القضاء وحد السكين !


القضاء وحد السكين !

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

إن القضاء من الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فقال الله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا )، فالقضاء أمانة عظيمة وثقيل على من له قلب وسمع ، القضاء امتنع بعض الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي حنيفة ، القضاء من تولاه فقد ذبح بغير سكين ، القضاء متعلق به حقوق الناس مؤمنهم وكافرهم ، القضاء أحد من السيف وأدق من الشعرة ، ولذلك لا يقضي القاضي وهو غضبان لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي بين اثنين و هو غضبان»، لأن الغضب يمنعه من تصور المسألة تصوراً تاماً فيحكم بغير الحق فيهلك نفسه ويضيع حق غيره ولا يقضي القاضي أيضا وهو عطشان أو جوعان أو يدافعه أحد الأخبثين، وكل هذا وذاك لأجل أن يتصور القاضي المسألة تصوراً صحيحاً تاماً ، وحتى لا يكون مشوش الفكر مشغول القلب ، ولا بد أن يتحلى القاضي بالحكمة ، والتريث لأن حكمه معتبر ونافذ.

إن القضاء من دعائم المجتمع ولا يمكن أن تدوم الدولة ، وأن يستتب أمنها وتستقيم أمور الناس إلا بالعدل ، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة” ، ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والإسلام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة ، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت ، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ولهذا تلحظ في بعض الدول أن القضاء مخترق إما بسبب محسوبية أو تقرب إلى سلطان أو جاه أو مال فتجد الفوضى في مجتمعهم وتجد أيضا عندهم أن الأحكام على الناس تتفاوت بحسب الشخص وبحسب قربه من السلطان أو قربه إلى القاضي أو إلى فكر القاضي فالمشاجرة على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر تجد أن عقوبتها تختلف من شخص إلى شخص آخر مع أنها مشاجرة وليس فيها سبق إصرار وترصد ، أقول : إن الظلم والجور من أسباب انهيار الدولة وذهاب أمنها.

ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب ورهب للقاضي لكونه بشرا يحتمل منه الخطأ والميل فبين مصيره إذا حكم بالعدل أو بالظلم فعن أبي بريدة عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى بغير حق يعلم بذلك فذلك في النار وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة»، رواه أبو داود.

وفي صحيح مسلم أنا أبا ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، ولا يفهم من هذا أنني أردت التنفير من القضاء فإن الأنبياء وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم قضوا بين أممهم بالعدل وكانوا قضاة فقال تعالى {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ}، وقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وهذا يدل أن التحذير الْوَارِدُ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظُّلْمِ لاَ عَنِ الْقَضَاء، ولأن القضاء أمانة عظيمة وحمله ثقيل والسير عليه مظنة الهلاك إلا أن يحفظه الله، وأيضا قد عرض نفسه لعذاب يجد فيه ألماً كما ذكر العلماء كألم الذبح بغير سكين في صعوبته وشدته وامتداد مدته أو ذبح بحيث لا يرى ذبحه، أو المراد أن التولية إهلاك لكن لا بآلة محسوسة فينبغي ألا يتشوق إليه ولا يحرص عليه كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين.

ثم اعلم أن القاضي إذا اجتهد وهو حريص على الحق فأخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران ولكن الإهمال والتعمد للظلم وتضييع حقوق الناس والتطاول عليهم من خلال حكم القاضي إذا لم يكن عن اجتهاد وحرص فإنه وقع في ذنب لا يغتفر ولا يترك ولا تصح التوبة منه ولو حج فإنه لا يغفر له حتى يرد تلك المظالم أو يتحلل من أصحابها لأن هذا الظلم هو ظلم متعلق بحقوق الناس وليس متعلق بحق الله إن شاء غفر وإن شاء عذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم الظلم ثلاثة ظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم يغفر فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله وأما الظلم الذي لا يترك فظلم الناس بعضهم بعضا وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ ، وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْه».رواه البخاري.

ونصيحتي لمن يقضي بين الناس أن يحرص كل الحرص على إعطاء كل ذي حق حقه ولأن تخطأ في العفو خير لك من أن تخطأ في العقوبة.

أعان الله قضاتنا وسدد الله أقوالهم وثبت أقدامهم وحفظ الله الكويت وأميرها وشعبها من كل مكروه .

كتبه / أبو محمد فيحان الجرمان .


شارك المحتوى: