الخوف من الله


الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليما كثيرا أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه واعلموا أن طاعته أقوم وأقوى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واعلموا أن صحة الإسلام وصدق الإيمان يفتقر إلى دليل وبرهان، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).

قالت عائشة رضي الله عنه: يا رسول الله والذين يؤتون (ما آتوا وقلوبهم وجلة) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يتقبل منهم (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

إذا ما الليل أظلم كابدوه           وأهل الأمن في الدنيا هجوع

أطار الخوف نومهم فقاموا        فيسفر عنهموا وهموا ركوع

الخوف من الله من أعظم ما يزكي النفس ويطهر القلب ، فهو كما قال الامام ابن القيم رحمه الله: “من منازل  إياك نعبد وإياك نستعين  ، ومن أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد”.

الخوف من الله عبادة من أجل العبادات ، فهي طريق سار عليها الملائكة والنبيون ، وجادة سلكها السلف الصالحون . الخوف من الله ذلك الأمر الذي أقض مضاجع العباد ، وأظمأ نهار الصائمين .

كم فك الخوف من أسير شهوة ، وكم أعان على خلق كريم ، وكم منع من خلق ذميم ، و كم أيقظ من غافل ، أخرجه الخوف إلى النور ، كم بالخوف من عاصية عفت ، وغانية تنسكت ، فهو النار المحرقة للشهوات ، ما فارق قلب إلا خرب ، وما استقر في قلب إلا استقام . ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾ ومن فضائله أنه سبب للتمكين ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ ومن فضائله أنه علامة على الإيمان ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الخوف أمر يحبه الله كما عند الترمذي وحسنه الألباني قال صلى الله عليه وسلم «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين : قطرة دموع من خشية الله ، وقطرة دم تهرق في سبيل الله ..» الخوف سبب للنجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث منجيات : وذكر منها : خشية الله في السر والعلانية»

ومن فضائله أنه سبب للأمن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : وعزتي وجلالي ، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين ، إن أمنني في الدنيا ، أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن خافني في الدنيا ، أمنته يوم أجمع عبادي».

وهو سبب للنجاة من النار قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» ، الملائكة تخاف ربها ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾ ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾. الأنبياء يخافون ربهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾  .

سيد الأنبياء يقول عنه ربه جل وعلا ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وكان يقول صلى الله عليه وسلم «كيف أنعم وصاحب القرن قد ألتقم القرن ، وحنا الجبهة ، وأصغى السمع ، ينتظر متى يؤمر بالنفخ» .

أما أعظم جيل ، خريجو مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة توجل منها قلوبهم ، وتذرف منها عيونهم ، ولما قال صلى الله عليه وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً» غطى أصحابه وجوههم ولهم حنين وصفهم علي رضي الله فأحسن قال : لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى ، قد باتوا لله سجداً وقياماً ، يتلون كتاب الله ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح ، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين ، ثم نهض فما رئي بعدها ضاحكاً حتى مات .

فمقدمهم أبو بكر رضي الله عنه صديق الأمة المبشر بالجنة ، كان رقيق القلب ، غزير الدمع ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه ، تنسكب من عينيه العبرات ، ويكاد صوته أن ينحبس حتى لا يكاد يسمع .

عمر الفاروق الشديد الصلب ، عمر الذي يفر الشيطان من

الطريق الذي يمشي فيه ، كان في وجهه خطان أسودان من البكاء من خشية الله ،يقول عبد الله بن شداد سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته.

أما حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه فكان أسفلُ عينيه مثلُ الشّراكِ البالي من البكاء.

وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه يقول: ودِدْتُ أنِّي كنت كبشاً فيذبحُني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي.

ولما حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت وأنت؟

فقال: ما أبكي جزعاً من الموتِ أَنْ حلَّ بي، ولا دنياً تركتُها

بعدي، ولكنْ هُمَا القبضتان، قبضةٌ في النار وقبضةٌ في الجنة فلا أدري في أيِّ القبضتينِ أنا.

هذا خوف الأنبياء والرسل وأتباعهم ، فهل نحن على الدرب سائرين ، وبالآثار مقتفين، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من الأسباب الجالبة للخوف من الله: استشعار عظمة الله وقدرته وأسمائه وصفاته كقوله تعالى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.

قالت عائشة رضي الله عنها لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾.

ومما يعين على الخوف زيارة القبور ، والتفكر في الموت وشدته وأنه لا مــهرب منه ، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ

ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت» وقال «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» ومن ذلك التفكر في القيامة وأهوالها ﴿أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً﴾ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ، ومما يعين على الخوف التفكر في سوء الخاتمة ، والخوف من أن يحال بينه وبين التوبة ، وأن يتفكر العبد في ذنوبه ، ومما يعين على الخوف أيضاً صحبة الصالحين ، ومجالسة الزاهدين ، وطلب العلم عند العلماء الربانيين .

جعلنا الله من الخائفين منه المقبلين على عبادته .

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله

بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ

عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.

اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وأصلح لهم البطانة ، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه ولا تجعله ملتبسا عليهم فيضلوا.

اللهم مغيث المستغيثين وجابر كسر المكسورين ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين اللهم أغثنا …

سبحان ربك رب العزة عما يصفون …


شارك المحتوى:
0