حادثة الفيل


الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، الْمَبْعُوثُ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين .

أما بعد :

عباد الله : قضى الحجاج حجهم ، وقفلوا راجعين إلى أهليهم مودعين البيت الحرام ، قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم ، والذي ترجع أصول بنائه إلى ما قبل عهد إبراهيم وإسماعيل  عليهما السلام ، فهناك من قال: إن الملائكة هم أول من بنى البيت، وأسسه بأمر من الله  تعالى ، وهناك من نسب بناءها إلى آدم عليه السلام ؛ ثم توالت القرون حتى جاء إبراهيم وابنه إسماعيل  عليهما السلام فرفعا قواعد البيت قال تعالى:(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)

ومن أرادَ بهذا البيت وقاصديه والمتعبدين فيه سوءاً، أذابَه الله بالعذاب، كما يذوبُ الملح في الماء، قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)

عباد الله : ذكر الله ما امتن به على قريش كما في سورة قريش ، وكان قد سبقها بسورة الفيل ، وأنَ مِمَّا يَعُدُّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَفَضْلِهِ مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ فَقَالَ تَعَالَى :(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) وكَانَ أَمْرُ الْفِيلِ تَقْدِمَةً قَدَّمَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَبَيْتِهِ، وَإِلَّا فَأَصْحَابُ الْفِيلِ كَانُوا نَصَارَى أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانَ دِينُهُمْ خَيْرًا مِنْ دِينِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُبَّادَ أَوْثَانٍ ، فَنَصَرَ اللَّهُ أهل مكة عَلَى أهْلِ الْكِتَابِ نَصْرًا لَا صُنْعَ لِلْبَشَرِ فِيهِ، إِرْهَاصًا وَتَقْدِمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَتَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ ، ولسان حال القدرة يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء .

فما أمر الفيل الذي أشار الله إليه ، وكذا نبيه في سنته .

نورده مختصرا مما نقله ابن إسحاق وذكر ابن هشام أنه الصحيح منها .

وذلك أن أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلَّيْسَ بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا ، وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ ، فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ إِلَى النَّجَاشِيِّ خَرَجَ رجل من كِنَانة حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ فِيهِ أَيْ أَحْدَثَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّهُ الْعَرَبُ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ بِقَوْلِكَ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَى بَيْتِكَ هَذَا ، فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ثُمَّ سَارَ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ.

فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ فَأَعْظَمُوهُ، فلما سار خرج له جيش من العرب باليمن فقاتلهم وغلبهم ، ثم سار فواجهه جيش آخر فغلبهم ، حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه رجال ثقيف وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ الَّذِي عِنْدَهُمْ وهو: اللَّاتَ، فَأَكْرَمَهُمْ، وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رُغَالٍ دَلِيلًا، فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى الْمُغَمْسِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ بِهِ، وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثم أرسل  أبرهة إلى مكة من يسأل عن سيد قريش وأنه لا يريد حربهم ما لم يصادموه ، وإنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنهم ، فقال عبدالمطلب : وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ ، وسنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فوالله ما لنا به قوة، قال رسول أبرهة :فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وسأَلهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَه عَلَى الْمَلِكِ فَيُكَلِّمَهُ وَيَشْفَعَ لَه عِنْدَهُ ففعل ، فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ فدخل عبدالمطلب فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ، وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، ثم قال له أبرهة سل حاجتك ، فَقَالَ عبدالمطلب: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ : لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي ، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ، وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُالْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ. فَقَالَ أبرهة في زهو: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي ، وإني أخبرت أنه لا يدخله أحد إلا أمِن، فجئت أخيف أهله. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. ثم رَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ.

وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، والتحصن في رءوس الْجِبَالِ؛ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ

فلما أصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه، وقرب فيله ، فلما حركه وقف وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ثم لحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر، حتى أظلتهم طيرٌ أبابيل ، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، أمثال الحمص والعدس ، فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم ، قال الله تعالى:(تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) . فجعل الفيل يعج (يرفع صوته) عجًا ، فجعلهم .. كعصف (ورق الشجر اليابس) مأكول) .

فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك وليس كل القوم أصيب ، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أدمة وتقيحت ، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات .

قال ابن تيمية رحمه الله : وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم، .. وكانت هذه الآية لأجل البيت، أو لأجل النبي صلى الله عليه وسلم أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته”

وَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ وَابْنَاهُ، وَزَالَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ عَنِ الْيَمَنِ، هُجِرَ الْقُلَّيْسَ الَّذِي كَانَ بِنَاهُ أَبْرَهَةُ، وَأَرَادَ صَرْفَ حَجِّ الْعَرَبِ إِلَيْهِ لِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَأَصْبَحَ يَبَابًا لَا أَنِيسَ لَهُ وَكَانَ قَدْ بَنَاهُ عَلَى صَنَمَيْنِ .. كَانَا مَصْحُوبَيْنِ مِنَ الْجَانِّ، وَلِهَذَا كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ أَحَدٌ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِنَاءِ الْقُلَّيْسِ، وَأَمْتِعَتِهِ إِلَّا أَصَابُوهُ بِسُوءٍ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ السَّفَّاحِ أَوَّلِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالرُّخَامِ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ خَرَّبَهُ حَجَرًا حَجَرًا وَأَخْذَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ .

أقول ما سمعتم …

الخطبة الثانية :

الحمد لله …

عباد الله : مما يستفاد من حادثة الفيل من العبر: 

  1. أنّ نصر الله لقريش الوثنية على أبرهة النصراني وجيشه إرهاصٌ على أن النصرانيّة قد ولّى أمرها وأنّ قبيلة قريش بدأ يظهر لها شأن. 
  2. أنّه ينبغي للمسلم إذا رأى تكالب الأعداء على الإسلام أن لا يقلق على الدين بل يقلق على المسلمين وأما الدين فمنصور وقد تكفل الله بحفظه. أفيكون في قلب عبدالمطلب حين قال (أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه) من الثقة بنصر الله فوق ما يكون في قلب موحدٍ اليوم أن الله ناصر دينه وحافظ شرعه؟! 
  3. خونة الأمة مخذولون: فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة وصاروا عيونا له وجواسيس وأرشدوه إلى بيت الله العتيق ليهدمه، لُعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس، ولعنهم الله سبحانه وتعالى، وأصبح قبر أبي رغال رمزًا للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرجل مبغوضا في

 قلوب الناس، وكلما مر أحد على قبره رجمه.

  1. ذكر بعض أهل العلم : أن حادثة الفيل آية لرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ فكانت آية في ذلك من وجهين.

أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي حملاً ووليدًا.

والثاني: أن الله لما أراد ظهور الإسلام، تأسيًا للنبوة، وتعظيمًا للكعبة ، ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى في جيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم .

 


شارك المحتوى:
0