بين التكفيري عباس الباقر وآخرين … (3)


بين التكفيري عباس الباقر وآخرين … (3)

بقلم : د.عارف عوض الركابي

في الحلقة السابقة نشرتُ الخطاب الذي كتبه التكفيري عباس الباقر قبل إقدامه على قتل المصلين بمسجد أبي بكر الصديق بحي الجرافة بأم درمان ، وختمت المقال بعد عرض الوثيقة بسبعة أسئلة وعدتُ بأن تكون الإجابة عنها بمشيئة الله تعالى في الحلقات القادمة من هذه السلسلة .

وفيما كتب هذه التكفيري الضال قوله : (وقول الرجال إذا خالف نص الكتاب والسنة لا يؤخذ به : “إن الحاكم إذا حكم لرشوة أو لهوى أو قرابة لا يكفر” ، فهذا هو عين الضلال ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وهم يعلمون …). وفيما قال : إن الحاكم بغير ما أنزل الله يكفر بذلك كفراً مخرجاً من ملة الإسلام وناقلاً عنها إلى ملة الكفر بإطلاق دون تفصيل.

وهذه الجزئية أعني بها مسألة : (الحكم الشرعي في الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله) ، هي من الأمور التي ضلّ فيها كثيرون وانحرفوا فيها عن جادة أهل السنة والجماعة ، فقد قال الله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) .. فالخوارج وخلفُهُم من جماعات التكفير مما ضلوا فيه : فهمهم لهذه الآية .

وفيما يلي أسوق بعض ما بينه علماء الأمة بدءاً من الصحابة والكرام رضي الله عنهم وإلى زماننا هذا في هذه المسألة ، وكلام أهل العلم في ذلك – في القديم والحديث – كثير ومنشور على المنتديات بشبكات الاتصال ، فأنتقي منه ما يلي :

روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال: (من جحد ما أنزل الله ، فقد كفر، ومن أقرّبه ، ولم يحكم به فهو ظالم فاسق).أخرجه الطبري في (جامع البيان) بإسناد حسن . وقال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، قال : (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه). أخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) بإسناد صحيح. وفي لفظ : (كفر لا ينقل عن الملة). وفي لفظ آخر في نفس المصدر : (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق).

وقد احتج بهذا الأثر جمع من أهل العلم وصححوه من المتقدمين ومن المتأخرين ، منهم : الحاكم ووافقه الذهبي والحافظ ابن كثير والإمام محمد بن نصر المروزي والإمام أبو المظفر السمعاني والإمام البغوي والإمام ابن عبد البر والإمام أبو بكر ابن العربي وابن تيمية وابن قيم الجوزية والقرطبي والبقاعي وابن بطة وأبو عبيد القاسم بن سلام وصديق حسن خان ومحمد الأمين الشنقيطي والسعدي والألباني ، وغيرهم .

وأنتقي من بين تلك الأقوال الكثيرة ما قاله بعض الأئمة المحققين في المذهب المالكي ، (وذلك لأن مذهب الإمام مالك ينتشر العمل به ببلادنا) :

قال الإمام ابن عبد البر المالكي في كتاب (التمهيد) : (وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به ، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف ، وقال الله عز وجل: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾،﴿الظَّالِمُونَ﴾،﴿الْفَاسِقُونَ﴾ نزلت في أهل الكتاب، قال حذيفة وابن عباس : وهي عامة فينا ؛ قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاووس وعطاء).

وقال الإمام ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن) : (وهذا يختلف : إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين).

وقال الإمام القرطبي المالكي في (المُفْهِم) : (وقوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب ، وهم الخوارج ! ولا حجة لهم فيه ؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى ، كما جاء في الحديث ، وهم كفار، فيشاركهم في حكمهم من يشاركهم في سبب النزول . وبيان هذا : أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضية قطعاً ثم لم يحكم به ، فإن كان عن جحد كان كافراً ، لا يختلف في هذا ، وإن كان لا عن جحد كان عاصياً مرتكب كبيرة ، لأنه مصدق بأصل ذلك الحكم ، وعالم بوجوب تنفيذه عليه ، لكنه عصى بترك العمل به ، وهذا في كل ما يُعلم من ضرورة الشرع حكمه ؛ كالصلاة وغيرها من القواعد المعلومة ، وهذا مذهب أهل السنة).

وقال الإمام الشاطبي المالكي في كتاب (الموافقات): (هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود ، وليس في أهل الإسلام منها شيء ؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر).

فهذا قول هؤلاء العلماء المحققين وغيرهم عشرات من العلماء قد بينوا أن (الكفر) في قوله تعالى : (فأولئك هم الكافرون) ليس هو الكفر الذي يخرج من الملة وإنما هو كفر دون كفر ، وفصّلوا الحكم في هذه المسألة ، فإن لفظ (الكفر) في النصوص الشرعية ورد والمقصود به الكفر الأكبر المخرج من الملة والكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة كقتال المسلم وكفر النعمة وغيرهما ، والكفر الأصغر حكمه كالكبائر لا تخرج من الملة ولا يكفر بالوقوع فيها المسلم ، وتفصيل مسألة عقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر ليس هذا مقامه فضلاً عن أنها من المسائل الواضحات.

وممن وضحوا التفصيل في مسألة “الحكم بغير ما أنزل” الإمام ابن أبي العز الحنفي حيث قال في (شرح الطحاوية) : (وهنا أمر يجب أن يتفطن له ، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفراً: أما مجازاً؛ وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم ، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله ؛ فهذا أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ؛ فهذا عاص ، ويسمى كافراً كفراً مجازيا ، أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ؛ فهذا مخطئ ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور).

والتفصيل في هذه المسألة ببيان اختلاف حكمها بحسب حال الحاكم هو من الأمور الواضحة المعلومة ، وأثر ابن عباس المتقدم صحيح وكلام أهل العلم فيه بيّن وواضح وإن لم يُعجب ذلك جماعة التكفير التي سلك طريقها الخليفي وعباس الباقر و(آخرين) !! قال الشيخ العثيمين : (لكن لما كان هذا الأثر لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير؛ صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول! ولا يصح عن ابن عباس ! فيقال لهم : كيف لا يصحّ ؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم ، وأفضل ، وأعلم بالحديث؟! …).

ومن العجائب أن يقصُر أتباع الخوارج هذه الآية وبعض الآيات الواردة في الحكم على (الحكام) فقط أي الولاة ، مع أن في هذه الآية نقرأ فيها (عمومين) ، الأول في قوله تعالى : (ومن لم يحكم) فإن (من) اسم موصول وهو من صيغ العموم يدخل فيه (كل) من لم يحكم بما أنزل الله ، من الحاكم الوالي وغيره من الرعية على اختلاف الناس وتباينهم ، فكيف يقصرون هذا العموم على الحاكم فقط ؟! والعموم الثاني في قوله (بما أنزل الله) ولفظ (ما) أيضاً هو صيغ العموم يفيد كل (ما) أنزله الله ، فالصلاة والزكاة وبر الوالدين والأذكار والتمسك بالسنة وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك هي مما أنزله الله ، فكيف يقصرون عموم قوله (ما أنزل الله) في أمر واحد وهو ما يجب على الحاكم وهو الوالي الحكم به وأداءه ؟!

ومن تناقضهم العجيب أنهم يقصرون أمرهم في ذلك على الحكام فقط ولا يدخلون المبتدعة الذين غيروا ما جاءت به الشريعة من عبادات وأذكار واخترعوا وشرعوا تشريعات كثيرة ووضعوا لها فضائل ووعد ووعيد !! ولا يخفى أن السلفيين يبينون ذلك كله ، بعلم وهدي واضح ويبينون وجوب الحكم بما أنزل الله وخطورة تركه على الحكام وعلى المحكومين ويبينون خصوصية شأن الحاكم الوالي وأن بصلاحه وحكمه بشرع الله الخير له ولرعيته في العاجل والآجل وأن مخالفة ذلك فيها الهلاك العاجل والآجل.

ولا شك أن أقوال العلماء الراسخين في هذه القضية وبيانها وهو ما عليه أهل السنة والجماعة السلفيين وهو أمر إن أفرد في مؤلف خاص فلن يسع ذلك وقد نشرت بحوث نافعة في هذه المسألة ، لكن حسب القارئ هذه الإشارة ، وأواصل بمشيئة الله تعالى في الإجابة عن الأسئلة التي عرضتها ووعدت بالإجابة عنها وتكون الحلقة القادمة إن شاء الله في بيان الأسباب التي حملت عباس الباقر التكفيري لسب ولعن وشتم العلماء الربانيين الذين ذكرهم في رسالته.


شارك المحتوى: