الإقبال على القرآن في رمضان وشيء مِن المفطرات المعاصرة


الإقبال على القرآن في رمضان وشيء مِن المفطرات المعاصرة

الخطبة الأولى:ـــــــــــــ

الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام علىعبده ورسوله محمد، أعلمِ الخلق بالله ودينه وشرعه، وأنصحهم للناسوأنفعهم، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات، ومن تبعهم إلى يومالحشر والجزاء.

أما بعد، أيها المسلمون:

فإنَّ مِن أعظم وأنفع ساعات المسلم التي تزيد في تقواه لربه سبحانه هي تلكالساعات التي يقضيها مع كتاب ربه القرآن، فيتلوا، ويتدبَّر، ويتعلَّم الأحكام،ويأخذ العِظَة والعِبرة، فأكثِروا مِن الإقبال على القرآن الكريم لاسيما في هذاالشَّهر الطيِّب الْمُطيَّب رمضان، والزَّمن الفاضل الجليل، وحُثُّوا أهليكم رجالًاونساءً، صغارًا وكبارًا، على تلاوته، والإكثار منه، واجعلوا بيوتكم ومراكبكموأوقاتكم عامرةً به، فإنَّ أجر العمل يُضَاعف بسبب شرف الزمان الذي عُمِل فيه،ورمضان مِن أشرف وأعظم أزمنة السَّنَة، بل هو شهر نزوله كما قال ربكمسبحانه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىوَالْفُرْقَانِ }.

وقد كان نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم يُقبل على القرآن في شهر رمضان إقبالًاخاصًّا، فكان يتدارسه مع جبريل – عليه السلام – كلَّ ليلة؛ إذ صحَّ عن ابنعباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُيَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ )).

وكان لسلفكم الصالح – رحمهم الله – مع القرآن في هذا الشهر الجليل شأنًاعظيمًا، وحالًا عَجَبًا؛ فقد كانوا يُقبلون عليه إقبالًا كبيرًا، ويهتمُّون به اهتمامًامتزايدًا، ويتزوَّدُون مِن قراءته كثيرًا، ويعمرون به جُلَّ أوقاتهم، فقد صحَّ عنابن مسعود – رضي الله عنه -: (( أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ )).

وصحَّ عن الأسود بن يزيد – رحمه الله – أنه: (( كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِرَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ )).

وكان الإمام البخاري – رحمه الله – يقرأ في كلّ يوم وليلة مِن رمضان ختمةواحدة.

وكان الإمام الشافعي – رحمه الله – يختم القرآن في كلّ يوم وليلة مِن شهررمضان مرتين.

وكل هذا مسارعة للخيرات، وطلبًا لزيادة الأجر والثواب، ولأجل أن الحسناتتضاعف في شهر رمضان، وقد صحَّ عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال:(( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ،أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ )).

أيها المسلمون:

يقول الله – جلَّ وعلا – مذكرًا لنا ومعاتبًا: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَقُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُفَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }.

وثبت عن نافع مولى ابن عمر ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( كان عبد الله بن عمر إذا قرأهذه الآية: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } بكى حتى يَبُللحيته البكاء، ويقول: بلى يا رب )).

بلى والله قد آنَ لها أن تخشع، وآنَ لها أن تلين، وآنَ لها أن تنقاد، وآنَ لها أنتمتثل، وآنَ لها أن تَنـزَجِر.

آنَ لها إذا سمعت قولَكَ سبحانك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةًنَصُوحًا } أن تتوبَ وتندم، وتهجرَ الذنوبَ والعصيان إلى الطاعة وأسبابالرحمة والمغفرة.

آنَ لها إذا سمعت قولَكَ سبحانك: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَالرَّاكِعِينَ } أن تُقيمَ الصلاة وتحافظ عليها في أوقاتها، ولا تُقصِّرَ أو تتهاون فيشيءٍ مِن أحكامها، وأن تشهدها مع الرُّكَّع السُّجود في المساجد.

آنَ لها إذا سمعت قولَكَ سبحانك: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْيَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } أن تُمسك اللسان وتحجزه عن غيبة الناس،والخوض في أعراضهم، وهتكِ سَترهم، وأن تفرّ مِن ذلك كما تفرّ مِن أكل لحمجسد أخيها الميت المسلم.

آن لها إذا سمعت قولَكَ سبحانك: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوافُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } أن تحفظَ الأبصار عن النظر إلى ما حَرَّمتَ عليها فيالخلوة والعلن، وفي الأسواق والطرقات، وفي الفضائيات والإنترنت، وعنالنساء والأحداث والمردان، وأن تحفظ الفروج عن الزِّنا والاستمناء، وعن عملقوم لوط، وعن السِّحاق، وعن التكشف وإظهار شيءٍ مِن العورات والمفاتن.

آنَ لها إذا سمعت قولك سبحانك في وصف الصالحين من عبادك: { وَإِذَا سَمِعُوااللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِيالْجَاهِلِينَ } أن تُعرِض بالبدن والأسماع والمال عن سماع كلِّ محرم، عن سماعالغناء والموسيقى، وسماع الأفلام والمسلسلات، وسماع الغيبة والنميمة.

آنَ لها إذا سمعت قولك سبحانك: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَافَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْبَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أن تبتعدَ عن سماع محاضرات وكلماتودروس وخطب أهل البدع والأهواء، وأن لا تقعد في مجالسهم وملتقياتهم،ولا في موالدهم ومآتمهم.

آنَ لها إذا سمعت قولَكَ سبحانك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْبِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أن تجتنب أكل المال الحرام عنطريق الرِّبا أو السرقة، أو شهادة الزور، أو الغشِّ والخداع والتغرير في البيعوالشراء، أو الغش في إصلاح الأجهزة والآلات والمراكب، أو الغش فيالصناعة والزراعة والبناء والنجارة والأسهم والمضاربات التجارية.

آنَ لها إذا سمعت قولَك سبحانك: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }أن تُقبل على القرآن قراءةً وحفظًا، وتلاوةً وتدبرًا، وتعلمًا وعملًا، وتحكيمًاوانقيادًا، ودعوةً وتعليمًا.

أيُّها المسلمون:

قال الله – عز وجل – في سورة القمر: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

فأخبرنا سبحانه في هذه الآية وآنسنا وأسعدنا بأنه قد يسَّر لنا هذا القرآنلِنذكُره به، ونتذكَّرَ بما فيه، ونجعلَه لنا ذكَرى؛ فيسَّر تعلُّمه، ويسَّر تلاوته، ويسَّرحفظه، ويسَّر تدبُّره، ويسَّر تعلُّم أحكامه، ويسَّر أوامره ونواهيه للامتثالوالعمل.

ولكن وا أسفاه كم نُعطِي لكتاب الله في اليوم من الوقت؟ وكم نُعطِي للقنواتالفضائية والإنترنت والهاتف الجوال؟ كم نُعطِي لكتاب الله مِن أوقاتنا؟ وكمنُعطِي للأخبار والأحداث وقيل وقال؟ كم تُعطَى لكتاب الله مِن الأوقات؟ وكمتُعطَى للرياضة والرياضيين والصحف والمجلات؟ كم نُعطِي لكتاب الله مِنأوقاتنا؟ وكم نُعطِي للقاء أصحابنا والخروج والمسامرة معهم؟.

وقد قال ربنا – جل وعلا – محذرًا لنا في سورة الفرقان: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّإِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }.

ويا لله ما أكثر هجر القرآن في زمننا هذا، بل ومِنَّا، ومِن أهلينا، ومِمَّن حولنا،وفي بيوتنا ومراكبنا، وفي إقامتنا وأسفارنا.

كم مِن هاجرٍ لقراءته؟ وكم مِن هاجرٍ لسماعه؟ وكم مِن هاجرٍ لتدبره؟ وكم مِنهاجرٍ للعمل به؟ وكم مِن هاجرٍ لتحكيمه؟ وكم مِن هاجرٍ للاستشفاء به؟ بل إنَّبعض الناس ربَّما تمرّ عليه الأيام والأسابيع والشهور وهو لا يقرأ مِن القرآن إلاما يقرؤه في صلاته.

رزقني الله وإياكم تلاوة كتابه آناء الليل والنهار، إنه سميع مجيب..

الخطبة الثانية:ـــــــــــــ

الحمد لله ذي الفضل والإكرام، والجود والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحدهلا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فاللهم صلِّ عليه وعلى آلهوأصحابه الأخيار، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

فاتقوا الله ربكم – جلَّ وعلا – بالإقبال على كتابه القرآن تعلمًا وتلاوة وحفظًا،وبالتفقه في أحكام دينه وشرعه، فإنه مَن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين.

ألا وإن مِن جملة الأشياء المستجدة في عصرنا الحديث، ويَحسن بنا معرفةأحكامها، لأنه يفسد بها الصوم إذا فعلها الصائم:

غسيل الكلى بنوعية، سواء كان الغسيل عبر الآلة التي تَغْسِل في البيت، أو عبرالجهاز الذي يَغسل في المستشفى.

ومنها أيضًا:

الإبر المغذية، لأنها تغذي الجسم كالطعام والشراب، فتأخذ نفس حكمه.

ومنها أيضًا:

منظار المعدة، لأنه قد وصل إلى المعدة، وسواء كان معه مواد دهنية تُسهلدخوله إلى المعدة أو لم يكن معه.

ومذهب عامة الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة: أن كل شيء يدخل المعدة يَفسدبه الصوم، سواء كان مغذيًا أو غير مغذٍّ كالنَّوى والحصى والخرز، وأشباه ذلك.

ومنها أيضًا:

قطرة الأنف إذا وجد المُقَطِّر طعمها في حلقه.

ومنها أيضًا:

التحاميل والأدوية التي تدخل عن طريق فتحة الشرج أو الدبر، لأنها متصلةبالمستقيم، والمستقيم متصل بالأمعاء، وتمتص الأمعاء ما دخل عن طريقه.

هذا وأسال الله تعالى أن يبارك لنا في رمضان، وأن يعينا على صيامه وقيامه،وأن يجعلنا فيه من الذاكرين الشاكرين المتقبلة أعمالهم، اللهم قنا شر أنفسناوالشيطان، واغفر لنا ولوالدينا وأجدادنا وسائر أهلينا وقراباتنا، اللهم اجعلالقرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم احقندماء المسلمين في كل مكان، وأعذهم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنبهمالقتل والاقتتال، وأزل عنهم الخوف والجوع والدمار، اللهم مَن أراد ديننا وأمتناوأمننا وجندنا وأموالنا بشر ومكر ومكيدة فاجعل تدبيره تدميرًا له، ومكرهمكرانًا به، واخزه وافضحه، ولا تمكِّن له على أحد مِن المسلمين، يا سميعالدعاء.


شارك المحتوى: