الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هدانا للإسلام دين الأنبياء، وابتغى لنا الملة الحنيفية السمحاء، الحمد لله على نعمة التوحيد والسنة الغراء ، الحمد لله الذي لم يجعلنا روافض سبابة أئمة الأمة المرضية ، ولا متصوفة تتعبد برقص وطبل في أفضل البقاع المبنية ، الحمد لله الذي نجانا من التخشع والاستغاثة بأصحاب القبور ، ومن التمسح بعتباتها أو تزويقها والكتابة عليها والتوجه لها بالنذور ,
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، وَالرَّسُولُ الْمُجْتَبَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى.
اللهم لك الحمدُ بما رزقتنا وهديتَنا وأنقذتَنا وفرَّجتَ عنَّا، لك الحمدُ بما أنعمتَ به علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سرٍّ أو علانية، أو عامةٍ أو خاصة، اللهم لك الحمدُ كبَتَّ عدوَّنا، وبسطتَ رزقنا، وأظهرتَ أمنَنا، وجمعتَ فُرقتنا، وأحسنتَ مُعافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمدُ كثيرًا كما تُنعِمُ كثيرًا.
اللهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضيت، ولك الحمدُ بعد الرضى، ولك الحمدُ بالمحامد كلها.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ .
عباد الله : إنه التوحيد أغلى شيء وأنفسه في هذه الدنيا، ولئن كان أرباب كنوز الدنيا يخافون عليها الضياع والسلب، فإنَّ خوف أهل التوحيد على توحيدهم أعظم من ذلك وأشد، ولئن كان خوف أرباب الدنيا يعظم عندما يكثر السلب والنهب، فإنَّ خوف أهل التوحيد يزداد عندما تكثر الفتن والصوارف والصواد وما أكثرها في هذا الزمان، فاللهم
سلم سلم.
روى ابونعيم عن مجيب بن موسى الأصبهاني قال: كنت عَديل سفيان الثوري إلى مكة ، فكان يُكثر البكاء ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، بكاؤك هذا خوفًا من الذنوب ؟ قال : فأخذ عودًا من المحمل فرمى به وقال : « لذنوبي أهونُ علي من هذا ، ولكني أخافُ أن أسلب التوحيد »
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: « فَمَا دُفِعَتْ شَدَائِدُ الدُّنْيَا بِمِثْلِ التَّوْحِيدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ دُعَاءُ الكَرْبِ بِالتَّوْحِيدِ وَدَعْوَةُ ذِي النُّونِ الَّتِي مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلاَّ فَرَّجَ اللهُ كَرْبَهُ بِالتَّوْحِيدِ، فَلاَ يُلْقِي فِي الكُرَبِ العِظَامِ إِلاَّ الشِّرْكُ وَلاَ يُنْجِي مِنْهَا إِلاَّ التَّوْحِيدُ، فَهُوَ مَفْزَعُ الخَلِيقَةِ وَمَلْجَؤُهَا وَحِصْنُهَا وَغِيَاثُهَا، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ .
إن الله إذا أمر بأمر لم يتركه عُرياً وإنما يجعل له حِمى ، حتى تكون الزيادة في الحمى والنقص منه ورأس المال يسلم، لما أمر بالصلاة أحاطها بنوافل كثيرة، يكون التزوّد منها والنقص فيها، وأما الفريضة فلا يمسها سوء، ولما نهى عن الزنا أحاطه بذرائع كثيرة نهى عنها، كقرب النساء ومخالطتهم والغناء، والنظر حتى لا تقع في الزنا ، فهذا من حكمة الله الباهرة، فما ظنكم بالتوحيد، قد جعل الله له حِمى، قد جعل الله له حافظات تحفظه من الخدش والنقص، ومنميات تنمي عظمة الله، ووقاره وتوقيره في القلب .
الوسائل التي توقع في الشرك فأعظمها: الغلو في الصالحين، وهل أُتي الناس إلا من هذا الباب، كان الناس أمةً واحدة على التوحيد عشرة قرون، من آدم إلى نوح وما كان الناس إلا أمة واحدة ، أي على التوحيد فاختلفوا، منهم من آمن ومنهم من أشرك، كان الناس أمة واحدة فلما أشركوا بعث الله النبييّن مبشرين ومنذرين، هكذا الرسل تردّ الناس للأمر الأول وهكذا أتباعهم يردون الناس للأمر الأول.
الغلو في الصالحين لا ترفعوا أحداً فوق منزلته حتى رسول الله فإنه لا يحب أن يرفعه أحداً فوق منزلته، أو يحطه عنها، قولوا : عبد الله ورسوله، لا تقولوا له كما يقول بعض الناس اليوم: نور السموات والأرض المتصرّف في الكون، يقال: هذا للأنبياء والأولياء أو المشايخ وغيرهم، كل هذا لا يجوز ، كل هذا باب الشرك، أرأيتم النصارى؟! أرأيتم النصارى لما غلوا في المسيح قالوا: المسيح ابن الله، قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم .
عباد الله : من فضل الله علينا أن هذه البلاد من يوم نشأت كانت على التوحيد والسنة ، فأصبحت دولة قوية يُحكَم فيها بكتاب الله، وتُعظَّم فيها سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجت الأرض كنوزها، وأنزلت السماء من بركاتها، ففاض المال وعم الخير، وانتشر الأمن بعد الخوف، والعز بعد الذل، والغنى بعد الفقر. قال عز وجل ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾.
عباد الله : إن ما تنعم به هذه البلاد من صفاء التوحيد، ونقاء المعتقد أقضَّ مضاجع عباد القبور والمنافقين، وكدر الصفو على المبتدعة والمخرفين ، للعودة بالأمة إلى الشرك بعد إذ أنقذها الله منه .
أقول ما سمعتم ….
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
ما بالنا لا نكثر الحديث عن أخطر الأمور وأعظمها قدرا !
وقد رأينا القرآن وقد كاد أن يكونَ كله عن هذا الأمر، ورأينا الرسل والأنبياء أفنت أعمارها وهي تتحدث عن هذا الأمر وتبدي فيه وتعيد، ألا وهو أمر الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك.
ما بالنا إذا رأينا أهل الإسلام يقتلون، ثارت كل عاطفة فينا ، وهاج كل غضب لدينا، وهذا والله حق ، وإن قتل المسلم لكبير، ولكن.. ما بالنا إذا رأينهم يصرفون أنواع من العبادة لغير الله، ويشركون بالله الشرك الأكبر، لم تصل عواطفنا وغضبنا إلى ذلك المستوى؟!
بل منّا من لا يغضب ولا يُستفَزّ، خاصةً إذا كانوا من حزب واحد، بل منّا من يذهبُ إليهم في أماكنهم، وفي أماكن شركهم، ويتولاهم ويقبّل رؤوسهم! مع أن هذا الأمر أكبر عند الله وعند من عقَل عن الله وعن رسوله من القتل، قال الله : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ) وقال الله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ) وهل الفتنة إلا الشرك .