الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خلَقَ فسوَّى، وقدَّر فَهدَى، الحمدُ للهِ الذي يُحِبُّ المتطهِّرينَ والتوَّابينَ، والصلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ وسلَّم، الذي تركَنَا على المَحجَّةِ البيضاءِ، ليلُهَا كنهارِهَا لا يزيغُ عنها إلَّا هالِكٌ.
وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِنْ أسبابِ محبَّةِ اللهِ لعبادهِ أنْ يتطهَّروا، كما قالَ سبحانهُ: ﴿إن الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222] وأعظمُ غاياتِ ومُنَى أهلِ الإيمانِ أنْ يفوزوا بمحبَّةِ الرحمنِ ودخول الجنان.
وروَى الإمامُ مسلمٌ عَنْ أبي مالكٍ الأشعريِّ -رضي الله عنه- أنَّهُ قالَ: قالَ ﷺ: «الطَّهورُ شَطرُ الإيمانِ» أي: نصفُ الإيمانِ.
لِذَا كانتِ الطهارةُ بهذهِ المنزلةِ العظيمةِ، وممَّا يُؤكِّدُ علوَّ منزلتهَا، أنَّ الصلاةَ التي هيَ عمودُ الإسلامِ لَا تصِحُّ إلَّا بالطهارةِ، والطهارةُ ما بينَ أنْ تكونَ طهارةً كُبرَى أو طهارةً صُغرَى، والطهارةُ الصغرى تكونُ بالوضوءِ ولها أسبابٌ ومُوجِباتٌ، والطَّهارةُ الكُبرى تكونُ بالاغتسالِ ولها أسبابٌ ومُوجباتٌ، وإليكم باختصار بعض أحكام الطهارةِ الكُبرى وهي الغسل من الجنابة.
قالَ سبحانهُ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 6] وإنَّ للغُسلِ مُوجباتٍ، أذكرُ منها أمرينِ لمسيسِ الحاجةِ إليهما:
الأمرُ الأولُ: خُروجُ المنيّ، فإنَّ خروجَ المنيّ مُوجبٌ للغُسُل، ثبتَ في صحيح مسلمٍ عَنْ أبي سعيدٍ الخُدريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «الماءُ مِنَ الماءِ» أي: ماءُ الاغتسالِ مِنْ ماءِ المنيِّ الذي يخرُجُ مِنَ المُكلَّفِ.
وثبتَ في الصحيحينِ عَنْ أُمِّ سُليمِ امرأةُ أبي طلحةَ -رضي الله عنها- أنَّها قالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ لا يستحيي مِنَ الحقِّ، هَلْ علَى المرأةِ غُسلٌ إنْ هيَ احتلَمَتْ؟ قالَ: «نَعَمْ، إذا رأَت الماءَ» فدلَّ على أنَّ ماءَ المنيِّ مُوجِبٌ للغُسل، وقدْ أجمعَ العلماءُ على ذلكَ.
ويتعلَّقُ بهذا مسائلٌ:
المسألةُ الأولى: مَن استيقظَ مِنْ نومهِ ورأى ماءَ المنيِّ ولَم يتذكَّرْ احتِلَامًا، فإنَّهُ يجبُ عليهِ الاغتسالُ لحديثِ أمُّ سليمٍ لمَّا قالَ ﷺ: «نَعَمْ، إذا رأَت الماءَ»، ولإجماعِ أهلِ العلمِ.
المسألةُ الثانيةُ: مَنْ تذكَّرَ احتلامًا وتذكَّرَ أنَّ الشيطانَ تلاعبَ بهِ في نومهِ، لكنَّهُ لمَّا استيقظَ لمْ يرَ شيئًا، فإنَّه لا يجبُ عليهِ الغُسُل؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ علَّقَ الغُسلَ على وجودِ المنيِّ لمَّا قال: «نَعَمْ، إذا رأَت الماءَ»، وقدْ أجمعَ العلماءُ عليه.
المسألةُ الثالثةُ: يُشترطُ في الاغتسالِ مِنْ خروجِ المنيِّ للمُستيقظِ أنْ يكونَ دفقًا أمَّا إذا خرجَ المنيّ دونَ دفقٍ كمَا يحصلُ لبعضِ الناسِ، فإنَّهُ لا يجبُ منهُ الغُسلُ، كما أفتَى بذلكَ اثنانِ مِنَ التابعينَ، عبيدةَ السَّلمانيّ وقتادةَ، أخرجهُ عبدُ الرزَّاقِ، فدلَّ على أنَّهُ لا اغتسالَ حالَ اليقظةِ إلا مِنَ المنيِّ إذا خرجَ دفقًا، أمَّا إذا لم يكُنْ كذلكَ فإنَّهُ لا يجبُ منهُ الاغتسالُ، وأؤكد أن هذا حال اليقظة ولا علاقة له بالاحتلام.
المسألةُ الرابعةُ: قَدْ يستيقظِ الرجلُ مِنْ نومهِ فيرَى بللًا، فيلتبسُ الأمرُ عليهِ، أهوَ ممنيّ أو بولٌ أو عرقٌ أو غيرُ ذلكَ، فإنَّ مثلَ هذا لا يجبُ عليهِ الاغتسالُ وإنْ كانَ مُستحبًّا لهُ.
أمَّا المُوجبُ الثاني مِنْ مُوجباتِ الاغتسالِ والسببُ الثاني: التقاءُ الختانينِ والمراد ختان الرجلِ مع ختان المرأةِ، فإذا أولجَ الرجلُ رأسَ الذَّكرِ المُدبَّبِ -الحشَفَةُ- فقدْ وجبَ الغُسلُ ولَو لَمْ يُنزِل، روَى البخاريُّ مسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إذا جلَسَ بينَ شُعَبِهَا الأربع فقَدْ وجبَ الغُسلُ» وفي روايةِ مسلمٍ: «وإنْ لَمْ يُنزِل»، وقدْ ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عَنْ عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إذا جلسَ بينَ شُعبها الأربع ومسَّ الختانُ الختانَ فقَدْ وجبَ الغُسلُ».
فإذَنْ مَنْ أولجَ ولو لَمْ يُنزِل فإنَّهُ يجبُ عليهِ الغُسُل.
هذانِ مُوجبانِ للغُسُل، وهناكَ مُوجباتٌ وأسبابٌ أخرى، لكنْ ذكرتُ هذا لمسيسِ الحاجةِ إليهِ.
أيها المسلمون: إنَّ لرفعِ الجنابةِ طريقتينِ:
الطريقةُ الأولَى: الطريقةُ المُجزئةُ، ويُشترطُ فيها ما يلي:
الأمرُ الأولُ: النيَّةُ، فقَدْ ثبتَ في الصحيحينِ عَنْ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وإنَّمَا لكلِّ امرئٍ ما نَوَى».
الأمرُ الثاني: أنْ يُعمَّمَ الماءُ على البدنِ كُلِّهِ، فإذا عُمِّمَ الماءُ على البدنِ كُلِّهَ فقَد اغتسَلَ الجُنُب، روَى البخاريُّ عَنْ عمرانِ بنِ حُصينٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: «اذهب فأفرغه عليك»، أما فيما يتعلَّقُ بالشَّعرِ سواءٌ كانَ للرجلِ أو المرأةِ، فإنَّ الشعرَ المُسترسِلَ لا يجبُ غسلهُ، لذا إذا شدَّتهُ المرأةُ فإنهُ لا يجبُ عليها أن تنقُضَ شعرها، وكذلكَ الرجلُ إذا كانَ ذا شعرٍ كثيرٍ وشدَّ شعرَهُ، فلا يجبُ عليهِ أنْ ينقُضَ شعرهُ.
روَى الإمامُ مسلمٌ عَنْ أُمِّ سلمةَ -رضي الله عنها-: قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين».، ثبتَ عند ابن أبي شيبة عن ابنِ عمرَ -رضي الله عنه- أنَّهُ كانَ يأمرُ نساءَهُ ألَّا ينقُضْنَ شُعورَهُنَّ لِغُسلِ الجنابة.
أمَّا أصلُ البشرةِ فإنَّهُ يجبُ على الرجلِ والمرأةِ أنْ يغسلوا أصلَ البشرةِ، وهذا بإجماعِ أهلِ العلمِ، حكى الإجماعَ ابنُ بطَّالٍ -رحمه الله تعالى-، وثبتَ عندَ ابن أبي شيبةَ عَنْ حُذيفةَ -رضي الله عنه- أنَّهُ أمرَ ابنتهُ أنْ تُخلِّلَ شعرها، فقالَ: “خللي رأسك بالماء لا تخلله نار“.
فإذَنْ يجب غسل بشرةُ الرأس أمَّ الشعرُ فإنَّهُ لا يجبُ غسلهُ، سواءً كانَ للمرأةِ أو الرجلِ.
هذا هوَ الغُسلُ المُجزئُ، أمَّا الغُسلُ المستحبُّ فإنَّهُ يُبتدأُ بالنيَّةِ ولا بُدَّ كمَا تقدَّم، وبالتسميةِ ثُمَّ يغسل فرجه ثُمَّ يتوضَّأ ، ثم يغسلُ الشِّقَّ الأيمنَ مِنَ الرأسِ، ثُمَّ الشِّقُّ الأيسَرِ، ثُمَّ الوسَط، ثُمَّ الشِّقُّ الأيمَنِ مِنَ البدنِ، ثُمَّ الشِّقُّ الأيسَرِ مِنَ البدنِ، ثُمَّ يُؤخِّرُ غسلَ الرجلينِ ويُغيِّرُ مكانهُ ويغسلُ رجليهِ، كما ثبتَ في الصحيحينِ مِنْ حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها- ومِنْ حديثِ ميمونةَ -رضي الله عنها-.
أسألُ اللهَ بأسمائهِ الحُسنَى وصفاتهِ العُلَى أنْ يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأنْ ينفعنَا بما علَّمنَا، أقولُ ما قُلْتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفروهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فما تقدَّمَ ذكرهُ من الأحكام الشرعية قليلٌ من كثيرٍ، وإنَّ مِنَ العلومِ الشرعيةِ ما هوَ شرطُ كفايةٍ لا يُعذرُ المسلمُ في تركِ تعلُّمِهَا، ويجبُ على الوالدِ أنْ يُعلِّمَ أولادهُ ذكورًا وإناثًا، فقدْ ثبتَ في الصحيحينِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «الأبُ راعٍ في بيتهِ مسؤولٌ عنْ رعيَّتهِ» واللهُ سبحانهُ يقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].
إخواني: اعلموا أنَّ الحياءَ أمرٌ عظيمٌ وهوَ مِنَ الدِّينِ، بَلْ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ، لكن لا حياءَ في العلمِ، فقدْ علَّقَ البخاريُّ ورواهُ الإمامُ مسلمٌ عَنْ عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّها قالَتْ: ” نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ “، ينبغي أنْ نُوصِلَ لأولادِنَا ذكورًا وإناثًا هذه الأحكامِ الشرعيةِ، فقدْ يستحي الأبُ أو قدْ لا يكونُ ذا علمٍ شرعيٍّ، فليُكلِّمْ صاحب العلم ليُفقِّهَ أبناءَهُ، أو أنْ يُرسِلَ إليهم المقاطِعَ الشَّرعيَّةَ حتَّى يتعلَّموا أحكامَ الدِّينِ، ويُؤكِّد على زوجتهِ أنْ تُعلِّم البناتَ بأنْ تُرسِلَ إلَيْهِنَّ المقاطعَ وغيرِ ذلكَ، وبعضُ الآباءِ يظنُّ أنَّ التَّعلُّمَ في المدارسِ النظاميةِ كافٍ، نَعَم، إنَّ الدراسةَ في المدارسِ النِّظاميِّةِ في بلادِنَا السعودية فيها خيرٌ عظيمٌ، لكنهُ يُنسَى وَلَا بُدَّ معَ وسائلِ التواصلِ وغيرِ ذلكَ.
فتَعَاهدُوا أولادَكُم ذكورًا وإناثًا، فإنهمْ أمانةٌ في أعناقكم.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
اللهم فقهنا في الدين، واجعلنا هداة مهتدين.