شعبان بين الأحكام الشرعية والمخالفات البشرية


إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَن يهدهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لهُ، وَمَن يُضلِل فَلَا هاديَ لَهُ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ لِشهرِ شعبانَ أحكامًا وتستحبُّ فيهِ عباداتٌ، ويقَعُ بعضُ الناسِ في مخالفاتٍ، مِنها:

الأمرُ الأوَّلُ: يستحبُّ صيامُ أكثرِ شهرِ شعبانَ، كَمَا كانَ يفعَلُ ذلكَ رسولُ اللهِ ﷺ، أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنها قالَتْ: ” وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ “.

فدَلَّ هذا على أنهُ يُستحبُّ أنْ يُكثَرَ مِن صيامِ شهرِ شعبانَ، إلَّا أنَّ تَقَدُّمَ رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومينِ مَنْهِيٌّ عنهُ؛ لِمَا ثَبَتَ في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ»، أي: إلَّا أنْ يُوافِقَ عادةً كانَ يصومُهَا الرَّجُلُ، كصيامِ الاثنينِ أو الخميسِ أو غيرهِمَا.

وذَكَرَ العلماءُ أنَّ مَنْ نَذَرَ أنْ يصومَ آخرَ شعبانَ، أو مَن كانَ عليهِ قضاءٌ مِن رمضانَ الماضي، فإنهُ يصومُ مَا قبلَ رمضانَ بيومٍ أو يومينِ مِن بابِ أولَى، أمَّا مَا يعتقِدُهُ بعضُ الناسِ مِن أنهُ إذا انتصَفَ شهرُ شعبانَ فَلَا يستحبُّ الصيامُ، وَيَبني ذلكَ على حديثِ: «إذَا انتَصَفَ شعبانُ فَلَا تَصُومُوا، فهذا الحديثُ لا يَصِحُّ، كَمَا ذهبَ إلى ذلكَ أكثرُ أهلِ العلمِ الأوَّلينَ، كالإمامِ أحمدَ ويحيَى بنِ معينٍ، وغيرِهِما مِن أهلِ العلمِ.

وإنَّ صِيامَ شهرِ شعبانَ أفضلُ مِن صيامِ شهرِ محرَّمٍ؛ لأنهُ صيامٌ مُتعلِّقٌ بِفَرضٍ فهو كالسُّنَنِ الرَّواتِبِ، فإنها أفضلُ مِن قيامِ الليلِ؛ لأنَّها صلاةٌ متعلقةٌ بفريضةٍ، وَقَدْ ذهبَ جماهيرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّ السُّنَنَ الرواتبَ أفضلُ مِن قيامِ الليلِ، ومِثلُ ذلكَ صيامُ شهرِ شعبانَ أفضلُ مِن صيامِ شهرِ اللهِ المُحرَّمِ، لأنهُ صيامُ نفلٍ متعلِّقٌ بفرضٍ وهوَ رمضانُ.

وَمَا أخرجَ مسلمٌ عَن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» فالمرادُ بِهِ الصيامُ المطلقُ، كَمَا بَيَّنَ ذلكَ العلامةُ ابنُ رجبٍ -رحمه الله تعالى-.

الأمرُ الثاني: يستحبُّ في شهرِ شعبانَ الإكثارُ مِن قراءَةِ القرآنِ كَمَا كانَ يفعلُ السَّلَفُ الكِرَامُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابنُ رجبٍ في كتابِهِ (لطائفُ المعارِفِ) عَن جمعٍ مِن السلفِ أنهم كانوا يجتهدونَ في قراءَةِ القرآنِ في شهرِ شعبانَ، وكانوا يُسَمُّونَهُ بشهرِ القُرَّاءِ، ذَكَرَ ذلكَ عَن سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ، وَحَبيبِ بنِ أبي ثابِتٍ، وعمرِو بنِ قيسٍ المُلائِيِّ.

وَمِمَّا عَلَّلَ بِهِ ابنُ رجبٍ أنهم كانوا يفعلونَ ذلكَ تدريبًا للنَّفْسِ وتمرينًا لها على قراءَةِ القرآنِ حتَّى إذا أدرَكَ شهرَ رمضانَ أدركَهُ بِنَفْسٍ نشيطةٍ قد اعتادَتْ على الإكثارِ مِن قراءةِ القرآنِ.

الأمرُ الثالثُ: جاءَتْ أحاديثُ عِدَّةٌ بأنَّ اللهَ يَطَّلِعُ إلى خَلْقِهِ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خَلقِهِ إلَّا لمشركٍ أو مُشاحِنٍ، وهذِهِ الأحاديثُ تَنَازَعَ أهلُ الحديثِ فيها مَا بينَ مُصَحِّحٍ وَمُضعِّفٍ، وَعَلى القولِ بِصِحَّتِها فإنهُ لَمْ يثبُتْ عَن رسولِ اللهِ وَلَا عَن صَحَابَتِهِ الكِرامِ أنهم خَصُّوا هذِهِ الليلةَ بقيامٍ، كما بيَّنَهُ أهلُ العلمِ.

فإذَنْ لَا يَصِحُّ أنْ تُخَصَّ هذِهِ الليلةُ بقيامٍ وَلَا صيامٍ، والخيرُ كُلُّ الخيرِ في الاتِّباعِ لا الابْتِداعِ.

الأمرُ الرابعُ: مَن كانَ عليهِ قضاءٌ مِن رمضانَ الماضي فيجِبُ عليهِ أنْ يقضِيَ قَبلَ أنْ يأتيَ رمضانُ اللَّاحِقُ، فإنهُ إذا لَمْ يقضِ مَا عليهِ مِن رمضانَ الماضي وأدْرَكَهُ رمضانُ الآخَرُ فإنهُ يأثَمُ، وَمَن أخَّرَ القضاءَ إلى أنْ يأتيَ رمضانُ الأخَرُ فَلَهُ حالَتَانِ:

الحالُ الأولى: أنْ يكونَ مُفَرِّطًا، وهذا آثِمٌ ويجِبُ عليهِ مَعَ القضاءِ أنْ يُطعِمَ عَن كُلِّ يومٍ مسكينًا، كَمَا ثَبَتَ عَن الصحابةِ الكرامِ -رضي الله عنهم-، رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ عَن مُجاهِدَ عَن أبي هريرةَ فيمَنْ فرَّطَ في قضاءِ رمضانَ حتَّى أدرَكَهُ رمضانٌ آخَرُ، قالَ:” يَصُومُ هَذَا مَعَ النَّاسِ وَيَصُومُ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا

الحالُ الثانية: ألَّا يكونَ مُفَرِّطًا، كأنْ يستمِرَّ بِهِ مَرَضٌ أو غيرِ ذلكَ مِن الأعذارِ حتَّى أدرَكَهُ رمضانُ الآخَرُ، فمِثلُ هذا يجبُ عليهِ القضاءُ مِن غيرِ إطعامٍ، وليسَ آثمًا، كَمَا هو مفهومُ أثرِ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- المتقدمُ.

أسألُ اللهَ الذي لَا إلهَ إلَّا هوَ أن يجعَلَنَا قائمينَ بطاعتِهِ في شعبانَ وفي رمضانَ وفي السَّنَةِ كُلِّهَا، إنهُ الرحمنُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فَيَقَعُ بعضُ المسلمينَ في أخطاءَ في شهرِ شعبانَ، وَمِن ذلكَ أنَّ بعضَهُم يعتقدُ في ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ أنها ليلةُ التَّقديرِ السَّنَويِّ، وَهَذا خطأٌ كَمَا بَيَّنهُ ابنُ القيمِ -رحمه الله تعالى- في كتابهِ (شفاء العَلِيلِ) فإنَّ قولَهُ سبحانهُ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الدخان: 4، 5] أي في ليلةِ القدرِ، لِذَا ذهَبَ جماهيرُ أهلِ العلمِ أنَّ التقديرَ السَّنَوِيَّ إنَّمَا يكونُ في ليلةِ القدرِ.

وَمِن الأخطاءِ عِندَ بعضِ الناسِ أنهم يحتفلونَ بليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ بالاحتفالِ المُسمَّى بالقِرْقِيعَان، وأصلُ هذا الاحتفالُ مأخوذٌ مِن الرافضةِ، وَسَرَى إلى بعضِ المسلمينَ، وهذا احتفالٌ محرَّمٌ، فَلَا يجوزُ أن يُخَصَّ زمانٌ باحتفالٍ يتكرَّرُ سنويًّا أو شهريًّا؛ لأنهُ يكونُ عيدًا، وإذا تُعُبِّدَ بِهِ أصحابُهُ فَقَدْ جَمعوا إلى كونِهِ عيدًا محرمًا الابتداعَ.

وبعضُ أهلِ السنةِ أرادوا مخالفةَ الرَّافضةَ فَجَعلوا الاحتِفالَ بالقرقيعانِ في النِّصفِ مِن شهرِ رمضانَ، وهذا الفعلُ محرمٌ؛ لأنهُ عيدٌ محرَّمٌ وَإِنْ خالَفُوا فيهِ الرَّافِضةَ، فأصلُ الفعلِ مِن الرَّافِضةِ، واتِّخاذُ عيدٍ غيرِ الأعيادِ التي جاءَتْ بِها الشريعةُ مُحرَّمٌ في شريعةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ.

أيُّهَا المسلمونَ:

اجتهدوا  شهرَ شعبانَ في الإكثارِ مِن قراءةِ القرآنِ، وفي الإكثارِ مِن الصيامِ للفوزِ بالفضائلَ ولِتَغَانُمِ الأجورِ، ولتعويدِ النفسِ على الصيامِ وقراءةِ القرانِ حتَّى إذا جاءَ رمضانُ الذي هو سيِّدُ الشهورِ فإذا بالنفوسِ على الطاعاتِ قَدْ اعتادَتْ وَعَلى الصيامِ والقرآنِ قَدْ تمَرَّنَتْ، فصامَتْ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَفَعَلَتْ أكثَرَ مَا يمكِنُ مِن قراءةٍ للقرآنِ وغيرِهِ مِن الطاعاتِ.

أيُّهَا المسلمونَ:

إنَّ مَلَكَ الموتِ تخطَّانَا لغيرِنَا، فَمَا أكثرَ مَا نسمَعُ بموتِ فلانٍ وفلانٍ، وإنهُ -وأيمُ اللهِ- قريبًا سيهجُمُ عَلَينا ويقبِضُ أرواحَنَا، فَجِدُّوا واجتَهِدوا، وَلِمَا بعدَ الموتِ أعِدُّوا، فإنَّ الهولَ عظيمٌ والخطبَ جسيمٌ، لكنَّ طولَ الأَمَلَ والغَفْلَةَ قَدْ أضعَفَتْنَا وَعَن طاعَةِ رَبِّنَا قد كَسَّلَتْنَا.

قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120] وقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]  وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9].

اللهُمَّ يا مَن لَا إلهَ إلَّا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، بَلِّغْنَا شهرَ رمضانَ على خيرِ حالٍ، وَمُنَّ عَلَينا بقيامِهِ وصيامِهِ إيمانًا واحتِسابًا، واجعلنا فيهِ مِن الرَّابِحِينَ المُقبِلِينَ عَلَى طاعتِكَ يا رَبَّ العالمينَ.

وقومُوا إلى صلاتِكُمْ يَرْحَمكُمْ اللهُ …

شعبان بين الأحكام الشرعية والمخالفات البشرية – د. عبدالعزيز بن ريس الريس

dsadsdsdsdsads

Tags:

شارك المحتوى:
0