تحفة الذاكرين


الحمدُ للهِ الذي أعَدَّ للذاكرينَ اللهَ كثيرًا والذَّاكِراتِ أجرًا عظيمًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، الذي يعلَمُ مَا في السمواتِ وَمَا في الأرضِ وكَفَى بهِ عليمًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أنزَلَ عليهِ الكتابَ والحكمةَ وعلمَهُ مَا لَمْ يكُنْ يعلَمْ، وكانَ فضلُ اللهِ عليهِ عظيمًا، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا،

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ مِن فضلِ اللهِ عَلَى أُمَّةِ محمدٍ ﷺ أنْ جَعَلها أكثرَ أهلِ الجنةِ، ثبَتَ في الصحيحينِ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ».

إنَّ مِنْ أسبابِ دخولِ الجنةِ الأعمالَ الصالحةَ، ومِنْ أفضلِ الأعمالِ الصالحةِ ذكرُ اللهِ الذي أمَرَ اللهُ بهِ في كتابهِ، وَأَمَرَ بهِ نبيُّنَا ﷺ في سنتهِ، ورُتِّبَتْ عليهِ فضائلُ كثيرةٌ.

قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾، وقالَ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، وقالَ: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾.

ومِنْ أعظمِ الفضائلِ أنَّ اللهَ في عُلَاهُ وكِبريائِهِ وَجَلَالِهِ يذكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، قالَ تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ قالَ ابنُ القيمِ -رحمه الله تعالى-: ” لو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلًا وشرفًا“.

وقالَ سبحانهُ: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾ أكبرُ وأفضَلُ مِنْ كُلِّ شيءٍ.

وَقَدْ بيَّنَ النبيُّ ﷺ فضلَ الذاكرينَ اللهَ كثيرًا والذَّاكِرَاتِ، فَفِي الصحيحينِ عَن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ».

وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ».

وثبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ».

وثبتَ في البخاريِّ عَن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».

وثبَتَ في الصحيحينِ عنْ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ».

ومعنى قول (سبحانَ اللهُ وبحمدِهِ) يختلفُ باختلافِ معنى (الواوِ) فإنْ كانَتْ للمُصَاحبَةِ فمعناهُ: أُنزِّهُ اللهَ مُتَلَبِّسًا بحمدِهِ، وإذا كانت (الواو) للعطفِ فمعناهُ: أُسَبِّحُ اللهَ وأتَلَبَّسُ بحمدِهِ، ذكَرَهُ الُمناوِيُّ -رحمهُ اللهُ-.

وَثَبَتَ في مسلمٍ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا».

وَثَبَتَ في الصحيحينِ مِن حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».

وَثَبَتَ في الصحيحينِ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».

وإنَّ أفضلَ الذِّكرِ وأعظمَهُ على الإطلاقِ كلامُ اللهِ القرآنُ المُنزَّلُ مِن عندِ اللهِ، والذي هو صِفَتُهُ غيرُ المخلوقِ، فَقَد ثَبَتَ في سُننِ سعيدِ بنِ منصورٍ عَن عبدِاللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” تَعَلَّمُوْا القُرْآنَ، فَإِنَّ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، لَا أَقُوْلُ: الم وَلَكِنْ: أَلِفٌ، وَلَامٌ، وَمِيْمٌ “.

يَا للهِ،

كَمْ في الصَّفحَةِ والصفحتينِ والجزءِ والجُزئَينِ مِنْ القرآنِ مِن الأجورِ مِنْ رَبِّنَا الغَفورِ.

يَا إخوةَ الإسلامِ، إنَّ فَضَائِلَ الذِّكرِ كثيرةٌ، فاللهَ اللهَ في مجاهدةِ النَّفسِ على ذِكرِ اللهِ وفِي مُجاهَدَةِ النَّفسِ على التَّسبيحِ والتَّهليلِ والتَّحميدِ والاستِغفارِ وقِراءَةِ كِتابِ اللهِ سبحانَهُ.

وإِنَّ الرجُلَ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ ذاكِرًا للهِ مُقبِلًا على طاعَتِهِ إلَّا بِمُجاهدةِ نفسِهِ على ذلكَ، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وَلْنَتَذكَّرْ أنَّها أعمالٌ قليلةٌ وأُجورُهَا كثيرةٌ.

داوِمْ على الأذكارِ المقيدةِ كأذكارِ الصباحِ والمساءِ والنومِ وغيرِها، وعلى الأذكارِ المطلقةِ ذهابًا وإيابًا وقيامًا وقعودًا، واجعَلْ لَكَ وِردًا مِن الذِّكرِ تُجاهِدُ نَفسَكَ عليهِ كُلَّ يومٍ، فَقَدْ ثبتَ عِندَ ابنِ سعدٍ أنَّ أبا هريرةَ -رضي الله عنه- كانَ يُسبِّحُ اللهَ كُلَّ يومٍ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ ألفَ تسبيحةٍ.

إنَّكَ إذا لَمْ تجعَلْ لِنَفسِكَ وِردًا يومِيًّا مِن القرآنِ والذِّكْرِ غَلَبَتْكَ نفسُكَ الأمَّارةُ بالسُّوءِ، وَذَهَبتْ عليكَ الأيَّامُ، بَلْ الأسابيعُ بَل الشهورُ وَلَمْ تكُنْ مِن الذَّاكِرينَ.

أسألُ اللهَ الذي لَا إلهَ إلَّا هُوَ أنْ يجعَلَنَا جميعًا مِن الذاكرينَ لَهُ، وأنْ يُسكِنَنَا جِنَانَهُ، وأَنْ يُنَجِّينَا مِن نيرانِهِ، إنَّهُ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ وَكَفى، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى الرَّسولِ المُجْتَبَى، محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المُصطفَى، أمَّا بعدُ:

فَكَمَا جَعَلَ اللهُ الِّلسانَ وسيلةً إلى عِبادتِهِ وإلى زِيادَةِ الأجرِ بطاعتِهِ، إلَّا أنَّهُ مِن أعظمِ أسبابِ الوُقوعِ في النَّارِ -عافاني اللهُ وإيَّاكُمْ-.

ثَبَتَ في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ».

لِذَا كانَ سَلَفُنَا يخافونَ مِن آثامِ وَزَلَّاتِ اللِّسانِ، أخرجَ ابنُ عساكرٍ عن عُمَرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنهُ قالَ: “ مَن كَثُرَ كلامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ “.

وَخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا عَن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: “ مَا شَيءٌ أَحَقُّ بِطولِ سِجْنٍ مِن اللِّسانِ “.

فاللِّسانُ كَمَا هُوَ سبيلٌ لِطاعةِ الرَّحمنِ فَهُوَ مِن أعظمِ سُبُلِ الزَّلَلِ في النِّيرانِ.

أيُّها المؤمنونَ، كَمَا إنَّ أُمَّةَ محمدٍ ﷺ أكثَرُ أهلِ الجِنانِ إلَّا أنَّ كثيرًا مِن أُمَّةِ محمدٍ ﷺ يدخلونَ النِّيرانَ، وَقَدْ يدخُلُ المسلمُ النارَ بأمرٍ يستهينُ بِهِ،

أَلَمْ تدخُلْ امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ حَبَستْهَا حَتَّى مَاتَتْ؟

إنَّهُ يجبُ علينا أنْ نَسِيرَ إلى اللهِ خائفينَ وَرَاجِينَ كَحَالِ الأنبياءِ والصَّالِحينَ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

أسألُ اللهَ الذي لَا إلهَ إلَّا هُوَ، أسألُ اللهَ الرَّحمنَ الرَّحيمَ، أسألُ اللهَ ذَا المَنِّ والفَضلِ، أسألُ اللهَ الجوادَ الكريمَ أنْ يجعَلَنَا مِن الذَّاكرينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن الذَّاكرينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن الذَّاكرينَ.

وَقُومُوا إلى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمكُمْ اللهُ.

 

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

خطبة تحفة الذاكرين - د. عبدالعزيز الريس


شارك المحتوى:
0