حكم المظاهرات والاعتصامات للضغط على الحاكم


حكم المظاهرات والاعتصامات للضغط على الحاكم

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله


نود سؤال فضيلتكم :

عن قول من يقرر أن المظاهرات والإعتصامات ونحوها جائزة للضغط على الحاكم لينفذ مطالب الناس ويقول لا يوجد دليل من القرآن والسنة على تحريم ذلك وفقكم الله ؟


الجواب : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد :


يجب أن يعلم أن الشريعة انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد , فلا يوجد سياسة وجدت في هذا العالم أكمل ولا أحكم منها , وإنما ينبل العالم ويكون من الراسخين إذا علم قواعدها وفهم مقاصدها , سالكا في ذلك منهاج السلف الصالح في معرفة الدليل وطريق الاستدلال , وقد يخفى على كثير من المتكلمين في تقرير المسائل والأحكام معرفة الصواب بسبب القصور في فهم القرآن والعلم بالسنن والآثار , ومن هذا قول من يقول أن المظاهرات طريقة شرعية أوجائزة للتغيير , وأنه لا يوجد دليل على منعها , وهذا ليس بصحيح بل هو مخالف للنصوص , فإن الواجب على المسلم أن يقوم بكل ما يأتيه أويدعه بالطرق الشرعية , , فعلى المسلم أن ينكر المنكر بالطرق الشرعية التي يقدر عليها , فإذا لم يمكنه فليس له أن يحدث طريقة غير مشروعة فيأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً , فإنه حينئذ يكون قد فعل ما لم يؤمر, دل على ذلك قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} , قال شيخ الإسلام:” لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهيا ولا إذنا كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ] , وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها:[ إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ] , وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم:[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] , فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر ؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان ” أ.هـ مجموع الفتاوى:(14 / 479-480) .
فتبين أن المسلم إذا فعل المشروع فلم يُستجب له , فعليه حينئذ خاصة نفسه ولم يؤمر شرعا بغير هذا , فلو كانت منابذة ولي الأمر بالقول والفعل مشروعة في مثل هذه الحال لأرشد إليها عليه الصلاة والسلام , وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه ابن حبان في صحيحه , قال:(( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس” ]، قال: وذاك ما هم يا رسول الله ؟ قال:[ ذاك إذا مرجت أماناتهم وعهودهم، وصاورا هكذا ] وشبك بين أصابعه، قال: فكيف بي يا رسول الله ؟ قال:[ تعلم ما تعرف، ودع ما تنكر، وتعمل بخاصة نفسك، وتدع عوام الناس ] )) ولم يأمره بحشد الناس للتأليب على ولي الأمر لإجباره على تنفيذ مطالبهم , ولو كان هذا مشروعا لأرشد إليه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى:[ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] {التوبة:115} .


ومن علامات أهل البدع التي ذكرها عليه السلام في حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم:[ أنهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ] , قال شيخ الإسلام مبينا المنهج الذي يجب أن يسير عليه المسلم في هذا الزمان: ” ولكن في الآية فوائد عظيمة – يعني قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} – أحدها : ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا.


الثاني : ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى والحزن على ما لا يضر عبث وهذان المعنيان مذكوران في قوله:[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ] {النحل:127} . الثالث : ألا يركن إليهم ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات كقوله:[لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ] {الحجر:88} , فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغبا وإما راهبا.


الرابع : ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم ؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال:[ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ ] {المائدة:2} الآية , وقال:[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] {البقرة:190} , وقال:[ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] {البقرة:193} , فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.


الخامس : أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله:

[ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ] {المائدة:105} , وفي قوله:[ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] {المائدة:105} ,


فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيها المعنى الآخر: وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة:[ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة , وكذلك العمل فصاحبه إما معتد ظالم وإما سفيه عابث وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان. فتأمُل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل ” أ.هـ مجموع الفتاوى:(14 / 481- 483) .

كما يجب أن يعلم أن الإ شتغال بغير المشروع سبب لأماتة المشروع قال تعالى:[وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ] {النمل:43} قال ابن القيم رحمه الله:” فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن ] إغاثة اللهفان:(1 / 213) , وبهذا يصرف العامة عما خلقوا له , قال شيخ الإسلام: ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسبها – أي البدع- عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة وهذا عكس الدين فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك من الفوائد ” أ.هـ اقتضاء الصراط:(1 / 291) .


ولو لم يكن في المظاهرات من المفاسد إلا إتباع سبيل المجرمين من اليهود والنصارى , فكيف إذا كانت تثير الفتن و تسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين وتقصم وحدة المجتمع في وقت المسلمون يعيشون تفككاً وضعفاً لم يجر عليهم من قبل , قال تعالى:[وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] {الأنفال:47} , وحينئذ فلا يشك مؤمن عاقل بتحريمها. والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين

كتبه
أبو عبدالرحمن عبدالله بن صالح العبيلان

في يوم الثلاثاء الموافق 9/11/1433هـ


شارك المحتوى: