من أسباب نجاح الأسرة والدولة


 

الخطبةُ الأولى:

الحمدُ للهِ ربِّ الأرضِ والسماءِ، يختارُ بحكمتِهِ ويخلُقُ ما يشاءُ، خلقَ الإنسانَ مِن طينٍ ثُمَّ جعَلَ نسلَهُ مِن ماءٍ، وجعَلَ الرجالَ مِنهم قَوَّامين على النساءِ، فمَنْ وافَقَ فِطرَتَهُ وحِكمَتَهُ فَهوَ الحكيمُ واللهُ يُؤتي الحِكمةَ مِن يشاءُ، ومَن خالَفَ فِطرَتَهُ زاغَ واتَّبَعَ الشيطانَ وهو يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ.

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]

أما بعدُ:

فإنَّ مِن أعظمِ أسبابِ نجاحِ الحياةِ الزوجيةِ أن يقودَهَا الرَّجلُ، فَلَا يصِحُّ للمَركبَةِ قائدانِ، ولا للسفينةِ قُبطانانِ، ولا يجتمعُ سيفانِ في غِمدٍ واحدٍ، وقد جعَلَ اللهُ زِمامَ الأمورِ بيدِ الرجالِ لجبِلَّتِهِم التي خَلقَهُم عَلَيْهَا، قالَ تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34].

وَلمَّا اختلَّ هذا النظامُ الإلهيُّ الطبعيُّ في بلادِ الغربِ تفَكَّكَتِ الأسَرُ ثُمَّ المجتمعُ، فانفَلَتَتِ الأمورُ وأضبحَ حالُهُم شذَرَ مَذَرَ، فلا بيئةَ صالحةٌ ومُرشِدَةٌ وراحِمَةٌ للزوجينِ والأولادِ ذكورًا وإناثًا، فيهجُمُ ذِئابُ الرجالِ على البناتِ لأنه لا راعيَ لهُم، حتى إذا قضوا حاجتَهُم مِنهُنَّ تركوهُنَّ لغيرِهِنَّ، وقد تحمِلُ فتتحمَّلُ وحدها أعباءَ الحَملِ وتربيةِ الولدِ، جُهدًا ورعايةً ومالًا، وإذا كَبِرَ الوالِدانِ فلا راعيَ لهُمَا إلا دارُ العجزَةِ، والأبناءُ الذكورُ ضاعوا في شِبَاكِ تُجَّارِ المُخدِّراتِ والمُسكِراتِ، وأصبحوا ضحايا كالبهائمِ أو أشدَّ …إلخ.

ولشيخِ الإسلامِ كلامٌ عظيمٌ في بيانِ عِظَمِ القِوامَةِ للرجالِ شرعًا، مما ينتُجُ عنهُ صلاحُ الفردِ الأُسرةِ والدولةِ، ، قالَ -رحمه الله تعالى- في مجموعِ الفتاوى (32/ 261):

“الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ؛ إذَا نَظَرْت إلَيْهَا سَرَّتْك وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِك».

وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ»”.

– ثم قال: – “وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ» رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ فَبَاتَ غضبانا عَلَيْهَا: لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ».

وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ». فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ فِيهَا وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ: فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا؛ فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا ظَالِمَانِ؛ لَيْسَ لَهَا أَنْ يَنْهَيَاهَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ هَذَا الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَاعِ مِنْهُ أَوْ ضاجَرَتهُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا: مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا تَطْلُبُهُ لِيُطَلِّقَهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا.

فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثوبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ».

وَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ: مِثْلَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَنَهْيِهَا عَنْ تَبْذِيرِ مَالِهَا وَإِضَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ نَهَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ: فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ أَبَوَيْهَا.

وَإِذَا نَهَاهَا الزَّوْجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ أَمَرَهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» بَلْ الْمَالِكُ لَوْ أَمَرَ مَمْلُوكَهُ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُطِيعَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهَا فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ”. انتهى كلامُهُ.

وبعدَ هذهِ الأدلةِ مِن نقلِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةِ يُعلَمُ أهميةُ طاعةِ المرأةِ لزوجِها، وأنهُ سببُ فلاحِهَا في الدنيا والآخرةِ، وسببٌ رئيسٌ لنجاحِ الأسرةِ الذي يترتَّبُ عليهِ نجاحُ المجتمعِ والدولةِ.

اللهُمَّ وفِّقنا لما يُرضيكَ، وأعِنَّا على ما فيهِ صلاحُنَا في الدنيا والآخرةِ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ… أما بعدُ:

فإنهُ إذا كانَ الزوجُ بهذِهِ المرتبةِ العاليةِ في الأُسرةِ؛ فليعرِفْ لهذهِ المرتبةِ قدرَها، ولهذه المسؤوليةِ وزنَهَا، فَلْيَسِرْ بمركبةِ الأسرةِ خيرَ مسيرٍ دينيٍّ ودنيويٍّ، وليعرِفْ للزوجةِ والأولادِ ذكورًا وإناثًا قَدْرَهُم، فيجتهدُ في نُصحِهِم وإصلاحِ حالهِم والتلطُفِ مَعَهُم والقُرْبِ مِنهم، وتركِ ظُلمِهِم، وليُشارِكهمْ معَهُ في إنجاحِ الأُسرةِ، وليَحرِصْ على نشرِ الأُلفةِ والمحبةِ بينَ أفرادِ أُسرتِهِ، وليَستفِدْ مِن نُصحِ أُسرتِهِ ومشورتِهِم ونُصحِ أهلِ العلمِ والفضلِ، وليتذكَّرْ أنه داخلٌ فيما أخرجَ الشيخانِ عن مَعقِل بنِ يسارٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

وكَم حاولَ الغربُ إفسادَ الأُسرةِ باسمِ الحريةِ، وبزعمِ مُساواةِ المرأةِ للرجلِ، لتتمرَّدَ الزوجةُ على زوجِها، وتفسُدَ حياتُها وحياةُ أُسرتِها، كما حاولوا إفسادَ الشعوبِ باسمِ الحريةِ على دولتِهِم وولاتِهِم، فيتمرَّدوا عليهِم فتحصلُ الفتنةُ وما لا يُحمدُ عُقباهُ.

فكونوا حذرينَ ولا تغُرَّنَّكُمْ دعوةُ الباطلِ المُزخرَفَةِ بألفاظٍ برَّاقةٍ وجذَّابةٍ.

اللهُمَّ أصلِحْ حالَنَا وحالَ المسلمينَ أجمعينَ.

اللهُمَّ أصلِحْ حالَ المتزوجينَ وأسْعِدْهُم وجميعَ المسلمينَ.

اللهُمَّ وَلَا أيِّمَ وأعزَبَ إلَّا زوجتَهُ، وَلَا ضالَّ إلَّا هَدَيْتَهُ.

اللهُمَّ وَفِّقْ مَلِكَنَا وَوَلِيَّ عَهدِهِ لِما فيهِ رِضَاكَ وَهُدَاكَ.

وَقُومُوا إلى صلاتِكُمْ يَرْحَمْكُم اللهُ.

من أسباب نجاح الأسرة والدولة – د. عبدالعزيز بن ريس الريس

من أسباب نجاح الأسرة والدولة


شارك المحتوى:
0