الفرق بين الغيث والمطر ، وهل المطر لا ينبت الأرض؟


[الفرق بين الغيث والمطر ، وهل المطر لا ينبت الأرض؟]

الحمدلله رب العالمين، وبعد:

سمعتُ مقطعاً يفريق بين المطر والغيث، وأن المطر يكون عذاباً، ولا ينبت النبت، وأن الغيث هو الذي ينبت الأرض ويكون خيراً= تفريق غير صحيح، وقول غير صحيح.

وذلك من وجوه:

الوجه الأول :

هذه المسألة لم يفرق العلماء وشراح الحديث بين الغيث والمطر، فإذا ذُكر الغيث فالمراد به المطر، فالغيث أو المطر هو سقوط المياه من السماء، والمطر هو الغيث.

قال العيني -رحمه الله- على شرح البخاري: (الغيث: هو المطر).

قالت عائشة: «شَكَى الناسُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قُحوطَ المطرِ، فأمرَ بمنبرٍ، فوُضِعَ لهُ في المُصلَّى، ووعدَ الناسَ يومًا يخرجونَ فيهِ. قالت عائشةُ: فخرجَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- حينَ بدا حاجبُ الشمسِ، فقعدَ على المنبرِ، فكبَّرَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وحمدَ اللهَ عزَّ وجلَّ ثم قال: إنَّكم شكوتم جَدْبَ ديارِكم واستئخارَ المطرِ عن إبانِ زمانِه عنكم، وقد أمركمُ اللهُ عزَّ وجلَّ أن تدعوهُ ووعدكم أن يستجيبَ لكم ….» الخ. أخرجه أبو داود.

فجدب الديار وقحطها هو بسبب استئخار المطر، ولم يقل -صلى الله عليه وسلم- استئخار الغيث.

وحديث أنس قال: «بينا نحنُ في المسجدِ يومَ الجمعةِ، ورسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ النَّاسَ، فقامَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ؛ تقطَّعتِ السُّبلُ، وَهلَكتِ الأموالُ، وأجدبَ البلادُ، فادعُ اللَّهَ أن يسقينا. فرفعَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يديْهِ حذاءَ وجْهِهِ فقالَ: اللَّهمَّ اسقنا -وفي رواية: اللهم اغثنا-. فقال أنس: فواللَّهِ ما نزلَ رسولُ اللَّهِ عنِ المنبرِ حتَّى أوسعنا مطرًا، وأمطرنا ذلِكَ اليومَ إلى الجمعةِ الأخرى، فقامَ رجلٌ لاَ أدري هوَ الَّذي قالَ لرسولِ اللَّهِ استسقِ لنا أم لاَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ؛ انقطعتِ السُّبلُ، وَهلَكتِ الأموالُ، من كثرةِ الماءِ، فادعُ اللَّهَ أن يمسِكَ عنَّا الماء. فقالَ رسولُ اللَّهِ: اللَّهمَّ حوالينا ولاَ علينا، ولَكن على الجبالِ ومنابتِ الشَّجرِ. قالَ: واللَّهِ ما هوَ إلاَّ أن تَكلَّمَ رسولُ اللَّهِ بذلِكَ؛ تمزَّقَ السَّحابُ حتَّى ما نرى منْهُ شيئًا». أخرجه النسائي.

فأنس -رضي الله عنه- أطلق على ما نزل من السماء بعد دعاء الرسول (اللهم اغثنا) مطراً، فقال أنس: «حتَّى أوسعنا مطراً، وأمطرنا ذلِكَ اليومَ إلى الجمعةِ الأخرى».

ولم يقل أنس حتى أوسعنا غيثاً؛ وإنما قال: «حتى أوسعنا مطراً وأمطرنا»، ولا ريب أيضاً أنه ينبت الزرع وفيه البركة.

قال النووي: (وفيه أدبه -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء، فإنه لم يسأل رفع المطر من أصله، بل سأل رفع ضرره وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، وسأل بقاءه في مواضع الحاجة، بحيث يبقى نفعه وخصبه وهي بطون الأودية وغيرها).

قلتُ: وقد يتضرر الناس من نزول الغيث، وهو المطر كما في الحديث المذكور آنفاً.

الوجه الثاني:

الاستغاثة هي أخص من الدعاء، فالغيث هو المطر، إلا أنه إذاحُبس المطر وتأخر، وحل القحط، وهلكت المواشي، واستسقى المسلم، واستغاث الله،ودعاء بإلحاح= يسمى حينئذ غيثاً؛ لأن الله أغاثهم بالمطر، إذ أن الغيث لا يكون إلا عند إزالة الشدة.

قال تعالى؛ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }، معناه: تطلبون الإغاثة من ربكم. تقول العرب: استغاث يستغيث إذا طلب الغوث. اللهم أغثنا: أي: فرج عنا وأدركنا.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره).

مع أن الاستغاثة دعاء ولكن أخص، فهي طلب الغوث في حال الشدة؛ لأن المستغيث في شدة وكربة يطلب الغوث ممن بيده الخير والنفع والضر، والدعاء أعم من الاستغاثة، ولذلك عطف الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدعاء على الاستغاثة من باب عطف العام على الخاص، فكل استغاثة هي دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.

حديث أنس قال: «قحَطَ المطرُ عامًا، فقامَ بعضُ المسلِمينَ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في يومِ الجمُعةٍ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ؛ قحَطَ المطرُ، وأجدَبتِ الأرضُ، وَهلَكَ المالُ. قالَ: فَرفعَ يدَيهِ، وما نَرى في السَّماءِ سَحابةً، فمدَّ يدَيهِ حتَّى رأيتُ بَياضَ إبطيهِ يستَسقي اللَّهَ عزَّ وجلَّ ….» الخ. أخرجه البخاري ومسلم.

وفي رواية للبخاري: «أنَّ رجلًا دخَلَ المسجِدَ يومَ الجمعَةِ، ورسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- قائِمٌ يخطُبُ، فاستقبَلَ رسول اللهِ -صلَّى الله عليهِ وسلمَ- قائمًا، ثم قالَ : يا رسولَ اللهِ؛ هلكَتْ الأموالُ، وانقطَعَتْ السبلُ، فادْعُ اللهَ يغِيثُنا. فرفَعَ رسولُ اللهِ -صلَى الله عليهِ وسلمَ- يدَيهِ، ثمَّ قالَ: اللهمَّ أغَثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا».

قال ابن القيم في النونية:

وهو المغيث لكل مخلوقاته … وكذا يجيب إغاثة اللهفان

قال ابن حجر في الفتح: (قال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثاً وغياثاً؛ سقاهم المطر، وأغاثهم، أجاب دعاءهم).

قال ابن عثيمين: (المغيث: الظاهر أنه وصف من أوصاف الله عز وجل، قال الله تعالى: {وينزل الغيث}، وقال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}. والمغيث: هو المنقذ من الشدة، فالغيث: الإنقاذ من الشدة).

قلتُ: وأما نزول المطر الفينة بعد الفينة، ولم يتأخر على العباد، وليس هناك شدة= فإنه يسمى مطراً، وفيه بركة، ولا يسمى غيثاً، ولا تشرع صلاة الاستسقاء.

قال أنس بن مالك: «أصابنا ونحن مع رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مطرٌ. قال: فحسَر رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ثوبَه، حتى أصابه من المطرِ، فقلنا: يا رسولَ اللهِ؛ لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: لأنه حديثُ عهدٍ بربِّه تعالى». أخرجه مسلم.

الوجه الثالث:

القول بأن المطر لا ينبت النبت= قول غير صحيح، فالمطر ينبت النبت والزرع، والمطر لا يختلف اثنان أنه ينبت الأرض.

وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل المطر، قال: «اللهم اجعله صيباً نافعاً».

وكان يقول: «مطرنا بفضل الله ورحمته».

فالمطر فيه بركة وخير، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ المطَرِ، لا يُدْرَى أوَّلُهُ خيرٌ أوْ آخِرُهُ». أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمار بن ياسر.

الوجه الرابع:

القول بأن المطر لايخرج الزرع، وإنما هو عذاب= قول غير صحيح، مخالف للنصوص الشرعية، بل النصوص دلت على خلاف هذا الكلام.

والله عز وجل يمطر على خلقه إما مطر سوء أو مطر خير، فالمطر قد يجعله الله عذاباً على أمة، وقد يجعله عليهم رحمة.

ونزول المطر من مواطن الإجابة في الدعاء، قال -صلى الله عليه وسلم- : «ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر». صحيح الجامع للألباني.

قال ابن القيم في كتابه “الوابل الصيب”: الفصل الثلاثون: في الذكر والدعاء عند زيادة المطر.

قال زيد بن خالد الجهني: «خرَجْنا مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عامَ الحديبيةِ، فأصابَنا مطرٌ ذاتَ ليلةٍ، فصلى لنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صلاةَ الصبحِ، ثم أقبلَ علينا، فقال: أتدرون ماذا قال ربُّكم؟ قلنا: الله ورسولُه أعلمُ. فقال: قال الله: أصبَحَ مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ بي، فأما مَن قال: مُطِرْنا برحمةِ اللهِ وبرزقِ اللهِ وبفضلِ اللهِ؛ فهو مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكبِ، وأما مَن قال: مُطِرْنا بنجمِ كذا وكذا، فهو مؤمنٌ بالكوكبِ كافرٌ بي». أخرجه البخاري.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ذكر كلمة مطرنا لقوله: «فأما مَن قال: مُطِرْنا برحمةِ اللهِ، وبرزقِ اللهِ وبفضلِ اللهِ؛ فهو مؤمنٌ بي».

وأيضاً في الحديث أن المطر رحمة وليس عذاباً إلا إذا شاء الله، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «مطرنا برحمة الله». فهو فيه رحمة للمؤمنين.

والصحابة ذكروا كلمة (مطر).

قال ابن عباس: «جمع رسولُ اللهِ /صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ- بين الظهرِ والعصرِ، والمغربِ والعشاءِ، بالمدينةِ، في غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ». أخرجه مسلم .

الوجه الخامس:

قوله تعالى: {وينزل الغيث} ليس في الآية نفي المطر.

وقد بوب البخاري باباً فقال: (باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله).

وذكر حديث عبدالله بن عمر قال: «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يعلمُها إلا اللهُ: لا يعلمُ ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلمُ ما تغيضُ الأرحامُ إلا الله، ولا يعلمُ متى يأتي المطرُ أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، ولا يعلمُ متى تقومُ الساعةُ إلا اللهُ». أخرجه البخاري.

فدل على أن الغيث هو المطر كما ذكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ولا يكره قول: اللهم أمطرنا. ذكره أبو المعالي، يُنظر في “كتاب الفروع”.

وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

الوجه السادس:

حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليست السنة ألا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض».

السَّنَةُ: بفتح السين، ويكون المراد القحط، وليس بكسرها؛ لأن لفظها بالكسر خطأ، ويكون المعنى النعاس، كما قال تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}.

قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس السَّنَةُ ألا تُمطَروا؛ إنما السَّنَةُ أنْ تُمطروا فلا تُنبتُ الأرضُ شيئًا».

وهذا يقع، أحياناً تأتي أمطار خفيفة، ويكون الربيع كثيراً، وأحياناً تحصل أمطار كثيرة، ولا تنبت الأرض، وقد تكون عقوبة من الله بسبب المعاصي والذنوب؛ ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

قال المظهري الحنفي: (لا تظنوا الرزق والبركة من المطر، بل الرزق والبركة من الله تعالى، فرب مطر لا ينبت منه شيء، وهذا ليس نهيًا عن الاستسقاء والاستمطار، بل الاستسقاء والاستمطار سنة، ولكنه نهي عن اعتقاد حصول الرزق بنزول المطر، وعدم حصول الرزق بعدم المطر، بل ليكتسب العبد وليعلم أن الرزق من الله تعالى، وليستمطر وليعلم أن الرزق من الله تعالى).

قلتُ: فالحنفي -رحمه الله/ يريد أن ينبه أن الله قد يبطل السبب وليس له أثر) لأن الفاعل الحقيقي هو الله، فالمسلم يجب عليه ألا يعتمد على السبب وينسى المسبب، والفاعل الحقيقى وهو الله عز وجل.

قال ابن عثيمين: (وينبغي إذا نزل المطر أن يقول الإنسان: اللهم صيباً نافعاً. يدعو الله بأن يكون صيباً نافعاً؛ لأن المطر ربما ينزل ولا ينفع، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-).

قال المباركفوري: (والمعنى: لا تظنوا أن الرزق والبركة من المطر، بل الرزق من الله تعالى، فرب مطر لا ينبت منه شيء، فالقحط الشديد ليس بأن لا يمطر، بل بأن يمطر ولا ينبت).

والله أعلم .

كتبه:

أبو محمد/ فيحان بن سرور الجرمان.


شارك المحتوى: