الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرِهُ على الدِّينِ كُلِّهِ ولو كرِهَ أعداءُ المِلَّةِ، أعزَّنا بالإسلامِ ومنَ ابتغَى العِزَّةَ في غيرِهِ أذاقَهُ الذِّلَّةَ، والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ الهادي إلى الجنَّةِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَن اقتفَى أثرَهُم ما تعاقبَ النهارُ والظلمةُ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
أما بعد:
فقد جعلَ اللهُ الناسَ قسمينِ لا ثالِثَ لهما، القسمُ الأولُ: أهلُ الإسلامِ والإيمانِ، والقسمُ الثاني: أهلُ الإشراكِ والكفرانِ، قالَ سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن: 2].
وقد أخبرَ اللهُ عن الكافرينَ بأخبارٍ مَشينةٍ تدلُّ على سوءِ حالهِم في دينِهِم وتعبُّدِهِم لربِّهم سبحانهُ وتعالى، قالَ سبحانه: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] وقالَ سبحانه: ﴿وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 26] وقالَ سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: 36-37].
وقد رتَّبتِ الشريعةُ أحكامًا يجبُ على المسلمِ أن يقومَ بها وأن يعتقِدها تجاهَ أولئكَ الكافرينَ، ومِن تِلكُم الأحكامِ ما يلي:
الحكمُ الأولُ: يجبُ أن نعتقِدَ أنَّ كُلِّ دينٍ سِوى دينِ محمدٍ ﷺ دينٌ كُفريٌّ، سواءٌ كانَ يهوديًّا أو نصرانيًّا أو غيرَ ذلِكَ، قالَ سبحانه: ﴿لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: 1] قالَ سبحانهُ: ﴿ما يود الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وأهلُ الكتابِ هم اليهودُ والنصارى.
يجبُ أن نعتقَدَ كفرَهُم، وقد بيَّن العلماءُ أنَّ من لم يعتقد كفرَ الكافرينَ مِن اليهودِ أو النصارَى أو غيرِهِم، فإنهُ كافرٌ مِثلُهُم؛ لأنهُ مُكذِّبٌ للقرآنِ كما تقدمَ ذكرهُ، ومُكذِّبٌ لسنةِ النبيِّ ﷺ، ولإجماعِ أهلِ العلمِ، فقد أجمعَ العلماءُ على أنَّ مَن لم يُكفِّرِ الكافرينَ مِن اليهودِ والنصارى فهوَ كافرٌ مِثلُهُم، حكى الإجماعَ القاضي عياضٌ في كتابِهِ (الشفا) وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وغيرُهُما من أهلِ العلمِ.
الحكمُ الثاني: أن نعتقِدَ أنَّ الكافرينَ في النارِ، خالدون مُخلَّدونَ فيها إلى أبدِ الآبدينَ، قالَ سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البينة: 6] وقالَ سبحانهُ كما تقدمَ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: 37].
وروى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
الحكمُ الثالثُ: يجبُ أن نعتَقِدَ عداوةَ الكافرينَ، وأن نعتقِدَ بُغضَهُم، فهم أعداءٌ للهِ ولرسولِهِ، قالَ سبحانهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1] بالمودة: أي بالمحبة.
وقالَ سبحانهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
وقالَ سبحانهُ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
وقالَ سبحانه: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22].
فتأمَّلوا هذهِ الآيةَ، وكيفَ أنَّ اللهَ أمرَنَا أن نُبغِضَ الكافرينَ ولو كانوا آباءً لنا، أو أبناءً، أو إخوةً، أو مِن عشِيرَتِنَا، فغيرهُم من بابِ أولَى.
ومُقتضى العداوةِ والبغضاءِ لهُم: ألَّا نُحِبَّهُم، وألَّا نُقَدِّرَهُم، وقد بيَّنَ ذلكَ النبيُّ ﷺ في سنتِهِ، وبيَّنهُ الصحابةُ الكرامُ، روَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ».
يا لله! حتَّى السلامُ لا يُبتدَأُ بهِ الكفارُ؛ لأنهم كفارٌ أعداءٌ للهِ ولرسولِهِ ﷺ.
وقالَ الخليفةُ الراشدُ الفاروقُ عمرُ بنُ الخطابِ -رضي الله عنه- في كاتبٍ نصرانيٍّ: ” لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللهُ، وَلَا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ “.
هكذا فعلَ صحابةُ رسولِ اللهِ ﷺ، وهذا مُقتضى عداوةِ الكافرينَ، ومُقتضى أنهم أعداءٌ للهِ ولرسولِهِ، ومُقتضى بُغضِهِم.
فإن قيلَ: كيفَ يُجمَعُ بينَ ما تقدمَ، وبينَ ما أخبرَ اللهُ مِن جوازِ محبةِ الأقاربِ الكافرينَ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56] والمرادُ عمُّهُ أبو طالبٍ، وقد كانَ كافرًا، وكما أجازَتْ الشريعةُ زواجَ اليهوديةِ والنصرانيةِ، ويحصُلُ بالزواجِ مودةٌ ورحمةٌ كما قالَ تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
فيُجابُ عن هذا بما ذكرَهُ أهلُ العلمِ، أنهُ لا تلازُمَ بينَ بُغضِ الكافرينَ دينيًّا ومحبَّتهُم محبَّةً طبعيَّة، كأن يكونوا أقارِبَ أو أزواجًا، إلى غيرِ ذلكَ، كما ذكرَ هذا ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ، والحافظُ ابنُ حجرٍ في شرحِهِ على البخاريِّ، والشيخُ سلمانُ بنُ عبدِ اللهِ في شرحِهِ على كتابِ (التوحيد) -رحِمَهُمُ اللهُ رحمةً واسعةً-.
ويُشبَّهُ هذا بمثَلٍ ذكرَهُ شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ في غيرِ هذهِ المناسبةِ، وهو محبةُ الدواءِ الكريهِ، فإنَّ الدواءَ الكريهَ يُحَبُّ من وجهٍ ويُبغَضُ مِن وجهٍ، يُحَبُّ مِن جهةِ نفعِهِ، ويُبغَضُ مِن جهةِ كراهَةِ طعمِهِ، فمِثلُ ذلكَ يُقالُ في الأقارِبِ مِن الكافرينَ، وفي الأزواجِ مِن الكافرينَ، فإنهم يُبغضونَ دينيًّا مِن وجهٍ، ويُحَبُّونَ طبعيًّا مِن وجهٍ آخر.
ومُقتضى هذهِ العداوةِ والبغضاءِ للكافرينَ، ألَّا يُعظِّمَ المسلمونَ الكافرينَ، كما هوَ الحالُ مِن بعضِ المسلمينَ أنهم يُعظِّمونَ المُخترعينَ مِن الكافرينَ، فما إن يموتُ مُخترِعٌ بارِعٌ مِن الكافرينَ إلا وترَى أقلامًا تتابَعُ، وأصواتًا تعلوا بالدعوةِ إلى الترحُّمِ عليهِ، إلى غيرِ ذلكَ، وهذا محرمٌ في كتابِ اللهِ، وقد أجمعَ العلماءُ على حرمتِهِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].
وقد حكى النوويُّ وابنُ تيميةَ -رحمه الله تعالى- الإجماعَ على حُرمةِ الترحُّمِ على الكافرينَ، فالترحُّمُ على الكافرينَ مُحرَّمٌ، ولو كانوا مُخترعينَ مُتميِّزينَ، فإننا خُلِقنا لعبادةِ اللهِ، والحُبُّ والبُغضُ في اللهِ، لا لأجلِ هذهِ الدنيا.
ومِن التقصيرِ في هذهِ العقيدةِ وفي بُغضِ الكافرينَ وعداوتهِم ما يحصلُ مِن بعضِ أبناءِ المسلمينَ، من أن يضعوا صورَ الكافرينَ في جوالاتِهِم، أو في خلفياتِ الواتساب، أو غيرِ ذلكَ، وهذا من الخطأِ الكبيرِ، إنَّ حُسنَ لَعبِ الكافرِ بكرةِ القدمِ ليسً مُسوِّغًا لحُبِّهِ ولا لإجلالِهِ، ولا لتعزيزِهِ، وإنما تبقى العداوةُ في قلوبِ أهلِ الإيمانِ معَ محبَّةِ لعِبِهِ بلا تعزيزٍ ولا إكرامٍ، ولا رفعٍ لشأنِهِ.
الحكمُ الرابعُ: أخبرَ ربُّنا سبحانهُ في كتابِهِ أنهُ لا يمنعُنَا مِن الإحسانِ إلى الكافرينَ، الذينَ ليسوا حربيينَ، قالَ سبحانهُ: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].
وهذهِ الآيةُ لا تُنافِي ما تقدَّمَ ذِكرُهُ مِن بَغضِهِم، فإننا نُبغِضُهُم، معَ الإحسانِ مع مَن بيننا وبينَهُ قرابَةٌ، إلى غيرِ ذلكَ، إلَّا أنَّ العداوةَ والبغضاءَ باقيةٌ في القلوبِ، وتأمَّل قولَهُ تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ﴾ فغايةُ ما في الأمرِ أنهُ لا ينهانا، لا أنهُ يُطالِبُنَا ويأمُرُنَا بذلكَ، وقد أشارَ إلى هذا القرافيُّ -رحمه الله تعالى-.
اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ عليكَ بالكفرةِ والرافضةِ، فإنهم لا يُعجزونك يا ربَّ العالمينَ.
اللهُمَّ اجعل حُبَّنا فيكَ، وبُغضنا فيكَ، واجعلنا قائمينَ بعقيدةِ والولاءِ والبراءِ على ما يُرضيكَ، أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:
فقد روَى الإمامُ البخاريُّ -رحمه الله تعالى- عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- “أنَّ المشركينَ كانوا على منزلتينِ مِن رسولِ اللهِ ﷺ وأصحابِهِ، أهلُ حربٍ يُقاتِلُهُم ويُقاتِلُونَهُ، وأهلُ عهدٍ لا يُقاتِلُهُم ولا يُقاتِلونَهُ، فالكفارُ” والمشركونَ على درجتينِ، إما حربيونَ، فمثلُ هؤلاءِ يُقاتَلونَ، وإما غيرُ حربيينَ بأن يكونَ بينهُم وبينَ المسلمينَ عهدٌ وأمانٌ، على تفصيلٍ عندَ أهلِ العلمِ، فمثلُ هؤلاءِ لا يُقاتَلونَ.
أما الحربيونَ فإنهم يُقاتَلونَ، لكن تحتَ رايةِ وليِّ الأمرِ، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يفتاتَ وأن يتقدَّمَ لقتالِ قومٍ دونَ وليِّ الأمرِ، روَى الإمامُ البخاريُّ ومسلمٌ عَن أبي هريرةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ».
فالحربيونَ يُقاتلونَ، وتُسفكُ دماؤهُم، وتُستباحُ أموالُهُم، لأنهم كفارٌ مُحارِبونَ، أما مَن ليسَ كذلكَ ممَّن بينهم وبينَ المسلمينَ عهدٌ وأمانٌ، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يعتديَ على أموالِهِم ولا على أنفسِهِم، بل فعلُ هذا محرمٌ في الشريعةِ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6] وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا».
وروَى البخاريُّ عن أمِّ هانئٍ -رضي الله عنها- أنها أجارَتْ مشركًا، فأرادَ أخوها عليُّ بنُ أبي طالبٍ أن يقتُلَهُ، فشَكَتْ ذلكَ إلى النبيِّ ﷺ، فقال النبيُّ ﷺ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ».
فكُلُّ مَن بينَهُ وبينَ المسلمينَ عهدٌ وميثاقٌ، فلا يجوزُ أن يُعتدَى على دمِهِ بقتلٍ ولا على مالِهِ بسَلْبٍ، فكلُّ هذا محرمٌ، بل كبيرةٌ مِن كبائِرِ الذنوبِ، روَى البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاص -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
إذا تبيَّنَ هذا، فإنَّ مَن بينَهُ وبينَ المسلمينَ عهدٌ وأمانٌ، فلا يجوزُ أن يُتعدَى عليهِ، والعهدُ والأمانُ يكونُ بدخولِهِ لبلادِ المسلمينَ بإذنِهِم، وبإذنِ وليِّ أمرِهِم، فهذا عهدٌ وأمانٌ لهم، وكذلكَ إذا دخلَ مسلمٌ بلادَ الكافرينَ بإذنِهِم، فهو عهدٌ وأمانٌ بينهُ وبينهم، فلا يجوزُ لهُ أن يعتديَ عليهِم، بل لو اعتدَى على أموالِهِم أو أنفُسِهِم، وقعَ في الوعيدِ المتقدمِ.
إخوةَ الإيمانِ: يجبُ أن نكونَ معَ الكافرينَ وسطًا، لا إفراطَ ولا تفريطَ، لا نكونَ غالينَ ولا مُفرِّطينَ، كما هو حالُ مَن يسمونَ بالجهاديين، وهم من الجهادِ الشرعيِّ أبعَدُ ما يكونُ، وذلكَ أنهم يدخلونَ بلادَ الكافرينَ، ويُفجرونَ ويُفسدونَ، أو يعتدونَ على الكافرينَ في بلادِ المسلمينَ بتفجيرٍ أو قتلٍ، وكلُّ هذا مُخالفٌ للشريعةِ، بل كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يفعَلَهُ، وفي المقابِلِ لا يصِحُّ أن نكونَ أهلَ تفريطٍ وجفاءٍ، فنُقصِّرُ في هذهِ العقيدةِ المباركةِ، عقيدةِ بُغضِ الكافرينَ، عقيدةِ البراءِ مِن الكافرينَ، فبعضُ المسلمينَ يُقارِبُهُم، ويُوادُّهُم ويُحِبُّهُم ويُجالِسُهُم ويُضاحِكُهُم، ويرفعُ مِن شأنِهِم، إلى غيرِ ذلكَ، وكلُّ هذا محرمٌ في الشريعةِ، فلا إفراطَ ولا تفريطَ، بل يجب أن نكونَ وسطًا على صراطٍ مستقيمٍ، حتى نلقى اللهَ وهو راضِ عنا، وهو أرحمُ الراحمينَ.
معَ التنبُّهِ إلى أنَّ هناكَ فرقًا، بينَ حالِ قوةِ المسلمينَ وضعفِهِم، كما بيَّنَ هذا أهلُ العلمِ، ففي حالِ قوةِ المسلمينَ، فلولاةِ أمرِ المسلمينَ تعاملٌ شديدٌ معَ الكافرينَ، بخلافِ حالِ ضعفِ المسلمينَ، فإنَّ لوليِّ الأمرِ أن يتنازَلَ عن أشياءَ مِن عداوتِهِم وبَغضِهِم، لأنَّ للضعفِ حكمَهُ، وللقوةِ حُكمَهَا.
اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنت، أحينا على التوحيدِ والسنةِ، وأمِتنا على ذلكَ، واجعلنا نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنا.