البدعة لغة وشرعا


الحمد لله رب العالمين ؛ والصلاة والسلام على رسوله الأمين ؛ وآله وصحبه والتابعين … أما بعد : فإن من علامات أهل التقى أنهم يتعلمون الحق ويعملون به ؛ ويردون علم ما جهلوا إلى عالمه ؛ وبذلك -فقط- يحصل لهم رضى الله تعالى ؛ الذي لا يضر معه سخط ساخط .

وأما أهل الزيغ والانحراف ؛ فإن من أبين سماتهم أنهم يتكئون -في انحرافهم عن الصراط المستقيم- على المتشابه من القول ؛ ويُلبسون الحق بالباطل ؛ فيُفتنون ويَفتنون مَن أراد اللهُ فتنته !

ومن ذلك تلبيسهم على الناس باستحسان البدع ؛ حتى صارت عندهم أولى من الأخذ بالسنن الثابتة ؛ فصاروا يتقربون إلى ربهم بما نهاهم عنه !

🔹 وصدق أيوب السختياني رحمه الله إذ يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا ؛ إلا ازداد من الله بعدا !
[ البدع لابن وضاح (٦٧) ]

فينبغي للسائر إلى ربه أن يخشى البدعة ويحذرها على نفسه وأهله .. فإنها الفتنة المهلكة التي تشتد كلما طال العهد وبَعُد عن نور النبوة وزمنه …

🔹 قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق ؛ والرجل والمرأة ؛ والصغير والكبير ؛ والعبد والحر ؛ فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟! ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ! فإياكم وما ابتدع ؛ فإن ما ابتدع ضلالة .
[ صحيح سنن أبي داود (٤٦١١) ]

ويكفي البدعة شؤمًا ومهانةً أنها على دين لم يأذن به اللهُ ورسولُه ﷺ ؛ ولم يعرفْها الصحابةُ -رضي الله عنهم- وهم قدوة المتقين !

🔹 قال إبراهيم النخعي رحمه الله : كفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالُهم أعمالَ أصحاب نبيهم ﷺ .
[ إعلام الموقعين (٤/١٥١) ]

ويكفي المبتدع ذلًّا وملامةً أنه محجوب عن التوبة ما بقي على بدعته !

🔹 قال رسول الله ﷺ : إن اللهَ حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته .
[ صحيح الترغيب والترهيب (٥٤) ]

وبعدُ فهذه نبذة مجتزأة في بيان حد البدعة وأقسامها ؛ حتى لا يلتبس الأمر ؛ وتختلط البدعة المشينة بالسنة المزينة ؛ واللهَ أسألُ التوفيق والسداد ؛ والهدى والرشاد …

البدعة : هي ما أُحدث على غير مثال سابق ؛ وهي على قسمين :

١) الأول : ما لا علاقة له بالدين ؛ فهذه بدعة من جهة اللغة ؛ كالطائرات والسيارات ونحو ذلك مما اختُرع في هذه الأزمان ؛ ولم يكن معروفًا من قبل .

والأصل في هذه البدع أنها مباحة ؛ ما لم تتعارض مع نص من نصوص الشريعة ؛ فتأخذ حكمه وقتئذ .

٢) الثاني : ما له علاقة بالدين ؛ وهو ما يُراد منه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ؛ لكنه لم يوجد في العهد النبوي ؛ مع وجود المقتضي لفعله ولم يُفعل ؛ ولم يكن ثمة مانع من فعله .

== أما وجود المقتضي ؛ فهو أن تتوفر دواعي الفعل ؛ لكنه لم يُفعل ؛ مثل ترك الأذان لصلاة العيد ؛ وقد توفر الداعي لذلك ؛ وهو دعوة الناس لهذه الصلاة كما يُدعون للصلوات الجامعة الأخرى … فلما لم يأمر ﷺ بالأذان ؛ ولم يُفعل … دل ذلك على أن الأذان لصلاة العيد بدعة محدثة .

وأما مسألة جمع القرآن -مثلًا- فلم يوجد الداعي إلى جمعه في العهد النبوي ؛ لأن الوحي مستمر في تنزيل القرآن ؛ وإنما وجد في عهد أبي بكر رضي الله عنه عندما قُتل جمعٌ من سادات الصحابة وقراء القرآن في معركة اليمامة ؛ فخاف المُلهَم عمر -رضي الله عنه- أن يضيع شيئًا من القرآن ؛ فأشار إلى أبي بكر أن بَجمعه في مصحف واحد ؛ ففعل ؛ فكانت حسنة من حسناته رضي الله عنه .

== وأما انتفاء المانع ؛ فهو أن يتوفر الداعي للفعل ؛ لكن يمنع منه مانع ما ؛ مثل اتخاذ مكبرات الصوت واسطة يُنقل فيها صوت المؤذن إلى أهل البلد ؛ فقد كانت الحاجة لذلك موجودة ؛ لكن منع منها عدم وجود تلك المكبرات في ذلك العهد .

وكذلك مثل مسألة اجتماع الناس في صلاة التراويح على إمام في المسجد ؛ فإن النبي ﷺ كان يصلي التراويح بالناس ثم ترك ذلك لمانع ؛ وهو خشية أن تفرض عليهم هذه الصلاة ؛ فتَشق على بعض المسلمين … فلما انقطع الوحي بموت النبي ﷺ ؛ تنبه الفاروق رضي الله عنه إلى أن المانع من عدم الاجتماع للصلاة قد زال ؛ فأمر أُبيَّ بأن يَؤمَّ الناس ؛ فكان جمعهم هذا إحياء لسنة رسول الله ﷺ .

فتبين مما سبق أن ما توفر الداعي لفعله في العهد النبوي ؛ ولم يوجد مانع من الفعل ؛ ثم لم يُفعل ؛ فإن عدم الفعل هو السنة ؛ وفعله هو البدعة والضلالة …

💡 قال الإمام ابن القيم رحمه الله : فإن تركُه ﷺ سنة ؛ كما أن فعله سنة .
[ إعلام الموقعين (2/390) ]

وقد جاءت الشريعة بالزجر عن البدع ؛ مع بيان فسادها ؛ وعدم انتفاع صاحبها منها .

🔹 أما الزجر عنها ففي مثل قول النبي ﷺ : كل بدعة ضلالة ؛ وكل ضلالة في النار.
[ صحيح سنن النسائي (١٥٧٧)

🔹 وأما فساد هذه (العبادة) وردها ؛ ففي مثل قول النبي ﷺ : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد .
[ صحيح مسلم (١٧١٨) ]

وهذه البدع كلها مذمومة شرعًا ؛ منهي عنها ؛ باطل التعبد بها … لا يخرج عنها بدعة من البدع المحدثة ؛ وإن حسُن قصد فاعلها ؛ أو ظنها حسنة … فليس في دين الإسلام بدعة حسنة !

🔹 قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كل بدعة ضلالة ؛ وإن رآها الناس حسنة !
[ السنة للمروزي (٦٨) ]

🔹 وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- عند حديث : (كل بدعة ضلالة) : من جَوامع الكلم ، لا يَخرجُ عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين .
[ جامع العلوم والحكم (1/266) ]

🔹 وقال العلامة الشاطبي رحمه الله : قول النبيِّ ﷺ : (كل بدعة ضلالة) محمولٌ عند العلماء على عمومه ، لا يُستثنى منه شيء ألبتة .
[ فتاوى الشاطبي (181-180) ]

وقد قسم أهلُ العلم البدعةَ في الدين إلى قسمين :

١) الأول: البدع الحقيقية : وهي ما لا دليل عليها في الشرع ؛ كمن يحدث عبادة من غير نص شرعي ؛ فيستحب أو يوجب ما لم يستحبه ولا يوجبه اللهُ ولا رسولُه ﷺ ؛ فهذه عبادات لم تأت من عند الله ؛ فلا يحبها الله ؛ ولا يرضاها ؛ ولا يُثيب عليها …

🔹 وقد جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال : بينا النبيُّ ﷺ يَخطُبُ ، إذا هو برجلٍ قائمٍ ؛ فسَأل عنه ؛ فقالوا : أبو إسرائيلَ ، نذَر أن يقومَ ولا يَقعُدَ ، ولا يَستَظِلَّ ، ولا يَتكلَّمَ ، ويَصومَ .
فقال النبيُّ ﷺ : مُرْهُ فليتَكلَّم ولْيستظلَّ ولْيَقعُد ، ولْيُتِمَّ صَومَه .
[ صحيح البخاري (6704) ]

فانظر كيف نهاه النبي ﷺ عن التقرب إلى الله بما لم يأت فيه نص من الشرع ؛ ولم يقره على فعله ؛ ولم يعتبر حُسن نيته ؛ وأنما أقره على ما كان مشروعا ؛ وهو الصوم .

٢) البدع الإضافية : وهي ما ثبت أصلها في الشرع ؛ لكن الإحداث طرأ على تفاصيل أداء هذه العيادة ؛ من الزمان والمكان والكيفية .. مثل كون محبة النبي ﷺ (كما هو معلوم) ثابتة في الشرع ؛ بل هي ركنه الذي لا يصح إيمان العبد إلا به … إلا أن ترجمة هذه المحبة على غير مراد الشرع يكون مذمومًا غير محبوب ؛ كمن يحتفل في يوم مولده بالغناء والرقص والأناشيد ..!

🔹 وقد بلغ عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه أن أناسًا اجتمعوا في بيت من بيوت الله ؛ وجلسوا فيه حِلقًا يذكرون اللهَ ويُسبِّحونه … لكنهم جعلوا هذه الأذكار بأصوات جماعية ؛ وكانوا يَعدُّون تسبيحهم وتهليلهم بالحصى ؛ فوقف عليهم فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟!
قالوا يا أبا عبدِ الرحمن : حصًى نعُدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتَّسبيحَ .
قال : فعُدُّوا سيئاتِكم ؛ فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ من حسناتكم شيء !
[ السلسة الصحيحة (٥/١١) ]

فتأمل كيف أنكر ابن مسعود عليهم ما أحدثوه من هيئة أداء هذه العبادة ؛ ولم يعتبر مقاصدهم الحسنة ؛ مع علمه أن ذكر الله عبادة حث عليها الشارع الحكيم ؛ ؛ وجعلها من أقرب علامات الإيمان وأبينها … لكن العبادة لا تكون عبادة مقبولة حتى تحقق شرطي الإخلاص لله ؛ والموافقة لرسوله ﷺ ؛ وإلا كانت هباء منثورا .

✊🏻 وقد جاء النهي عن البدعة الحقيقة والإضافية في حديث واحد ؛ أترك ذكره ؛ ليكون سؤالا للقارئ فيبحث عنه ؛ ويأتي به ؟

وأختم مقالتي بقول عظيم ؛ من إمام عظيم ؛ ينبغي لكل مدع أنه على مذهبه ؛ أو كان محبًّا له لإمامته … أن يأخذ بقوله هذا ؛ ويجعله منهجًا وطريقة له في حياته ؛ فإن فيه سبيل النجاة لمن طلبه ؛ وطريق الهداية لمن نشده …

🔸 قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : عليك بالأثر ؛ وطريقةِ السَّلف ، وإياك وكلَّ مُحْدَثة ؛ فإنها بدعة .
[ ذم التأويل لابن قدامة (13) ]

أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ؛ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ؛ أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

فراس الرفاعي
فجر الجمعة ٢٨ صفر ١٤٣٩ هـ


شارك المحتوى:
1