ في الشريعةِ والدِّينِ، وإيذاءٌ لأولياءِ اللهِ الصالحين، ومجلبةٌ لغضبِ اللهِ ربِّ العالمين، فقد قال المولى الجليلُ في الحديثِ الإلهيِّ: >مَنْ عادَي لي وليّاً فقد آذنتُه بالحرْبِ<.

فاتقوا اللهَ عباد اللهِ، واحفظوا ألسنتَكم عن الوقيعةِ في أهلِ العلمِ، فإن لحومَ العلماءِ مسمومةٌ، وسنةُ اللهِ في هتكِ أستارِ منتقِصِيهم معلومةٌ، فعلماءُ الأمةِ الذين لهم لسانُ صِدقٍ لا يُذكرون إلا بالجميلِ، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غيرِ السبيل.

فأطيعوا عبادَ الله ولاةَ أمورِكم من العلماءِ والأمراءِ ترشَدوا، وعليكم بالجماعةِ، وإياكم والفرقةَ، فإنَّ الشيطان مع الواحدِ وهو من الاثنين أبعدُ.

اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَنِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.

اللهُمَّ وفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك، وتحكيم شرعك.

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

اللهُمَّ احفظ جنودنا المرابطين ورجال أمننا، وسدد رميهم يا رب العالمين.

اللهُمَّ عليك بالحوثيين المفسدين، وبالخوارج المارقين، وبجميع أعداء الدين.

اللهُمَّ اكفنا شرهم بما شئت، اللهُمَّ إنَّا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ.

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

جمع وتنسيق/ عبد الله بن مـحمد حسين النجمي

إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان

 


شارك المحتوى:
0