ما لهم وللسلفية ! (تعقيب على مقال: “منهج السلف” للشيخ عادل الكلباني)


ما لهم وللسلفية !

(تعقيب على مقال: “منهج السلف” للشيخ عادل الكلباني)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد كثر الخوض هذه الأيام في موضوع “السلفية”؛ فمقالات وأحاديث ولقاءات؛ فهذا بقلمه يطعن في خاصرتها، وذاك يتخلل بلسانه ينقدها، وثالث لا يخفي توجسه منها؛ في معمعة تجللت بالهوى والجهل؛ فأي محنة هذه!

مؤسف حقا أن يضحي منهج السلف حِمى مباحا؛ يتسور محرابه ويستبيح جنابه من كان فاسد التصور قاصر النظر، أو من غلبه الجهل وصرعه الهوى.

وبالأمس القريب كتب الشيخ عادل الكلباني -وفقه الله لهداه- مقالا نُشر في جريدة الرياض (18/2/1433هـ – 15907) وسمه بـ(منهج السلف)، أتى فيه بعجائب وغرائب! ولي معه وقفات:

الوقفة الأولى: من أسوأ ما في مقال الكاتب تقعيده قاعدة تفتح باب الضلال على مصراعيه؛ حيث يقول: (… ونستطيع هذا بسهولة إذا كان لدينا استعداد لتقبل أمرين مهمين كان لإهمالهما الدور الأكبر لتوسع فجوة الفرقة. أولها: أن نؤمن أن الحق ملك مشاع لا يستأثر به مذهب دون آخر, ولم ينزل من السماء على طائفة دون أخرى, فعند كل واحد من الحق ما يحتاج إليه الآخر …).

وأقول: إن الحق الذي لا مرية فيه أن الله هو الحق، وقوله الحق، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به من ربه هو الحق المحض (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)، وهو الذي أُمر الناس جميعا باتباعه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ)، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وعليه فمن تمسك من هذه الأمة بالوحي المبين كان على الحق المبين.

إن الحق ليس شيئا “هلاميا” أو خفيا؛ بل هو أمر ثابت بيّن المعالم، عليه دلائل وبراهين واضحة، وليس بممتنع على مبتغيه أن يصل إليه؛ وإلا فكيف يأمرنا ربنا باتباعه والتواصي به (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وهو ليس كذلك؟

وبهذا يُعلم أن قوله: (أن نؤمن أن الحق ملك مشاع لا يستأثر به مذهب دون آخر, ولم ينزل من السماء على طائفة دون أخرى) باطلٌ مصادمٌ للحق الذي قاله الرسول الحق صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) متفق عليه واللفظ لمسلم.

فها هي “طائفة” على “الحق” باستغراقه! فهل لأحد قول بعد قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام؟

ويبقى السؤال عن تلك الطائفة التي اختصت بالحق المحض الكامل، والمنهج الذي ظفر به من بين الطوائف والمناهج جميعا: أهم المعطلة أم الممثلة؟ أهم القدرية أم الجبرية؟ أهم المرجئة أم الوعيدية؟

أم أنها تلك الفرقة الواحدة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار -سواها- كما صح بذلك الحديث؟

لا جرم أنها هي .. من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يستوعب “الحق” إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كله على وجهه، لم يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهؤلاء هم أهل الرحمة الذين لا يختلفون) (الفتاوى 13/130).

إنهم الطائفة السلفية، أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح.

إنهم أهل الحق، الأعلم بالحق، والأرحم بالخلق.

إنهم المعتصمون بحبل الله، الذين يمسّكون بالكتاب، ويعضون على السنة، ويقدمونهما على كل رأي ومذهب، وعقل وهوى.

إنهم أهل الاتباع الصادق لأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم، الذين عُلقت الهداية بسلوك سبيلهم (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا).

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): (فأي شيء يُتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده، الذين هم موضع القدوة والإمامة؟) (الإيمان 66).

السلفية -يا من يجهلها- ليست حزبا من هذه الأحزاب المتكتلة، ولا جماعة من تلكم الجماعات المنضوية تحت بيعة شيخ وإمام .. كلا!

إنها الإسلام بصفائه ونقائه، وسعته وشموله، بعقيدته وعبادته وأخلاقه.

إنها العصمة من الزلل، والسلامة من الانحراف.

إنها سبيل مقيم، وجادة راشدة، لحمتها وسداها: التوحيد والاتباع، وإمامها: إمام الهدى عليه الصلاة والسلام، وأساطينها و”رموزها”: الأتقياء الشرفاء، الأئمة الحنفاء، من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

وليت شعري؛ ما الحق الذي ندَّ عن منهاج هؤلاء السادة الغرر وفاتهم إلى مناهج الفلاسفة والمتكلمين والروافض وأضرابهم من أهل البدع؟

لا كان ذلك -والله- ولا يكون.

وإذا كان الكاتب يجعل المنهج السلفي على قدم المساواة مع الفرق الأخرى، ولا يراه المنهج الكامل والمشرع الصافي، وإنما حسبه أن يكون له نصيب من الحق كما لغيره نصيب – فما أجهله به، وما أحراه -قبل أن يكتب فيه- أن يتعلمه.

الوقفة الثانية: افتتح الكاتب مقاله بمقدمة موهمة، حث فيها على (الانطلاق في الفضاء الفسيح)، واستهجن (التلفع بمرطنا القديم الذي خلق)، وكوننا (نؤثر أن نظل قابعين خلف سرادق يحجب عنا سعة الكون، ويمنع عنا نور الشمس!)، وأوضح أنه (تحاول العقول المتعطشة للرقي أن تفك قيودها) .. جُملٌ مجملة حمالة أوجه، غير معهودة من أهل العلم، وإنما تُعرف عند غيرهم!

إذا كان مراد الكاتب بالمرط والسرادق والقيود: التمسك بمنهج السلف وعدم التهاون في ذلك؛ فهي هوة سحيقة أردى نفسه فيها!

وإذا كان المراد شيئا آخر؛ فليس من الإنصاف -لنفسه ولغيره- أن يوقع القارئ في التباس؛ فما من شك أن الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة أصل الضلال.

ولهذه السمة التي تجلت في المقال أخت بارزة أيضا .. ألا وهي التناقض!

ففي الوقت الذي حذّر فيه المملكة من تبني منهج السلف، وأنذر تبعات ذلك، ودعاها إلى أن تنأى بنفسها عن أي خلاف، أي أن تكون دولة بلا مذهب! حتى تستوعب طوائف العالم الإسلامي بتوجهاته المختلفة، وحتى تفتح ذراعيها لاحتوائهم، ولتكون كالأب الشفيق لهم … إلخ – نجده يعرّف السلفية الحقة بأنها: (منهج محمد وصحبه، صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم). ثم يمضي مبينا أنها لا تُقصي المخالف ولا ولا …

حسنا .. ما المطلوب؟ أهو أن نرمي بالسلفية -حقا وباطلا- خلف ظهورنا ليتحقق ما قرره في وسط مقاله؟

أم أن نتبنى السلفية الحقة التي وصفها في آخر مقاله وصفا جميلا؟

تذبذب محيّر!

وقد يقال: مراده أن نتبنى “السلفية” عمليا دون إظهار ذلك؟

وحينها يقال: وهل المخالفون -الذين يحرص الكاتب على مراعاة مشاعرهم- يغيظهم رفع شعار “السلفية” فحسب؟ أم هو المواقف العملية والواقع الفعلي الذي يثمره انتهاج “السلفية”؟ لا شك أنه الثاني.

ومن عجائب المقال -أيضا- أنه يبشر المملكة أنها إذا لزمت الحياد، وخلعت جلباب السلفية عنها فستكون حكما بين المسلمين، (أو كالأب الشفيق الذي يحتكم إليه أبناؤه عند اختلافهم فيصدرون عن رأيه)؛ فيا للعجب! أي رأي سيكون لها والكاتب يناشدها أن تكون محايدة؛ لا “شخصية” لها؟!

ثم كيف يريدها أن تكون المرجع عند الاختلاف وهو ينادي بـ(ترك الآخرين يفكرون بعقولهم لا بعقولنا نحن)؟!

ثم ما الفائدة المرجوة من الاحتكام إليها، ومن إبدائها الرأي بين المختلفين، وهو يقرر أن (محاولة جمع كل المسلمين على رأي واحد كمحاولة الصعود إلى السماء بدون سلم، والله يقول: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) فالاختلاف ضرورة وواقع يجب علينا أن نرضى به ونتعايش معه)؟!

فإذا كان الاختلاف بينهم ضربة لازب، ولا أمل في اجتماعهم؛ فالاحتكام إليها حينئذ قليل الفائدة أو عديمها، وعليه فلن تستفيد من تخليها عن هويتها السلفية شيئا!

