من أمثلة الدنيا في القرآن والسنّة


“من أمثلة الدنيا في القرآن والسنّة”

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. أمّا بعد:

فإنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ في دين الله تعالى بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. أما بعد:

فقد ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وأمر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أصلًا ومن قام بوراثته بعده تبعًا أن يضرب للناس مثَلَها؛ ليتصوروها حقَّ التصور، ويعرفوا ظاهرَهَا وباطنَهَا، فيقيسوا بينها وبين الدارِ الباقية، ويؤثروا أيَّهما أولى بالإيثار. ومن الأمثلة التي ضربها اللهُ للدنيا قولُه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} فشبّه الدنيا فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا بماءٍ أنزله مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ، أَيْ: مِنَ الحَبّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ الزَّهْرُ وَالنُّضْرَةُ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أصبح هَشِيمًا، يَابِسًا، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، أَيْ: تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ. وهكذا قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ولَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ عَطَبِهَا وَ زَوَالِهَا، رغَّب فِي الْجَنَّةِ وَدَعَا إِلَيْهَا، وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلَامِ أَيْ: مِنَ الْآفَاتِ، وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ، فَقَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْمَثَلِ، كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

وشبَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وأهلَها بظلِّ شجرةٍ، والعبدُ مسافرٌ فيها إلى الله، فاستظل في ظلِّ تلك الشجرةِ في يومٍ صائفٍ ثم راح وتركها، فقال -صلى الله عليه وسلم-:”ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح، وتركها” رواه الترمذيُّ،َ وقال: حسن صحيح. فتأملوا -عباد الله- حسنَ هذا المثالِ ومطابقَتَه للواقع؛ فإنّ الدنيا في خضرتها كشجرةٍ، وفى سرعة انقضائِها وقبضِها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبدُ مسافرٌ إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرةً في يوم صائفٍ لا يَحسُن به أن يبنيَ تحتها دارًا ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق.

ومثّل -صلى الله عليه وسلم- الدنيا بمُدخلِ أصبعه في اليمّ، فالذي يرجع به أصبعُه من البحر هو مَثَلُ الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟” رواه مسلم. وهذا من أحسن الامثال؛ فإنّ الدنيا منقطعةٌ فانية ولو كانت مدتها أكثرَ مما هي، والآخرةَ أبديةٌ لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور. قال بعض السلف: “نَعِيمُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهِ فِي جَنْبِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ فِي جَنْبِ جِبَالِ الدُّنْيَا”.

وعن المُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الرَّكْبِ الَّذِينَ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّخْلَةِ المَيِّتَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ ‌هَانَتْ ‌عَلَى ‌أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا؟”، قَالُوا: مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “فَالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا” رواه الترمذيُ وحسّنه. فلم يقتصر على تمثيلِها بالسخلةِ الميتة، بل جعلها أهونَ على اللهِ منها.

وروي عن عمرِ بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنه قال: “لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُوتِيهَا رَجُلٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ”، وقيل لبعضهم: أيُّ شيءٍ أشبه بالدنيا؟ فقال: أحلامُ النائم.

بارك الله لي ولكم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوان إلا على  الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرَضين، وأشهد أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صلى الله وسلّم عليه ورضي عن الصحابة أجمعين. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا الْمُرَادَ مِنَ الدُّنْيَا، واعملوا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، واعلموا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَسْكَنَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ كَمَا قَالَ تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبالِ كيف تقضَّت أيامُهُ فيها؟ في ضُرٍ وضيقٍ أو في سعةٍ ورفاهية، بل يجعل همَّه التَّزَوُّدَ مِنْهَا لِلْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، ويكتفي مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: “ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح، وتركها”، وَوَصَّى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغُ أَحَدِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ مِنْهُمْ، وَوَصَّى ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَأَنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ.

وصلّوا وسلّموا… .

 

أعدّ الخطبة/ د. بدر بن خضير الشمري

 

خطبة عن بعض أمثلة الدنيا في القرآن والسنة


شارك المحتوى:
0