ملحوظات على وقفات الشيخ فيصل بن قزار


 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله، وصحبه أجمعين أما بعد:
اطَّلعتُ على وقفات الشيخ فيصل بن قزار حفظه الله والتي أَسماها “وقفات مُختصرة مع فتوى الأوقاف بمنع الجُمَع والجَمَاعات ”
ولي عليها ملحوظتان، وقبل أن أبدأ بعرضهما لا بد أن يَعلم القارئُ ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إنَّ التَّصديَ للإفتاء الشَّرعيِّ أمرٌ له خطورته، وكان السَّلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرُّعَ في الفتوى، بل كانَ كلٌّ منهم يُحيلها إلى الآخر حتى ترجع إليه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ أراه قال في المسجد، فما كان منهم مُحدِّثٌ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديثَ، ولا مُفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتْيَا.
فما بالُكَ أيُّها القارئُ بالأمورِ العامَّةِ التي تتعلقُ بالأُمَّةِ، والنوازلِ الخطيرةِ التي تمرُّ بها أُمَّةُ الإسلامِ يتصدَّى لها طـــــــــــالبُ علــــــــــــــمٍ أو أحدٌ من عامـــــــــــــــة الناس، قال الشَّعبي: إنَّ أحدَكم ليُفتي في المســــألةِ، ولو ورَدَتْ على عمرَ ابنِ الخطاب ـــ رضي الله عنه ــــ لجمعَ لها أهلَ بدر.
الأمر الثاني: إن تدوين هذه الملحوظات على الشيخ لا يعني هضم حقه، أو الانتقاص من قدره فهو حبيب إلى قلوبنا، ولكن الحق أحق أن يتبع.
والأمر الثالث: إنَّ هذه الوقفاتِ هي في الحقيقة شُبَهٌ نُشِرَتْ بين الأنامِ ولا بُـدَّ من إيضاحها، وسأكتفي بوقفتين من تلك الوقفات لأنَّ بعض الوقفات الأخرى لا ترتقي للبحث العلمي، وبعضها طرحٌ عاطفي، وبعضها خلاف بين أهل العلم مثل التداوي، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: ” فإنَّ الناس قد تنازعوا في التداوي، هل هو مُباحٌ؟ أو مُستحب؟ أو واجبٌ؟ والتحقيق أنَّ منه ما هو مُحرَّمٌ، ومنه ما هو مكروهٌ، ومنه ما هو مباحٌ، ومنه ما هو مُستحبٌّ، وقد يكون منه ما هو واجبٌ، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاءُ النفس لا بغيره، كما يجبُ أكلُ الميتةِ عند الضرورة، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ” أ.هـ ، ولذلك أعرضت عنها لأنَّها لا تستحقُّ الردَّ، والمسألة برمتها راجعة إلى ولي الأمر.
الملحوظة الأولى:
احتج الشيخ فيصل حفظه الله: بأنه لم يثبتْ عن الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم منعُ الجُمَعِ والجَمَاعاتِ عند وقوع الطَّواعين التي كانت أشدَّ فتكًا من كورونا، بل ثبتَ عنهم إقامة الجُمَعِ والجَمَاعاتِ في طواعين عدة وقعتْ في عهدِ الصَّحابة والتابعين.
قلتُ: هذه الحجة واهية لا تقوى على التحقيق، وهي مردوة من عدة أوجه.

الوجه الأول:
هذا قياسٌ لم تُراعَ فيه الفروق (الفرق بين كورونا والطاعون ).
وقد ذهبَ جمعٌ من العلماءِ إلى أنَّ الطاعونَ مرضٌ خاصٌّ له أحكامه وخصائصه، وأنه يختلف عن الأوبئة الأخرى التي تصيبُ الناس في مجتمعاتهم، وذلك أنَّ وباءَ الطاعون يختص بخصائصَ تتلخص في الآتي: ـــــ
الخاصية الأولى: أنَّه شهادةٌ للمسلم.
الخاصية الثانية: أنه رحمةٌ للمسلم.
الخاصية الثالثة: أنَّه أمرٌ تعبُّدي يُقابل بالاحتساب والصبر، والصَّابرُ فيه كالصابرِ في الزَّحف.
الخاصية الرابعة: أنَّه دعوةُ النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أن يجعل فناء أمته بالطعنِ والطَّاعون حينَ دعا ألا يُجعل بأسَ أمته بينهم فَمُنِعَهَا، فدعا بهذا، قال صلى الله عليه وســـلم: ” اللَّهمَّ اجعلْ فَناءَ أُمَّتي قتْلًا في سبيلِكَ؛ بالطَّعنِ والطَّاعونِ”.
الخاصية الخامسة: أنَّ الفارَّ من الطاعونِ كالفارِّ مِنْ الزَّحفِ.
الخاصية السادسة: أنَّ البقاءَ في بلد الطاعون واجبٌ، لأن الفرار منه يُعَدُّ كبيرة من الكبائر.
الخاصية السَّابعة: جوازُ تمنِّيه مع أنَّه في حكمِ العدوِّ إلا أنَّ الطاعونَ له خاصيةُ جواز الدعاء بلقائه مع أن النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ: قال: ” أيُّها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا “( رواه البخاري).
الخاصية الثامنة: جوازُ تمنِّي الموتَ بالطاعون والدُّعاء على النفس بالإصابةِ والنصيبِ الأوفى منه عند من يرى أنَّ وباءَ الطاعونِ له خاصية، ولا يشمله قوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ : لا تَتَمَنَّوُا الموتَ.
قال معاذ ــــ رضي الله عنه ـــ في طاعون عمْواس:” إِنه شهادةٌ ورحمةٌ لكم ودعوةُ نبيِّكم، اللهم أعطِ مُعَاذًا وأهلَه نصيبَهم من رحمتك”، فَطُعِنَ في كفِّه ـــ رضي الله عنه ـــــ فمات آلُ معاذٍ إنسانًا إنسانًا حتى كان معاذ آخرهم، ولعل هذا السبب الذي جعل بعض الصحابة لا يمتنعون من الجُمَعِ والجَمَاعاتِ عند وقوع الطاعون.

الوجه الثاني:
الطاعون وخزٌ من أعدائنا الجن، وكورونا ليس كذلك، والطَّاعون لا يدخل المدينة، وكورونا قد يدخلها.
وبالتالي فإن الطاعونَ أخصُّ من وباء كورونا.
قال عياض: والوباء عموم الأمراض؛ فسميت طاعونًا لشبهها به في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا. أ.هـ.
قال ابن عبد البر: الطاعون غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط قال غير واحد من أهل العلم وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيثُ شاءَ الله من البدن وهو وخزُ أعدائنا من الجن كما ثبت في الأحاديث الكثيرة. أ.هـ.
قال الحافظ ابن حجر وغيره، والطاعونُ أخصُّ من الوباء، فإن الوباء هو المرض العام، فقد يكون بالطاعون وقد لا يكون، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، وقد ثبت في الحديث أنَّ المدينة لا يدخلها الطاعون وقد دخلها الوباء.
وقال ابن القيم: فكل طاعونٍ وباء، وليس كل وباء طاعونًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: المَدِينَةُ يَأْتِيها الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ المَلائِكَةَ يَحْرُسُونَها، فلا يَقْرَبُها الدَّجَّالُ، قالَ: ولا الطَّاعُونُ إنْ شاءَ اللَّهُ. رواه البخاري.
وقال ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ : أتاني جبريلُ بالحُمَّى والطاعونِ، فأَمسكْتُ الحُمَّى في المدينةِ، وأرسلْتُ الطاعونَ إلى الشَّامِ، فالطَّاعونُ شَهادةٌ لأُمَّتِي، ورَحمةٌ لَهم، ورِجسٌ على الكافرينَ.

الوجه الثالث:
اختلف العلماء في حكم الطاعون، فمنهم من يرى أنه يجب الاستسلام لهذا الوباء لأنه تعبُّدي لا يعقل معناه، وأنه إذا وقع في البلد عمَّ جميعَ من فيه، فلا فائدة من التحصن منه.
قال صاحب السراج المنير: قال القاضي تاج الدين السبكي مذهبنا، وهو الذي عليه الأكثرون النهي عن الفرارِ منه للتحريم، وقال بعض العلماء هو للتنزيه، قال، وقال شيخنا وقد صرح ابن خزيمة في صحيحه بأن الفرارَ من الطاعون من الكبائر وأن اللهَ يُعاقبُ عليه ما لم يعفُ عنه، قال شيخنا وقد اختلف في حكمة ذلك فقيل هو تعبُّدي لا يُعقل معناه؛ لأن الفرار من المهالك مأمور به، وقد نهى عن هذا فهو لسرٍّ فيه لا تُعلم حقيقته، وقيل: هو مُعللٌ بأن الطاعونَ إذا وقع في البلد عمَّ جميعَ من فيه فلا يفيد الفرار منه، بل إذا كان أجله حضر فهو ميت سواء أقام أو رحل وكذا العكس، ومن ثمَّ كان الأصح من مذهبنا أنَّ تصرفاتِ الصحيحِ في البلد الذي وقع فيه الطاعون كتصرفاتِ المريضِ مرضَ الموتِ، فلما كانت المفسدة قد تعينت ولا انفكاك عنها، تعيَّنت الإقامةُ لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء. أ.هـ.
قال ابن عبد البر: يقال ما فرَّ أحدٌ من الطَّاعون فسَلِمَ من الموت، ولم يبلغني عن أحدٌ من حملة العلم أنه فرَّ منه. أ.هـ.
قال ابن عثيمين: فإن قال: أليس يمكن أن يَسْلَمَ الإنسانُ وهو في بلد الطاعون؟ قلنا: بلى، لكن الأصل الإصابة. أ.هـ.
إذن لم يكن هناك اتفاق بين الصحابة والتابعين في مسألة الفرار من الطاعون والتحصُّن منه.
ذكر ابن جريرٍ الخلافَ عن السَّلف في الفرار من الوباءِ، وذكر عن أبي موسى الأشعري أنه كان يبعث بنيه إلى الأعرابِ من الطَّاعون، وعن الأسود بن هلال ومسروق أنه كان يفرُّ منه.
وأيضاً بعد ما ماتَ معاذ وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وأبو مالك في يومٍ واحدٍ بسبب الطاعون، وليهم عمرو بن العاص ـــ رضي الله عنه ـــ بعد وفاتهم واستطاع عمرُو بنُ العاصِ القضاءَ على طاعون عمواس ومنع من انتشاره.
قال النووي وابن كثير وغيرهما: إن عمرَو بنَ العاصِ، قام فيهم خطيبًا فقال: أيُّها الناس، إِنَّ هذا الوجعَ إِذا وقع فإِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتحصنوا منه في الشِّعاب والأودية ورؤوس الجبال قال: ثم خرج، وخرج النّاس، فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم، فبلغ عمرُ بنُ الخطاب ما فعله عمرو، فوالله ما كَرِهَه. أ.هـ.
قلتُ: وخروج الناس من بيوتِهم والذهاب إلى الشِّعاب والأودية ورؤوس الجبال فيه تركُ الجُمَع والجَمَاعات في المساجد.
ونقل القاضي عياض وغيره جوازَ الخروجِ من الأرض التي بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم عمرُ بن الخطاب، وأبو موسي الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص الذي قال فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال. ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق.
الوجه الرابع:
تُرِكَتْ الجُمَعُ والجَمَاعات، ومنع بعض الناس من دخول المسجد بأقل خطورة من الطاعون، بل أُمِرَ الناسُ بالصَّلاة في الرِّحال والبيوت بأقل خطورة من هذا الوباء الذي هو أشد فتكًا من الطين والمطر، ففي صحيح مسلم أنه كان هناك رجلٌ مجذومٌ في وفد ثقيف الذي جاء مبايعًا النبيَّ ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ فأرسل إليه النبيُّ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجعْ. فالنبي صلى الله عليه وسلم: لم يمنع هذا الرجل من دخول المسجد فحسب، بل منعه من دخول المدينة حمايةً لها من الوباء وهو الجُذام. وأباح الإسلامُ الفطرَ في رمضان للمرأة إذا خافت على رضيعها، وللمسافر أيضًا، وذلك لرفع الحرج والمشقة عنهما، وأباح ترك الجُمَعِ والجَمَاعة للمطر الذي فيه حرج، قال عبد الله بن عباس: مَن سمعَ النداء فلم يمنعهُ منَ اتِّباعِهِ عذرٌ، قالوا: وما العُذرُ؟ قالَ: خَوفٌ أو مرضٌ، لم تُقبَلْ منهُ الصَّلاةُ الَّتي صلَّى. والأثر صحيح.
وجاء في الإنصاف للماوردي: ويُعْذَرُ في تركِ الجُمُعَةِ والجَمَاعَةِ، المَريضُ. بلا نِزاعٍ، ويُعْذَرُ أَيضًا في ترْكِهما لخَوْفِ حُدوثِ المرَضِ.
روي عن ابن عباس «أنه قال لمؤذِّنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حيَّ على الصلاة. وقل: صلُّوا في بيوتكم. فعلَ ذلك من هو خير مني، إنَّ الجمعة عَزْمَة وإني كرهتُ أن أُخرجكم فتمشوا في الطين والدحَضِ. متفق عليه.
فكره أن يُخرِجَ المسلمين إلى المساجدِ فيمشون في الطِّين والدحض، ولا شك أن الوباء المنتشر “كورونا” أشد ضررًا ومشقةً من الطين والدحض، فالأمر راجعٌ لولي الأمر، فتجد أن معاذًا استسلم له ودعا الله أنْ يُصيبَه، فطفق الطاعون يفتك بالسُّكان قتلًا، فلما ماتَ وآلَ الأمرُ إلى عمرو بن العاص أمرَ الناسَ أن يتحصَّنوا، ويخرجوا إلى الشعاب والأودية ورؤوس الجبال.
ولا شك أن اتخاذَ التدابيرِ والإجراءات اللازمة للحدِّ من انتشار الوباءِ من الشريعة الإسلامية؛ لأنَّ مبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد.

الملحوظة الثانية:
قال الشيخ فيصل حفظه الله: لم يُعرف في التاريخ سابقة في غلق المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها.
قلتُ: أيضا هذه الحجة واهية لا تقوى على التحقيق وهي مردوة من وجهين.

الوجه الأول:
قوله: لم يُعرف في التاريخ سابقة في غلق المساجد.
قلتُ: لعلها غفلة من الشيخ، أو مجازفة منه حيث إنَّ هذه العبارة لا تخرج إلا من رجل سبرَ التاريخ أو له سلف من أهل العلم قال هذه العبارة.
قال الذهبي رحمه الله في كتابه تاريخ الإسلام: وفيها كان القحط العظيم بالَأندلس والوباء، ومات الخلق بإشبيلية، بحيث إنَّ المساجد بقيت مُغلقة ما لها من يصلي فيها.
وقال المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك في سنة 749: وتعطل الأَذان من عدة مواضِع وبقي في الموضع المشهور بِأذان واحد.
وقال أيضاً، وغلقت أَكثر المساجد والزوايا، واسْتقر أَنه ما ولد أحد فِي هذا الوباء إِلا ومات بعد يوْم أَو يومين ولحِقته أمه.
وفي كتاب الذيل للمراكشي: أن أبا مروان بن الصيقل؛ وكان مقرئاً خيِّرًا فاضلاً إمام مسجد التبانين بإشبيليه، مولده في حدود ست وثلاثين وأربعمائة، قال: كنتُ عام الجوع ابن اثني عشر عامًا، وكان الناس يدفنون الثلاثة والأربعة في قبر واحد، والمساجد مربوطة أبوابها بالخزم لا يوجد لها من يؤم بها ولا من يصلي فيها.
قال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح [باب إغلاق البيت ويصلى في أي نواحي البيت شاء]
وعلَّق العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله على ذلك بقوله: ” أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن إغلاق المساجد، والكعبة، وما أشبه ذلك للحاجةِ لا بأسَ به، ولا يقال أنَّ هذا من منعِ مساجدِ الله أنْ يُذكَرَ فيها اسمُه؛ لأن هذا لمصلحة أو لحاجة أو لضرورة أحيانا فلا حرجَ “.
وقد منع النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ آكل الثوم والبصل والكراث من المسجد حتى لا يتأذى به الناس، ومن حق ولي الأمر أن يمنع الناس إذا حلَّ الوباء، وانتشرَ بين الناس فهو لا شكَّ أشد أذى وضررًا من البصل والثوم.

الوجه الثاني:
الشريعة الإسلامية مبنية على اليُسر لا العسر والضرر قال تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ولا شكَّ أنَّ هذا الوباءَ خطيرٌ على النفوس، ويتعذَّر أيضًا تمييزه بين الأصحاء وحاملي الفيرس، وربما لا يتقيَّد حامل وباء كورونا بالجلوس في البيت، ويذهب إلى المسجد فيسبب أذىً وضررًا للمصلين، فإذا رأى وليُّ الأمرِ أنَّ هذه الأسبابَ تُوجب إغلاق المساجد ومناداة المؤذن: صلُّوا في بيوتكم؛ لمصلحة راجحة عامة وللسلامة، فله ذلك ولا حرج؛ لأنه مسؤولٍ عن حفظ الأنفس وحمايتها.
إنَّ حفظ النفس من الهلاك والعَطَب يندرج تحت أصل شرعي، والحكم على الشيءِ فرع عن تصوُّره، فلو تصوَّر الشيخ فيصل حفظه هذه المسألة وأحاط بها من جميع جوانبها، ووقف على رأي أهل الاختصاص من الأطباء لما تعجَّل في طرحها بمجرد أنه نظر إلى فعل بعض الصحابة.
قال العلامة ابن عثيمين: ينبغي للإنسان أن يكون واسع الأفق في الأمور المستجدة فلا يردها من حين أن يستنكرها، لأن بعض الناس من حين أن يأتي شي مستنكر ينبري لرده وإطلاق أنه بدعة وأنه حرام وما أشبه ذلك.أ.هـ
ولذلك لا يجوز إهمال النصوص الشرعية والقواعد الكلية الدَّالة على رفعِ الحرج والمشقَّة على الناس، والمتقرر في المقاصد الشرعية وجوبُ حفظِ النفس من كل ما من شأنه إتلافها، وتراعي أيضًا الشريعة تجنب الضرر.
إن الأطباءَ مُجمعون على أن المصاب بوباء كورونا لا يتميز عن غيره من الأصحَّاء، فقد يخالط الناسَ ولا تظهر عليه أعراضُ الإصابة إلا بعد مدةٍ قد تصل إلى أربعةَ عشرَ يومًا، وهذا بخلاف الطاعون فإن علاماتِه وأعراضَه تظهر في الحال، أو خلال ساعات.
ثم إنَّ وسائل التنقل تعدّدتْ وتنوَّعتُ، وأصحبت أكثر سهولةً وسرعة، وجعلت العالم قريةً صغيرة، فإذا وقع الوباءُ في بلد يَسهُل انتشاره في باقي البلدان، وأيضًا في عصور الأوائل من الصَّحابة والتابعين لم توجد الخدمات الصحية، ولا المستلزمات الطبية، ولم يكن لديهم القدرة على صرف معاش الناس، وتوفير سبل الراحة عند حجرهم في بيوتهم، بخلاف زماننا هذا فالدولة تتكفل بمعاشهم وقوتِهم، فالبقاء في المنازل وعدم الخروج، وتجنب ملامسة الآخرين سبب من أسباب السلامة من الوباء ونقل العدوى.
وحضور الجُمَع والجَمَاعات، مظنَّة لنقل العدوى، وتفشَّي الوباء بين الناس فيحصل لهم الضرر الذي نهى عنه النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بقوله:” لا ضرر ولا ضرار”.
والقواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية يُعمل بها في كل زمان ومكان، فإذا لم يُعمل بها في وقت من الأوقات لظروف الحال أو الموقف من الأمر كالطاعون أو المطر، فإنه لا يدل على حُرمتها، بل الأمرُ راجع إلى ولي الأمر فيعمل بها إذا رأى المصلحة فيها، ويتركها إذا رأى المصلحة في تركها، ألا ترى أن معاذًا لم يمنع الناس عن هذا الوباء ولمَّا ماتَ، وأصبحَ عمرو والياً، أمر الناس أن يفرُّوا من هذا الوباء إلى رؤوس الجبال.
فإن قال قائل: ألا ترى أنه لم يثبت أن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ منع أو عطَّل إقامة الجُمَعِ والجَمَاعاتِ بسبب المطر، أو البرد القارس طيلة حياته حاشا السفر؟
قلتُ: لم يأمر النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــ المؤذن أن يقول: صلُّوا في رحالكم، ولم يُعطِّل النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـــ الجُمَعُ والجَمَاعات، فالأمرُ راجع إلى الإمام كما فعل ابن عباس .
قال ابن رجب: يدل عَلَى أن ابن عَبَّاس يرى أن الإمامَ إذا دعا النَّاس إلى الجمعة فِي الطِّين والمطر لزمتهم الإجابة، وإنما يباح لأحدهم التخلفُ إذا نادى: الصلاةُ فِي الرحال. أ.هـ
قلتُ: فكيف إذا وليُّ الأمر هو الذي أمر؟!
إذًا لا حرجَ، إذا دعَا ولي الأمرُ الناسَ إلى الحجر في بيوتهم، وأمر المؤذنَ أن ينادي: الصلاة في البيوت، ومنعهم من الإتيان إلى المساجد بسبب الوباء حفاظًا على الأنفس.
ومن خلال ما سبق نخلص إلى أنَّ النازلة تحتاج فتوىً تراعي أحوال الناس، والوقوف على رأي أهل الاختصاص كالأطباء، والحرص على أرواح المسلمين، قال النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: قَتَلُوهُ قتلَهُمُ اللهُ، ألا سَأَلُوا إذا لمْ يَعلَمُوا فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ؟ إنَّما كان يَكفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ.
وقالَ رَسولُ اللَّهِ ـــ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـــ: إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا. والحمد لله على نعمه، فما تركنا المسجد إلا لعذر، نسأل الله عز وجل أن يرفع عنا وعن ديار المسلمين الوباء والبلاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الطيبين.

كتبه/ أبو محمد فيحان الجرمان.

 

 


Tags: , ,

شارك المحتوى: