الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، قيُّومُ السماواتِ والأرَضينَ، مُدبِّرُ الخلائقِ أجمعينَ، بعثَ رُسُلَهُ وأنزلَ كُتُبَهُ بخيرِ دينٍ، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ، وعلى من سارَ على نهجِهِ واقتفى أثرَهُ إلى يومِ الدِّين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
أما بعد:
فإنَّ الشريعةَ المحمديةَ شريعةٌ محكَمَةٌ، أتَتْ بكُلِّ خيرٍ، ومما جاءَتْ بهِ النظافةُ ظاهرًا وباطنًا، وحِسِّيًا ومعنويًّا، ومظهرًا ومخْبَرًا، قالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
ومِن النظافةِ المعنويةِ التي جاءَتْ بها الشريعةُ الوضوءُ، وعلَّقَتْ بهِ فضائلَ كثيرةً، ومن ذلك ما روى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ…».
إلى غيرِ ذلكَ من الفضائلِ الكثيرةِ في الوضوءِ.
ومما جاءَتْ بهِ الشريعةُ في الطهارةِ الحسيةِ الاغتسالُ ليومِ الجمعةِ، روَى السبعةُ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». وزادَ الإمامُ مسلمٌ من حديثِ أبي سعيدٍ: «… وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ». فالتطيُّبُ والاستياكِ مِن النظافةِ الحسيَّةِ.
ومِن النظافةِ الحسيةِ التجمُّلُ، روى الإمامُ مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ».
وأحسنُ الأماكنِ والمناسباتِ التي يُتجمَّلُ ويُتحسَّنُ لها حضورُكُم للصلاةِ، ولاسيما لصلاةِ الجمعةِ، قالَ تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31].
فينبغي للمصلينَ أن يتجمَّلوا بما يُوافِقُ أعرافَهُم مما يتجمَّلونَ بهِ ويتحسَّنونَ لعمومِ الصلاةِ ولاسيما لصلاةِ الجمعةِ، فمن الخطأِ أن يصليَ مسلمٌ بثيابِ نومِهِ، أو مِن غيرِ اغتسالٍ، أو من غيرِ تطيُّبٍ لهذهِ الصلاةِ العظيمةِ، صلاةِ الجمعةِ.
فمِنَ الطهارةِ الحسيَّةِ السواكُ، وأمرُ السواكِ عظيمٌ وأجرُهُ جسيمٌ حتى إنَّ الشريعة كادت أن تُوجِبَهُ، وكان النبيُّ ﷺ يُحبُّهُ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضي الله عنها- في قِصة احتضارِ النبيِّ ﷺ، أنه رأى معَ أخيها عبدِ الرحمنِ سواكًا، فأبَّدَ إليهِ بصرَهُ، فعلِمَتْ عائشةُ -رضي الله عنها- أنه يريدُ السواكَ، فأخذتهُ عائشةُ مِن أخيها عبدِ الرحمنِ وأعطتهُ النبيَّ ﷺ.
يا لله! في موقفٍ عظيمٍ، موقفِ الاحتضار، لم يتركِ النبيُّ ﷺ السواكَ!
وقد روَى الإمامُ أحمدُ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ صلاةً بسواكٍ أفضلُ من سبعينَ صلاةً بِلا سواكٍ، إلا أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ لا يصِحُّ عن رسولِ اللهِ ﷺ، وقالَ ابنُ القيمِ في كتابِهِ (المنارُ المُنيفُ): وإِنْ كانَ الحديثُ لا يصِحُّ عن رسولِ اللهِ ﷺ إلا أنهُ لا يبعُدُ أن يكونَ معناهُ صحيحًا لكثرةِ الأحاديثِ الواردةِ في فضلِ السواكِ.
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ السواكَ مُستحبٌّ في كُلِّ وقتٍ وحالٍ؛ لِما ثبتَ عندَ أحمدَ والنسائيِّ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»، إلا أنَّ استحبابَ السواكِ يتأكَّدُ في أحوالٍ، منها:
الحالُ الأولى: عندَ الصلاةِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ».
الحالُ الثانيةُ: عندَ الوضوءِ، ثبتَ عندَ الإمامِ أحمدَ ومالكٍ والنسائيِّ في (الكبرى) عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ».
وقد بيَّنَ العلماءُ أنَّ السواكَ عِندَ كُلِّ وضوءٍ يكونُ عِند المضمضةِ، أي عندَ ابتداءِ الوضوءِ، ومما يُعينُ على السِّواكِ عندَ كُلِّ وُضوءٍ أن يضعَ أحدُنا السواكَ في مكانِ وُضوئِهِ حتى إنه إذا أرادَ أن يتوضَّأَ تذكَّرَ هذهِ السنةَ، ثُمَّ قامَ بِها عندَ أولِ وضوئِهِ.
الحالُ الثالثةُ: عندَ دخولِ الرجلِ لبيتِهِ، فيُستحبُّ للرجلِ أولَ ما يدخلُ بيتَهُ أن يستاكَ ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنها سُئلت: ما أول ما يبدأُ بهِ النبيُّ ﷺ إذا دخلَ بيتَهُ؟ قالَتْ: “السِّواكُ”.
الحالُ الرابعةُ: يومُ الجمعةِ، فيُستحبُّ الإكثارُ مِن السواكِ يومَ الجمعةِ، روَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ».
الحالُ الخامسةُ: عندَ قراءةِ القرآنِ، ثبتَ عندَ البيهقيِّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنهُ أمرَ بالسواكِ، ثم قالَ: ” إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَتَاهُ الْمَلَكُ فَقَامَ خَلْفَهُ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ وَيَدْنُو، فَلَا يَزَالُ يَسْتَمِعُ وَيَدْنُو حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَلَا يَقْرَأُ آيَةً إِلَّا كَانَتْ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ “.
الحالُ السادسةُ: عندَ تغيُّرِ رائحةِ الفمِ، إما بعدَ أكلٍ أو صمتٍ، أو غيرِ ذلكَ، لِما تقدمَ مِن حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ السواكَ مطهرةٌ للفمِ، مرضاةٌ للربِّ.
الحالُ السابعةُ: عندَ القيامِ من الليلِ، لِما روى البخاريُّ ومسلمٌ عن حذيفةَ بنِ اليمانِ -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ «إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ».
إلى غيرِ ذلكَ من الأحوالِ التي دلَّتْ عليها سنةُ رسولِ اللهِ ﷺ، فاتقوا اللهَ إخوةَ الإيمانِ، واحرِصوا على هذهِ السنةَ التي كادَتْ أن تُوجَبَ بقولِ النبيِّ ﷺ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ».
اللهُمَّ عَلِّمنا، اللهُمَّ اهدِنَا، اللهُمَّ خُذْ بنواصينا إلى البِرِّ والتقوى.
أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:
فإنَّ المقصودَ مِن السواكِ تنظيفُ الفمِ، فمن لم يكُن معَهُ أراكٌ أو ما يقومُ مقامَهُ، فلا أقلَّ مِن أن يُنظِّفُ أسنانهُ بمنديلٍ أو غيرِ ذلكَ عندَ الصلاةِ، فإنَّ ما لا يُدرَكُ كُلُّهُ لا يُترَكُ جُلُّهَ، والقيامُ ببعضِ العبادةِ خيرٌ مِن تركِها كُلِّها.
إنَّ السواكَ تطهيرٌ؛ لذا يكونُ باليدِ اليُسرى لا باليدِ اليُمنى، كما بيَّنَ هذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله تعالى-، وقد ذكرَ أنَّ هذا قولُ الإمامِ أحمدَ، وأنهُ لا يعلمُ أحدًا مِن الأئمةِ يُخالِفُهُ.
والسواكُ مُستحبٌّ لكُلِّ صلاةٍ، سواءٌ كانت فرضًا أو نَفلًا، ولِكُلِّ أحدٍ، سواءٌ للرجالِ أو النساءِ، أو الصغارِ أو الكِبارِ، وقد تيسَّرَ وللهِ الحمدُ اقتناءُ السواكِ وتيسَّرَ حِفظُهُ، فلنُبادِر ولنُسابِقَ على هذهِ السنةِ التي هيَ بهذهِ المثابَةِ العظيمةِ، والتي هيَ مِن التنظيفِ الذي يُحبِّهُ اللهُ، بَل هيَ مرضاةٌ للربِّ ومطهرةٌ للفمِ، كما أخبرنا رسولُ اللهِ ﷺ.
والسواكُ مستحبٌّ للصائمِ، سواءٌ قبلَ الزوالِ أو بعدَهُ، لِما تقدَّمَ مِن حديثِ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ»، يشملُ الصائمينَ وغيرَهُم، ويشملُ الصلاةَ قبلَ الزوالِ، والصلاةَ بعدَ الزوالِ كصلاةِ الظهرِ والعصرِ.
فاحرِصُوا على هذهِ السنةِ، وعَلِّموها أزواجَكُم وأولادَكُم، وشيعُوهَا في المجتمعِ حتى لا تُتركَ ولا تُنسى.
وينبغي لِكُلِّ مسلمٍ أن يستحضِرَ النيةَ الحسنةَ ليُثابَ على ذلكَ، ومِن ذلكَ النيةُ الحسنةُ عندَ فعلِ المعاجينِ، وفرشاةِ الأسنانِ، فإنَّ مَن نوى بها تنظيفَ الفمِ كما يُنظِّفُ بالأراكَ فإنهُ يأخُذُ أجرَ السواكِ؛ لأنَّ فيهِ معنى التنظيفِ الذي ذكرهُ النبيُّ ﷺ في قولِهِ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ».
فإنَّ الفرشاةَ مع المعاجينِ مطهرةٌ ومُنظِّفةٌ للفمِ، فلنستحضِرْ هذهِ النيةَ عندَ فرشِ الأسنانِ بهذهِ المعاجينِ؛ لِما ثبتَ في الصحيحينِ عن عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى».
لكن لا ينبغي أن يُستغنَى بها عنِ السواكِ، فإنَّ السواكَ يُفعَلُ في أحوالٍ مُتعدِّدَةٍ، كدخولِ المنزلِ وعِندَ الصلاةِ …إلى غيرِ ذلكَ، وكُلُّ هذا لا يتيسَّرُ معَ فرشِ الأسنانِ بالمعاجينِ.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم وفقنا وللحق سددنا.