خطبة الخليفة الثاني


الحمد لله قدم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، أحمده على حزن الأمر وسهله ، وأصلي على رسوله محمد أشرف من وطئ الحصا بنعله ، وعلى أصحابه وأهله وسلم تسليما كثيرا . أما بعد

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

عباد الله : في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير بين البيوت، ويتفقد أهلها، فتعب ذات ليلة فأسند ظهره إلى جدار بيت ليستريح فإذا بامرأة تقول لابنتها: ألا تمذقين اللبن بالماء أي: تخلطينه بالماء ليكثر، فقالت الجارية: كيف أمذق وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق، وذلك لأن فيه غشاً معلوماً عند بيع اللبن، فقالت الأم: فما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عمر لا يعلمه فإن إله عمر يعلم، ما كنت أفعله وقد نهى عنه، فوقعت تلك المقالة من تلك البنت الصالحة التي تخاف الله وقعت في نفس عمر فرجع إلى بيته فدعا ابنه عاصماً فوصف له المكان ونصحه بأن يتزوجها، فتزوجها عاصم بن عمر، فولدت له بنتاً، كانت هي أم عمر بن عبد العزيز.

فمن عمر ؟ ولماذا سيرة عمر ؟ لنا نحن أحياء للعزائم وبعثا للهمم ، تقربا إلى الله بحبهم وتأدبا بآدابهم لنحشر في زمرتهم ، لا لتهييج سياسي ولا لشحن القلوب فتلك مصانع أرباب الثورات ومناهج تربية الجماعات الحزبية المفلسة .

أرسل إليه الوليد الخليفة مرة فسأله: ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل ، فسكت عمر ، فنهره الخليفة قال عمر: لم يقتل حتى يقتل لكن أرى أن ينكل، أي: يعاقب ويشتد

عليه ليؤدب فقال الوليد: إنه فيهم لنابهٌ )

نشأ عمر في بيئة ترف، فهو هو الذي كان صاحب المشية العمرية يتعلمها الجواري من حسنها في نظرهن ويتبخترن فيها، وهو هو الذي كان يضع الطيب فتعصف ريحه، فيعرف بأن عمر بن عبد العزيز مر من هذا المكان، وهو هو الذي كان بعض الناس يلتمس الغسال الذي يضع عمر ثيابه عنده فيجعلون ثيابهم مع تلك الثياب من شدة الطيب وجماله، وكان متاعه ينقل على ثلاثين بعيراً، ولما تزوج وضع المسك زيتاً للسراج ، ولم يكن الشاب ضالاً حتى في أيام شبابه كما يتصور البعض، لكن به من أثر الترف والنعيم،

نشأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أكثر أيامه في المدينة، وتتلمذ على فقهائها وعلمائها، وجمع القرآن وهو صغير، لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي

للعلم فأصبت منه حاجتي.

كان ميله إلى العلم منذ الصغر، وإذا رأيت الشاب ينشأ منذ

أول أمره مع أهل السنة والعلم فارجه، ولكن الله إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه، ويقضي سبحانه وتعالى ما يشاء، ولا يعلم الغيب إلا هو، ولما كبر عمر أرسل أبوه عبد العزيز إلى مصر أميراً عليها، وأبقى ولده في المدينة يتعلم عند عبد الله بن عمر، واستقدمه مرة إلى مصر فرمحته دابة فشجته، فقال أبوه: ما ينبغي لمن كان يرجى له ما يرجى له أن يكون تأديبه إلا في المدينة، وهكذا رجع مرة أخرى إلى موطن العلم والفقه والإيمان، إلى دار الإيمان في المدينة، وإن الاهتمام بتربية الأولاد والاعتناء بهم، هو الذي يوجههم إلى الوجهة التي سيكونون عليها في مستقبل الأمر .

والد عمر بن عبد العزيز وإن كان في مصر وابنه في

المدينة فإنه وكّل به رجلاً صالحاً يتعاهده ويلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة – أي الولد -فقال شيخه: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري، وكان لهم من الإماء ما يستعملونهن في الخدمة، فاتخذ بعض المترفين هؤلاء لمثل هذه الأعمال، فقال شيخه: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة، وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره، الحزم والتعاهد والتفقد والمتابعة بين الأب .

لما ولي الخلافة بدَأَ خِلَافَتَهُ بِإِصْلَاحِ مَمْلَكَتِهِ، فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَرْوَتِهِ، فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ ثَرَاءٌ حَصَّلَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَاعَ مَا يَمْلِكُ، وَرَدَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ غَدَا عَلَى زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ، وَزَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ، وَأُخْتِ ْخلفاء بني أمية :

بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا * أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا

غَدَا إِلَيْهَا فَخَيَّرَهَا بَيْنَ ثَرَائِهَا وَحُلِيِّهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَتَخَلَّتْ عَنْ كُلِّ حُلِيِّهَا وَأَمْوَالِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى بَنِي عُمُومَتِهِ مِنْ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَعَظَهُمْ، وَذَكَّرَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْأَمْوَالَ إِلَى خَزَائِنِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ قَطَعَ عَنْهُمْ كُلَّ صِلَاتٍ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا، وَهَدَايَا كَانُوا يَسْتَلِمُونَهَا، وَأَبْلَغَهُمْ بِرِسَالَةٍ وَاضِحَةٍ أَنَّ النَّاسَ فِي سُلْطَانِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْوُزَرَاءِ وَالْقَادَةِ وَالْعُمَّالِ لإصلاح ما ولوه  ، فأَثَارَتْ تَصَرُّفَاتُ عُمَرَ وَحِفْظُهُ لِلْمَالِ الْعَامِّ بَعْضَ أَقَارِبِهِ، مِمَّنْ عَاشُوا عَلَى الْأُعْطِياتِ وَالْمُخَصَّصَاتِ، فَأَرْسَلُوا مَنْ يُبَلِّغُهُ غَضَبَهُمْ، وَعَدَمَ رِضَاهُمْ عَنْهُ؛ فَكَانَ جَوَابُ عُمَرَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

عمر بن عبد العزيز الذي كان هذا خوفه وكان هذا عدله فكيف كان حاله في سيرته مع نفسه وفي بيته؟ إن سألت عن زهد عمر فأغربُ ما يكون الزهد، فما تقول في رجل أتته الدنيا تتهادى حتى بركت عند قدميه فركلها بقدمه وأعرض عنها؟! قال مالك بن دينار: “الناس يقولون: إني زاهد؛ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها”

أهدِيت إلى عمر هدية فكتب إلى الذي أهداها: “إنّ هديتك قد بلغت موقعَك والسلام” وردّها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله كان يقبل الهدايا! فقال: “كانت لرسول الله هدية، أما لنا فكانت رشوة”.

قدم عليه محمد بن كعب القرظي، فلما دخل عليه جعل يقلّب نظره في وجه عمر وهيأته فإذا هو ينظر إلى وجه شاحِب وبدنٍ ناحل ورأس أشعث وهيئة رثّة، ينظر إلى رجل كأنّ جبال الدنيا على عاتقه يحملها، فازداد عجبه، وجعل يقلّب نظره فيه وهو الذي كان يعرفه من قبلُ ليِّنَ العيش نضِرَ البشرة زاهيَ الثياب، ففطن عمر إليه وقال: ما لك يا كعب؟! قال: عجبتُ ـ يا أمير المؤمنين ـ من تغيُّر حالك! قال: يا محمد بن كعب ، لو رأيتني بعد ثلاث من دَفني وقد سالت العينان وانخسفت الوجنتان وأتت على الجوف الديدان لكنتَ لحالي من حالي أشدَّ عجبًا، وكنتَ لي أعظمَ إنكارًا، فبكى محمد وضجّ المجلس بالبكاء.

عرف عمَر قدر نفسه فتزيّن بالفعال، ولم يتزين بالمال، تواضع لله فرفعه الله، أعرض عن زخرف الدنيا فرفع الله ذكره وشرّف قدره. تواضع عمر وأخذ بنيه على التواضع، بلغه أنّ ابنًا له قد اشترَى فصًّا لخاتمه بألف درهم فاستدعاه وقال: عزيمة من أمير المؤمنين عليك إلا بعتَ فصَّك هذا واشتريتَ فصًّا بدرهمٍ واحدا وكتبتَ عليه: رحم الله امرئا عرف قدر نفسه.

عرَف عمر قدْرَ نفسه، فكان يَزْدَريها ويحاسبها على كلِّ

صغيرٍ وحقيرٍ، عرف عمر قدْر نفسه، فما كان يطربُه الثناء، ولا يستهويه الإطراء؛ لذا كانت بضاعةُ مجالس

الشُّعراء والمدَّاحين كاسدةً في زمن عمر.

دخل عليه جرير الشاعر المشهور، فَقَلَّبَ له وُجوه القول، فلم يلتفتْ إليه عمر، فخرج من عنده وهو يقول: أتيتُ من رجلٍ يُعطي الفقراء، ولا يُعطي الشعراء.

ويوم أنْ بارَتْ بضاعةُ أولئك الجلساء ذوي الهمم الخاوية ، راجتْ عنده مجالسة أهل العلم والنصح والإرادة ، فكانوا هم بطانةَ عمر وجلساءه، وكان حديثُه وحديثُهم لا ينفك من ذكرِ الموتِ، والقبرِ، والدارِ الآخرة.

قال عطاء: كان عمرُ يجمعُ في بيته كل ليلةٍ الفُقهاء؛ فيتذاكرون الموت والقيامة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.

سُئِلَتْ زَوْجُهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَقَالَتْ: “وَاللَّهِ مَا كَانَ بِأَكْثَرِ

النَّاسِ صَلَاةً، وَلَا أَكْثَرِهِمْ صِيَامًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَخْوَفَ لِلَّهِ مِنْهُ”! حَدَّثَتْ زَوْجُهُ فَاطِمَةُ فَقَالَتْ: “كَانَ عُمَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَنْتَفِضُ كَمَا يَنْتَفِضُ الْعُصْفُورُ، ثُمَّ يَسْتَوِي جَالِسًا يَبْكِي، حَتَّى إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ يُصْبِحَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا خَلِيفَةَ لَهُمْ”.

أَمْسَى ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فتذكر وقوفه بين يدي الله وسؤاله له ، ثُمَّ أَطْفَأَ سِرَاجَهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَبْكِي طَوَالَ لَيْلَتِهِ إِلَى أَنْ بَزَغَ الصُّبْحُ!

أسأل الله أن يعاملنا بعفوه وكرمه

أقول ما سمعتم

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله وحده

لقد عاش عمر بين المسلمين، وكان لسان حاله أعظمَ واعظ وأفصحَ معلّم، وكان وعظه بمقاله غايةً في البيان، حتى إذا نزل به الموت الذي طالما خافه، طالما أفزعه، أتى إليه مسلمة بن عبد الملك ابن عمّه، قال: يا أمير المؤمنين، إنه قد نزل بك ما أرى، وإنك قد تركتَ صِبية صغارا لا مال لهم، فأوصِ بهم إليّ أو اقسم لهم من هذا المال، فقال: ادعوا لي بنيّ، فدعوا إليه بنيه وكانوا بضعة عشر صبيا، فأتى بهم إليه كأنهم أفراخ، فنظر إليهم، نظر بحنان الوالدِ بعطفِ الأبوّة، فقال: أي بنيّ، إن أباكم كان بين أمرَين: إما أن يغنيَكم ويدخل النار، أو يفقركم ويدخلَ الجنة، وإن أباكم قد اختار أن يفقِركم ويدخلَ الجنة. إن وليّي عليكم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين، اصرفوهم عنّي، فانصرفوا، فجعل عمر يبتهل إلى الله في دعاءٍ خاشع يقول: رباه، أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصَيت، ولكن أفضل ما أعدّ: لا إله إلا الله، ثم قال لمن حوله: اخرجوا عني، فخرجوا، فلهج بالقراءة، فكانوا يسمعونه من داخل غرفته وهو يقرأ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وأسلم عمر الروح والأمة تلهج له بالدعاء .

اللهم ارحم عمر بن عبد العزيز، وأسكنه جنات النعيم وارفع درجته فيها .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا, مُطْمَئِنًا, رَخَاءً, سخَاءً, وسَائِرَ بلَادِ المُسْلِمِينَ ، اللهم أيد بالحق إمامنا ووليّ أمرنا، وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة برحمتك يا ارحم الراحمين

اللهم كن لإخواننا المرابطين على ثغور بلاد الحرمين

اللهم عجل نصرهم واكبت عدوهم  بقوتك يا قوي يا عزيز

لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وجابر المنكسرين، وراحم المستضعفين ، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه ، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين اللهمَ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا

تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا،

اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ


شارك المحتوى:
0