ولو أنعم الكاتب النظر لعلم أن المنهج السلفي هو المحور العملي الذي يقاس به الناس قربا من الحق وبعدا.

وأنه القطب الذي يُدعى الفرقاء للالتفاف حوله.

وأن من الممكن، بل المشروع، بل الواجب دعوتهم إلى الاجتماع على كلمة سواء، إلى الإسلام الصافي .. أي إلى منهج السلف.

فإن الله تعالى لم يكن ليأمرنا بما يستحيل وقوعه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)؛ ولذا كان الصحابة متفقين في المنهج والاعتقاد بحمد الله.

أما قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فحق؛ فإن أهل السعادة وأهل الشقاوة مختلفون، وأما أهل الرحمة فيما بينهم فاستثناهم سبحانه من الخلاف بقوله: (إلا من رحم ربك)؛ فمنهاجهم واحد وإن حصل اختلاف في مسائل فرعية، وقلوبهم مجتمعة وإن تفاوتت اجتهاداتهم فيما يقبل الاجتهاد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك) (الفتاوى 12/52).

والمقصود أنه يجب التفريق بين أمرين: كون الخلاف بين الناس مقدرا كونا، وكون الواجب شرعا السعي في الاجتماع والاعتصام بحبل الله، وليس من الآية في شيء أن الخلاف واقع يجب الرضا به -كما يقول الكاتب وفقه الله لهداه-.

الوقفة الثالثة: إذا كان الكاتب يدعو إلى أن تتخلى المملكة عن العقيدة التي قامت لأجلها لتوهم أن يرضى عنها الآخرون -ولن يرضوا- فليعلم أن هذا مؤذنٌ بشر وبيل عليها.

ذلك أن العقلاء يدركون أن قيام دولة ونهضتها مرهون ببقاء الدعامة التي تأسست عليها، والدعامة هنا هي العقيدة السلفية التي قامت عليها ولأجلها، فإذا فقدت عقيدتها التي تتبناها وتتحمس لها تلاشت منها معالم الحياة، وضعفت أمام الزلازل والعواصف.

لم تقم الدول ولا تقوم إلا على عقيدة؛ وإلا فكيف تتحمل النكبات؟ وكيف سيضحي أبناؤها من أجلها؟ وبقدر سمو هذه العقيدة يكون البذل، وتكون التضحية.

وهذه الدولة قامت -من أول يوم- على عقيدة سلفية خالصة، ومنهج سلفي قويم؛ فأي حديث عن العبث بحجر زاويتها هو بمثابة انتحار!

ولا يقولن قائل: يكفي أن تتبنى “الإسلام”؛ لأنه إن أريد الإسلام الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه -في الحقيقة-: المنهج السلفي.

وإن أريد أن تتبنى “إسلاما” يجمع في أعطافه عقائد الفرق التي امتزجت بالطقوس الوثنية، والتصورات الفلسفية، والأفكار الهندوكية … إلخ؛ فليس هذا ما قامت عليه، ثم إن هذا “المجمع العقدي” الذي يضم الحق والباطل، ويؤلف بين الضب والنون ليس الإسلام الحق، ولن يفيد رسوخ وطن، ولا تماسك أمة.

على أن الالتزام بمنهج السلف له غاية أشرف من الحفاظ على كيان الدولة.

إن الالتزام بمنهج السلف الصالح حتمٌ لا خيار فيه؛ لأنه التزام بدين الله الحق، وأداء للواجب الذي أمر الله به؛ قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، وقال سبحانه: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) قال البغوي: (وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) (6/288)، وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) (إعلام الموقعين 4/139).

وهذه غاية سامية تتقاصر أمامها أي غاية.

وإذا كان الالتزام بما أمر الله سيولد أعداء؛ فلا ينبغي للمسلم الصادق أن يبالي، (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ).

وهذه سنة الله في خلقه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).

وليس من الحكمة في شيء أن يُترك الحق لشناعة الشانعين.

هذا وإن ما أشار إليه الكاتب من التخويف من النبز بالوهابية صار شيئا مبتذلا، و”فزّاعة” ليست ذات بال؛ فالمنهج السلفي ليس حكرا على المملكة وعلمائها؛ إذ دعاته في كل مكان بحمد الله، أعني الدعاة إلى المنهج السلفي النقي، دون من تزيّا به وهو منه براء.

ناهيك عن أن منهاج المملكة المعتدل، ومواقفها المشرفة، لما انضافت إلى علوم علمائها وفتاويهم التي انتشرت في الآفاق – اتضح الحق لكثير من المسلمين في المشارق والمغارب، وزالت تلك الغيوم القديمة، وتبين أنه منهج وسطي، يتميز بالرحمة والإنصاف.

نعم بقي من أعماه التعصب على ما هو عليه، وهؤلاء لا حيلة فيهم؛ إذ كان ذنب “السلفية” عندهم أن نطقت بما نطقت به النصوص، وتجافت عما نهت عنه، وتوقفت عند حد ما انتهت إليه.

و: إذا رضيت عني كرام عشيرتي … فلا زال غضبانًا علي لئامها

وهؤلاء لن يرضوا عن المملكة ومنهجها ولو تنازلت عن السلفية، ما لم تتبع عقيدتهم ومنهجهم؛ فليربع الكاتب على نفسه.

الوقفة الرابعة: قال الكاتب مبينا تصوره عن السلفية: (بل تستوعب المسلمين بكل أطيافهم، وتتوسع دائرتها لاحتواء خلافهم، وقبول اختلافهم).

وهذه همهمة عرجاء! فما معنى: “تستوعب”، “تتوسع”، “احتواء”، “قبول”؟

أهو تصويب الباطل عند الفرق الأخرى؟ أم ترك إنكاره؟

أهو أن نبتسم في وجه من يذبح لغير الله؟!

أم نربت على كتف من يسب الصحابة؟!

أم نطرب لمن ينفي علو الله؟!

أم نغض الطرف عمن يكذب بعذاب القبر؟!

لقد أمرنا الشرع الحنيف بقول الحق، ونصرته، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم.

ومن مقاصده: أن تستبين سبيل المجرمين، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. وهذه أصول شرعية لا تتفق مع: “احتواء” و”قبول” ونحوها من الألفاظ “المطاطة”!

وغني عن البيان أن القيام بواجب الحفاظ على الإسلام غضا نقيا كما أنزل؛ بنفي كل شبهة عنه، ودفع كل بدعة تسللت إليه: من الفرائض المؤكدة، وهو أولى من الحفاظ على مشاعر المخالفين، بله مداهنتهم!

وهذا كله منوط بمراعاة الحكمة وتقدير المصالح والمفاسد، وإنزال الخلافات وأهلها منازلهم؛ فما خالف النص الصريح الصحيح فمردود، ويعامل صاحبه بما يستحق في ضوء الأدلة الشرعية.

أما ما كان من المسائل الاجتهادية -وهي التي ليس فيها نص صريح صحيح سالم عن المعارض- فلا إنكار فيها على المخالف.

أما مقولة الشافعي رحمه الله التي ساقها الكاتب: (فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم، ونقول لهم: إنكم حللتم ما حرم الله، وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون قول من قال قولنا إلى أن حرم ما أحل الله عز وجل) فإغرابٌ ووضع لها في غير محلها؛ إذ هي تتحدث عن خلاف بين العلماء في مسائل فقهية أورد لها أمثلة (الأم 6/223)، قد خالف فيها المخالف لشبهة دليل، ولم تتعرض جملته تلك إلى خلاف الفرق والطوائف المنابذة لمنهج السلف؛ كيف والشافعي رحمه الله قد بين الفرق الشاسع بين الخلاف في المسائل الفقهية والخلاف في المسائل العقدية؛ حيث قال: (والله لأن يفتي العالم فيقال: أخطأ العالم، خير له من أن يتكلم فيقال: زنديق! وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله). قال الذهبي معقبا: (قلت: هذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع) سير أعلام النبلاء (10/19).

فما أسوأ تنزيل كلام الأئمة على غير منازله، وتحويره بعيدا عن مرادهم.

وبعد .. فإنني -في ختام هذا التعقيب- أنصح نفسي والشيخ عادلا وإخواني من طلاب العلم بالنأي عن طرحٍ تُشتم منه رائحة غير زكية طفا على الساحة هذه الأيام، عليه رداء “متمشيخ”، يُشبه أن يكون دعوة مشبوهة مقنَّعة، مزدانة بلحية! يتقاطع أو يتجاذب مع أطروحات علمانية مكشوفة، يهدف إلى زعزعة الثوابت، وإفقاد الثقة بالإرث العلمي لعلماء الحرمين، وما مضت عليه البلاد من فتاويهم وتوجيهاتهم.

فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

وفق الله الشيخ عادلا، وهداه لأقرب من هذا رشدا، والحمد لله رب العالمين.


شارك المحتوى: