ثلاث رسائل للمعلم والطالب والأب


 

الحمدُ للهِ الذِي عَلَّمَ بالقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الإنسانَ وَعلَّمَهُ البيانَ، وهُوَ سبحانُهُ الحكيمُ العليمُ، ويُحِبُّ العلماءَ والحكماءَ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ وأعظمِ مُعلِّمِ الناسِ الخيرَ، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ، وعَلى أصحابِهِ الذينَ وَرِثوا عِلمَهُ، أكرِم بِهِم وارِثًا وَمَورُوثًا.

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ مِن أعظمِ ما مَيَّزَ أبانا آدمَ -عليه السلام- العلمُ، قالَ تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ فبمقدارِ ما يَظْفَرُ بَنوا آدمَ مِن العلمِ يتميَّزونَ، وعَن الخلقِ يرتَفِعونَ.

والعلمُ ما بينَ محمودٍ كالعلمِ الشَّرعيِّ، والعلمِ الدُّنيويِّ الذي ينفعُ الناسَ إذا حَسُنَتْ فيهِ النيَّةُ، ومذمومٍ كتعلُّمِ المُحرَّماتِ، كالفلسفةِ، والمنطقِ، والسحرِ، وعلمٍ لا ينفعُ ولا يضرُّ، كالعلومِ المُباحةِ.

وأعظمُ العلمِ على الإطلاقِ بلَا نِدٍّ ولا نظيرٍ العلمُ الشرعيُّ، وهذا العلمُ الذي أمرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ يزدادَ مِنهُ، قالَ تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] وهو العلمُ الذي نزَلَ بهِ جبرائيلُ -عليهِ السلامُ- على النبيِّ الكريمِ محمدٍ ﷺ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145].

وقالَ الإمامُ ابنُ القيمِ: إِذا مُدِحَ العلمُ في الكتابِ والسنَّةِ فالمُرادُ بِهِ العلمُ الشرعيُّ دونَ غيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] فَلَا يدخُلُ في ذلكَ علمُ الطِبِّ والهندسةِ مَعَ أهمِّيتهِما، والعلمُ الشرعيُّ ما بينَ فَرْضِ عينٍ كصِفةِ الطهارةِ مِن الوضوءِ والغُسْلِ وصفةِ الصلاةِ، أو فَرْضٍ على صِنفٍ دونَ صنفٍ، كتعلُّمِ أحكامِ الحيضِ والنِّفاسِ للنساءِ، أو تعلُّمِ أحكامِ الزكاةِ لِمَن عندَهُ مالٌ يُزكِّيهِ، أو تعلُّمِ أحكامِ البيعِ والشراءِ لِمَن يبيعُ ويشتريَ.

ومِن الأخطاءِ الشائعةِ والمُخالفاتِ المُهْلِكةِ ألَّا يتعلَّمَ المسلمُ أحكامَ دينِهِ الواجبةَ، فيتوضَّأَ ويغتسِلَ ويُصلِّي تقليدًا لغيرِهِ مِن العوامِّ لا سؤالًا لأهلِ العلمِ الكِرامِ.

والمسلمُ مُطالَبٌ أنْ يتعلَّمَ أمورَ دينِهِ، إمَّا بحضورِ دروسٍ للموثوقينَ مِن أهلِ العلمِ، أو أنْ يستَمِعَ لدروسِهِم عَن طريقِ اليوتيوبِ أو غيرِهِ.

عبادَ اللهِ، اتَّقوا اللهَ وارْفَعوا الجهلَ عَن أنفُسِكُمْ، وَلَا تَكْتَفوا بِما دَرَستُموهُ في المدارِسِ النِظاميَّةِ -مَعَ أهميَّتِهِ- لأنَّهُ يُنسَى مَعَ الأيَّامِ، واحذَروا ثُمَّ احذَروا القولَ على اللهِ أو على دينِهِ بغيرِ علمٍ، قالَ تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

واحْذَروا كُلَّ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، فَقَدْ ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عَن زيدِ بنِ أَرْقَمٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ».

أيها المسلمونَ: إنَّ زَمَن الصِّغَرِ والشبابِ أفضلُ زَمَنٍ للتَّعليمِ والتَّحصيلِ، وإنَّ مِن مَحَاضِنِ التعليمِ النافعةِ المَدَارِسَ النِّظَامِيَّةَ في بلادِنَا، مِن الابتدائيِّ إلى الجامِعَةِ، وفيها خيرٌ كثيرٌ مِن تَعَلُّمِ العلومِ الشَّرعيَّةِ، وكثيرٍ مِن العلومِ المُباحةِ التي يحتاجُهَا المسلمونَ، فاهْتَبِلوا فُرَصَ الدِّراسَةِ، وبهذِهِ المُناسَبَةِ أُوجِّهُ ثلاثَ رسائلَ:

الرِّسالَةُ الأولى: للمُعلِّمِ، أيُّها المعلمُ في المرحلةِ الابتدائيَّةِ إلى الجامِعيَّةِ، إنَّكَ المُربِّي المُؤثِّرُ، والبَانِي للعلومِ في نفوسِ الطُّلابِ والمُتعلِّمينَ، فَكَمْ لَكَ مِنْ مَنْزِلَةٍ رَفيعَةٍ، وفي نفوسِ الطُّلَّابِ جَليلةٍ، فاتَّقِ اللهَ فيهِم، فإنَّهُم أوعِيَةٌ فارِغَةٌ، وَلِمَا تَصُبُّ راغِبَةٌ، وَلِما تُلْقِي سامِعَةٌ، فاحْرِص على أنْ تُحَبِّبَهُم لجَنَابِكَ فيَنْتَفِعوا بكلامِكَ.

احْرِصْ على تعليمِهِم الأدبَ مَعَ العلمِ، وأنْ تُحَبِّبَ في نفوسِهِم أنْ يكونُوا قادةً مُؤثِّرينَ، وفي المَيَادينِ سابِقينَ، لإصلاحِ الدِّينِ والمسلمينَ، ولخِدمَةِ وَطَنِهِم.

واعْلَم أنَّ غَزَارَةَ معلوماتِكَ، وتَمَيُّزَكَ في مادَّتِكَ، سَبَبٌ رئيسٌ لاحتِرَامِكَ، ثُمَّ تَأَكَّد أنَّ التَّأثيرَ بالأفعالِ أَبْلَغُ مِن التَّأثيرِ بالأقوالِ، فَكُنْ قُدوةَ خيرٍ ومِثالَ هُدى، مُحتَسِبًا بِذلكَ رِضَا اللهِ، فإنَّكَ إنْ فعلتَ أُثِبْتَ أُجورًا كثيرةً أفضلَ مِن صلاةِ نافلةٍ وذِكرٍ وتسبيحٍ، مع أهميَّةِ هذهِ العباداتِ والطاعاتِ.

أيُّهَا المعلمُ، إنَّنا في زمانٍ غَزَانا الغربُ بثقافَتِهِ المُتهافِتَةِ، وغزوُ الشرقِ إلينا مُقبِلٌ، فَحَصِّنْ أبناءَنا لئلَّا تذوبَ شخصيَّتُهم الإسلاميَّةُ العربيَّةُ، ولِئلَّا يَفقِدوا المُرُوءَةَ والشهامَةَ والغَيْرَةَ والحَمَاسَةَ الدِّينيَّةَ.

 

اللهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا.

أقولُ مَا قُلْتُ، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ وَكَفَى، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ المُصطَفَى والنبيِّ المُجْتَبَى ﷺ، أمَّا بعدُ:

فتتمةُ الرسائلِ الرِّسالةُ الثانية: رسالةٌ للطُلَّابِ، أيُّها الطلَّابُ، إنَّكُم عِمادُ الدِّينِ، وقَوَامُ المجتمعِ والوطَنِ، فاعرِفُوا مَا أُعْدِدتُم لَهُ، وكونُوا على قَدْرِ المسؤوليَّةِ.

قَـدْ هَيَّـــؤُوكَ لِأَمْــــرٍ لَـو فَطِنْــتَ لـهُ *** فَـارْبَأ بِنَفْــسِكَ أَنْ تَــرْعَى مَـعَ الهَــــمَلِ

إِيَّاكَ والبَطَالةِ، والجَهْلَ والكَسَالَةَ، وكُنْ ذَا طُمُوحٍ شامِخٍ مُبْتَغِيًا بِذلكَ رِضا اللهِ، ثُمَّ رِضا والِدَيْكَ والمُجتمَعِ، لَا تُصاحِبْ بَطَّالًا وَفِي الدِّرَاسَةِ هَمَّالًا، بَلْ صاحِبِ الجَّادِّينَ، وَنَافِسهُمْ في المَيَادِينِ، احْرِصْ على تعلُّمِ دينِكَ فإنَّهُ الذي ينفَعُكَ في دُنياكَ وأخِرَتِكَ، ثُمَّ تَعَلَّمْ ما يَنفَعُكَ مِن علومِ الدُّنيا النَّافِعَةِ.

أيُّتها الطالِبَاتُ، احرِصِنَ على ما ينفَعُكُنَّ، واحذَرِي مِن التبرُّجِ والسُّفُورِ والاختلاطِ بالرِّجالِ، وَلَا تَلَازُمَ بينَ التَّفوُّقِ الدِّراسيِّ والثَّقافَةِ وَبَينَ ذلكَ، فإنَّ أُمَّهاتِ المؤمنينَ كُنَّ حريصاتٍ عَلَى التَّعلُّمِ مَعَ المُحافَظَةِ على سِترِهِنَّ وَعَدَمِ الاختِلاطِ بالرِّجالِ، وفي زمَانِنا هذا نَماذِجُ لنساءٍ هُنَّ مِثالٌ في النَّجاحِ والتَّفوُّقِ العِلميِّ، مَعَ الحِفاظِ على الحِجابِ وعَدَمِ الاختِلاطِ، فاقْتَدينَ بالصَّالِحاتِ مِن المسلماتِ، واحْذرنَ أشَدَّ الحَذَرِ مِن تقليدِ السَّافِرَاتِ والمُتبرِّجاتِ.

أيُّها الطالب، كُنْ مُعتَزًّا بدينِكَ فخورًا بِهِ، وَلَا تَكُنْ هَشًّا ضعيفًا تَعْصُفُ بِكَ رِياحُ الإفسادِ مِن الغربِ أو الشرقِ، واعْلَم أنَّ التَّميُّزَ ليسَ بالأمانيِّ، إنَّما بالجِدِّ والاجتهادِ، فالأماني رأسُ مالِ المَفَاليسِ، وإنَّ مَن كانت لهُ بِدَايةٌ مُحْرِقةٌ كانَتْ لَهُ نِهايةٌ مُشْرِقَةٌ.

قالَ المُتنبِّي:

لَــولا المَشَقَّــةُ ســادَ النـاسُ كُلُّهُــمُ  ***  الجــودُ يُفقِـــرُ وَالإِقـــدامُ قَتَّـــالُ

الرسالةُ الثالثةُ: رسالةٌ للآباءِ وأولياءِ الأمورِ، أيُّها الأبُ إنَّ أولادَكَ ذكورًا وإناثًا أمانةٌ، وأنتَ مسؤولٌ عنهُم، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6] ورَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عَن ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

أيُّها الأبُ، عَزِّزْ في نفُوسِ أولادِكَ الحِرْصَ على التَّحصيلِ والتَّعليمِ، فَكُنْ خيرَ مُعينٍ بأنْ تُحمِّسَهُمْ وتَرتَبِطَ مَعَ مُعلِّميهِم وَمَعَ مَدَارِسِهِم، وأَزِلْ عَن نُفُوسِهِم الوَهْمَ السَّرَابِيَّ مِن أنَّه لا داعيَ للتعليمِ وأنَّهُ ليسَ طريقًا لتحصيلِ المالِ، وأنَّ فُلانًا اغْتَنَى وَلَمْ يَكُنْ مُتعلِّمًا …إلخ، وأخبِرْهُم أنَّهُ لا تَعَارُضَ بينَ تحصيلِ المالِ والتَّعليمِ، وأنَّ العلمَ لَمْ يكُنْ يومًا ما عائقًا عَن تحصيلِ المالِ، بَلْ هُوَ مُقوِّمُهُ ومُحسنٌ لاستِهْلاكِهِ واستِعْمَالِهِ.

أيُّها الأبُ، عَظِّمْ في نُفُوسِهِم ابتِغاءَ اللهِ والدَّارِ الآخِرَةِ بالعلمِ، وأنْ يكونوا جُنودًا للدِّينِ، ثُمَّ للوطنِ والمسلمينَ.

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.

اللهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

خطبة ثلاث رسائل للمعلم والطالب والأب


شارك المحتوى:
0