الحساب الفلكي في دخول رمضان وخروجه قول شاذ مطرح


الحساب الفلكي في دخول رمضان وخروجه قول شاذ مطرح

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ……………………. أما بعد:

فإن دين الله محكم من حكيم عليم كما قال تعالى ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) وقال (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وقال (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) فما شدّد فيه شددنا ، وما يسّر فيه يسرنا ، فنحن عبيد لله لا نخرج عما يريده سيدنا سبحانه كما أخرج أبو داود عن عبد الله بن الشخير –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” السيد الله تبارك تعالى “.

ومن ذلك أن الشريعة جعلت دخول شهر رمضان بأحد أمرين اثنين :

الأمر الأول / رؤية الهلال كما قال تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وكما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته “. وهذا بالإجماع.

الأمر الثاني / إن لم يروا الهلال أكملوا شهر شعبان ثلاثين يوماً كما في البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً “. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة.

قال ابن حجر في فتح الباري (4 / 123):” وقال ابن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا قلت ونقل بن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة”.

و قال ابن هبيرة (4/89):” واتفقوا -أي المذاهب الأربعة- على أن صوم رمضان يجب برؤية الهلال، أو كمال شعبان ثلاثين يوماً عند عدم الرؤية، وخلو المطلع عن حائل يمنع الرؤية “.

وأحدث الناس طريقة ثالثة لا يريدها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي إدخال شهر رمضان بالحساب الفلكي، وهذه الطريقة طريقة مُحدثة بدعية محرمة لأسباب منها :

السبب الأول / أنها مخالفة للنصوص الشائعة في إدخال الشهر بأحد الطريقين.

السبب الثاني / أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يتخذوا هذه الطريقة مع أنها موجودة في زمانهم، وكل وسيلة كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يتخذوها ولم يتخذوها فاتخاذها بدعة محدثة، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم.

السبب الثالث/ أن العلماء مجمعون على عدم اتخاذ الحساب الفلكي طريقاً للحكم بدخول شهر رمضان، كما حكى الإجماع جمع من العلماء منهم ابن المنذر، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر وأقرّه، وسيأتي -إن شاء الله- عن ابن عبد البر وأبي الوليد الباجي وابن تيمية .

قال ابن عبد البر (التمهيد (14/352):” ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين – فيما علمت – باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه – والله أعلم – ولو صح ما وجب اتباعه لشذوذه ولمخالفة الحجة له ، وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث فاقدروا له – نحو ذلك . والقول فيه واحد، وقال ابن قتيبة في قوله: “فاقدروا له” أي: فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له ، وليس هذا من شأن ابن قتيبة ، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب “.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25 / 132):” فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز . والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة . وقد أجمع المسلمون عليه . ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا . وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه . فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم “.

وقال ابن حجر في فتح الباري (4 / 127):” وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم “.

وقد أثير على هذا عدة شبهات ما كان ينبغي أن يغتر بها لأنها من المتشابه ، والمتشابه يرد إلى المحكم كما هي طريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم خلافاً لمن في قلبهم مرض قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

الشبهة الأولى / أن الحساب الفلكي أدق من الرؤية إذ قد يكون الهلال هلَّ لكن لم يُر، أو وافق أن يأتي شهاب في محل الهلال فيظن الهلال وليس كذلك .

وكشف هذا: أن الله تعبدنا برؤيتنا لا بواقع الحال كما قال رسول صلى الله عليه وسلم :” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”، ومفهوم المخالفة إن لم نره فلا نصوم فهو يأمرنا إن لم نره أن نفطر، وأصحاب الحساب الفلكي سلكوا مسلك العنت وتكليف النفس بما لم يرده الله ولو بالإشارة، فإنه سبحانه علّام بما سيكون ولو كان يريد الحساب الفلكي لدل عليه، فلما لم يفعل دلّ على أنه غير مراد شرعًا.

ثم لو قدر أنه قد سقط شهاب فوافق محل الهلال والناس يتراءون الهلال فظنوه هلالاً ، فإن الله لم يكلفهم إلا بما رأوه وظنوه بالظن الغالب أنه هلال، فإن الصحابة لما تراءوا الهلال ورأوه فقد يكون نيزكاً أو شهاباً، ومع ذلك عاملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأوه من باب الظن الغالب، فهذه الشريعة شريعة سمحة قد شرعت هذه الطريقة وبنت على عدم رؤية الهلال بهذه الطريقة إكمال شهر شعبان فحسب، فكيف يشاق الله في حكمه بالرد إلى الحساب الفلكي .

الشبهة الثانية / أن الحساب الفلكي كالحساب في تحديد أوقات الصلوات، فكما يجوز الثاني يجوز الأول فلا فرق ، وكشف هذا أن الشريعة تعبدتنا في أوقات الصلوات بواقع الحال وهو أن وقت المغرب يدخل بغروب الشمس وهكذا .

وهذه الحسابات الزمنية تبين واقع الحال الذي تعبدنا به بخلاف دخول الشهر فالشريعة تعبدتنا برؤيتنا لا بواقع الحال فلا سواء .

الشبهة الثالثة / أن يستفاد من الحساب الفلكي في تحديد ولود الهلال وهل يمكن أن يرى أو لا يمكن .

وكشف هذا: أن الشريعة أمرتنا بالترائي فإن رأيناه صمناه وإن لم نره أفطرنا، ولم تأمرنا بما زاد على ذلك من أن الهلال ولد أو لم يولد كما تقدم بيان ذلك .

فمما تقدم يتبين عدم جواز اعتبار الحساب الفلكي وأن القول باعتباره قولٌ شاذ مخالف لإجماع أهل العلم؛ وذلك أن ضابط القول الشاذ هو القول المخالف لإجماع أهل العلم .

وينبغي أن يعرف ضابط القول الشاذ وأن نجعل أحكامنا على الأقوال العلمية مضبوطًا بالضوابط الشرعية بعيداً عن تأثير العادة والألفة والحزب .

فإن المسائل الشرعية إذا لم تضبط بضوابط الشرع اضطرب الناس فيها وتعاملوا معها بمقتضى الجهل أو الهوى، فتارة يدخلون فيها ما ليس منها ، وتارة يخرجون منها ما هو منها.

ومما يتعلق بأحكام رؤية الهلال أن العلماء تنازعوا في رؤية أهل بلد للهلال هل يلزم جميع بلدان المسلمين الصيام أم لكل بلد حكمها أم العبرة باتفاق المطالع؟ والأظهر – والله أعلم – أن بلاد المسلمين واحدة فإذا رأى أهل بلد الهلال وجب على جميع المسلمين متابعته؛ لأن النصوص جاءت بالرؤية بألفاظ عامة، وقد نسب ابن مفلح هذا القول للمذاهب الأربعة على المشهور عندهم، أما ما أخرج مسلم عن كريب قال: قدمت الشام ، واستهل علي هلال رمضان ، وأنا بالشام ، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة . فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال: لكن رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فهو محمول على أنه إذا صام أهل بلد بطريقة شرعية من رؤية الهلال أو الإكمال، ثم بلغهم بعدُ أن من بلاد المسلمين من رأى الهلال قبل فإنهم لا يقضون بل يكملون صيامهم حتى يروا الهلال أو يكملوا الشهر، كما هو قول ابن عبد البر وابن تيمية.

فعلى هذا حكم المسلمين واحد في ابتداء الصوم إذا علموا برؤية غيرهم، أما من كانت دولتهم ممن تعتمد الحساب الفلكي فلا عبرة بها ويصير الناس كأنهم لم يروا الهلال فيكملون شعبان ثلاثين يوماً إذا لم يعلم أن غيرهم من المسلمين رأوا الهلال، ومثل هذا حال الأقلية المسلمة في دول الكفار فلا يصح أن يتابعوا من يعتمد الحساب الفلكي بالإجماع -كما تقدم-.

ودونكم بعض كلمات أهل العلم المعاصرين في هذه المسألة :

قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية (10 / 104):” ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، وهو علم النجوم، أو علم الحساب الفلكي، وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان، والإفطار منه برؤية هلال شوال، وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات قال الله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين » فجعل عليه الصلاة والسلام الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان، والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال، ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب، وعلى هذا جرى العمل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والخير، فالرجوع في إثبات لشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لا خير فيها، ولا مستند لها من الشريعة …”.

ومن فتاواهم رقم ( 3127 ): ” لا يعتبر الحساب الفلكي أصلا يثبت به بدء صيام شهر رمضان ونهايته، بل المعتبر في ذلك رؤية الهلال، فإن لم يروا هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان أكملوا شعبان ثلاثين يوما من تاريخ رؤيته أول الشهر، وكذا إذا لم يروا هلال شوال ليلة ثلاثين من رمضان أكملوا عدة رمضان ثلاثين يومًا “.

وقال شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز-رحمه الله- كما في مجموع فتاواه (15 / 110): ” ومن هذا يتبين أن المعول عليه في إثبات الصوم والفطر وسائر الشهور هو الرؤية، أو إكمال العدة، ولا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءًا وانتهاءً بإجماع أهل العلم المعتد بهم ، ما لم تثبت رؤيته شرعًا. وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله وقوله مردود ؛ لأنه لا كلام لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع إجماع السلف. أما حساب سير الشمس والقمر فلا يعتبر في هذا المقام ؛ لما ذكرنا آنفا ، ولما يأتي:

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: « صوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته » وحصر ذلك فيها بقوله: « لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه » .

وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم. ولو كان قولهم هو الأصل وحده، أو أصلا آخر مع الرؤية في إثبات الشهر لبين ذلك. فلما لم ينقل ذلك ، بل نقل ما يخالفه ، دل ذلك على أنه لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة. قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }.

ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم، أو غلبة الظن بوجود الهلال، أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد ، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من غيرهم. وإن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة ؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس من العامة والخاصة في الصحاري والبنيان ، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة؛ لأن أغلب الأمة لا يعرف الحساب، ودعوى زوال وصف الأمية بعلم النجوم عن الأمة غير مسلمة … “.

أسأل الله أن يمن علينا ببلوغ رمضان ويجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبدالعزيز بن ريس الريس

المشرف على موقع الإسلام العتيق

http://islamancient.com

28 / 8 / 1431هـ

تمت المراجعة والإصلاح

24 / 8 / 1438هـ


شارك المحتوى: