ما تحتاجه من بر الوالدين


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، أنزَلَ على عبدِهِ الكتابَ والحِكمةَ، وجعلَ في اتِّباعِهِ الهُدَى والرحمةَ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شركَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومَن سارَ على نهجِهِ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ‌قَوْلًا ‌سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ أعظمَ حقٍّ للإنسانِ معَ الإنسانِ حقُّ الإنسانِ معَ والديهِ، ولِتَعرِفَ عِظَمَ هذا الحقِّ تأمَّل قولَهُ تعالَى في سورةِ الإسراءِ: ﴿‌وَقَضَى ‌رَبُّكَ ‌أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23] ذكرَ أعظَمَ حقٍّ بينَ المخلوقِ وخالِقِهِ، وهو التوحيدُ، -إفرادُ اللهِ بالعبادةِ-، ثُمَّ ذكرَ أعظمَ حقٍّ بينَ الإنسانِ والإنسانِ، وهو بِرُّهُ بوالديهِ، بالأمِ والأبِ، وأنْ يُعامِلَهُمْ مُعاملَةً حسنةً.

قال: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ أحدُهُما: أي الأبُ أو الأمُّ، أو كِلاهُمَا: أي كِلا الأبَوينِ، ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ يا للهِ! قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: لو كانَ هناكَ كلمةٌ أقلُ مِن أُفٍّ لذكرَها ربُّنَا، فكلُّ كلامٍ فيهِ تضجُّرٌ وعدمُ إحسانٍ معَ الوالدينِ، -الأمِ والأبِ-، فإنهُ لا يجوزُ للولدِ أنْ يتلفَّظَ بِهِ.

قال: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ فنهاهُ أنْ يقولَ (أُفٍّ) ونهاهُ مِن بابِ أولى أنْ ينهَرَ الوالدينِ، فلمَّا بيَّن ما يجبُ على الولدِ معَ والديهِ مِن الأقوالِ بيَّنَ بعدَ ذلكَ ما يجبُ عليهِ أنْ يكونَ من الأفعالِ، فقالَ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 23-24] ليسَ خَفْضُ الجناحِ فقَط، بَلْ التذلُّلُ للوالدينِ، بأنْ يكونَ الوَلَدُ ذكرًا أو أُنثَى ذليلًا عندَ أُمِّهِ وأبيهِ.

ويدخُلُ في ذلكَ الأبَوانِ الكافِرانِ اللَّذانَ كَفَرا باللهِ ورسولِهِ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَإِنْ ‌جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] يا للهِ! إنَّ الشريعةَ شدَّدَتْ في التعامُلِ معَ الكافرينِ، وجَعَلتهُم أعداءً للهِ ولرسولِهِ، وأمَرَتْ بِبُغضِهِم والعداوةِ معهُمْ، إلَّا إذا كانَ الأبوانِ كافرينِ، فإنَّها أمَرَتْ بأنْ يُصاحَبَا في الدُّنيا مُصاحبةً معروفةً، فكيفَ إذا كانَ الأبوانِ مُسلِمينِ مُوحِّدَينِ؟

قالَ سبحانُه: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ‌كَمَا ‌رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24] ففي هذَا أنهُ يُستَحَبُّ للولدِ -ذكرًا كانَ أو أُنثَى- أنْ يدعُوَ للوالدينِ، إنَّ مِن بِرِّ الوالدينِ ألَّا يُترَكَا مِن الدعاءِ في الحياةِ وبعدَ المماتِ، فهوَ مِن البِرِّ الموصولِ بعدَ الموتِ، فحاوِلْ ألَّا تُصليَ صلاةً إلَّا وتدعوَ في سجودِهَا وقبلَ السلامِ لأبيكَ وأُمِّكَ، فتعاهَد الأبوينِ بالدُّعاءِ سواءٌ في صلاةِ فَرْضٍ أو في صلاةِ نَفْلٍ.

وتأمَّل قولَهُ: ﴿‌كَمَا ‌رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ إنَّ مَا تفعَلُهُ مِن الإحسانِ إليهِمَا مِن قولٍ أو فعلٍ أو دُعاءٍ، هوَ مِن بابِ المُكافَأةِ، ولا سواءَ شرعًا وعقلًا بينَ مَن يبتدئُ بالإحسانِ وبينَ مَن يُكافِئُ، فغايةُ ما نفعلُ هوَ أنْ نُكافِأَهُما، لِذا قالَ: ﴿‌كَمَا ‌رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ بَلْ نُكافِؤُهمَا على أمرٍ فعلوهُ بِلا مُقابِلٍ ونحنُ في أشدِّ حاجةٍ، وفي حالِ الصِّغَرِ، فكيفَ إذا كانَ الأمرُ على خلافِ ذلكَ؟

فاتَّقوا اللهَ إخوانِي، وتعاهَدُوا الوالدينِ، تعاهَدُوا الأُمَّ والأبَ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولُ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ ‌النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «‌أُمُّكَ». قَالَ: ‌ثُمَّ ‌مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ ‌أُمُّكَ». قَالَ: ‌ثُمَّ ‌مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ ‌أُمُّكَ». قَالَ: ‌ثُمَّ ‌مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ».

فأحَقُّ الناسِ بالصُّحبَةِ الأبَوانِ، الأمُّ والأبُ، ليسَتْ الزوجةُ ولَا الأولادُ، وَلَا الأصدِقاءُ، وإنَّما الأمُّ والأبُ، روَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «‌رَغِمَ ‌أَنْفُهُ ثُمَّ ‌رَغِمَ ‌أَنْفُهُ ثُمَّ ‌رَغِمَ ‌أَنْفُهُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ ‌أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ».

لَا إلهَ إلَّا اللهُ! هذا إنْ دَلَّ دلَّ على أنَّ الأبَوينِ بابٌ عظيمٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ.

ورَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو بن العاصِ -رضي الله عنهما- أنَّ رجلًا استأذَنَ النبيَّ ﷺ في الجهادِ، -أتدرونَ ما الجهادُ؟ إنَّهُ ذُروةُ سَنَامِ الإسلامِ، أتدرونَ ما الجهادُ؟ إنَّهُ الشَّهادَةُ في سبيلِ اللهِ، أتدرونَ ما الجهادُ؟ إنَّهُ سبيلُ عِزِّ الإسلامِ وتمكِينِهِ- قال ﷺ: «أَحَيٌّ والِدَاكَ؟» قالَ: نَعَمْ، قالَ: «‌فَفِيهِمَا ‌فَجَاهِدْ».

وذكرَ ابنُ الجوزِيِّ في (بِرُّ الوالدينِ) أنَّ رجلًا جاءَ مِن خُرَسانِ يحمِلُ أُمَّهُ على كتفيهِ حتَّى أتَى بِهَا إلى الحَجِّ، وطافَ بِها وسَعَى ووقَفَ بِها في عرَفَةَ، ثُمَّ مُزدَلِفَةَ، ورَمَى بِها الجَمَرَاتِ …إلخ، فلمَّا لَقِيَ الصحابيَّ الجليلَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ -رضي الله عنهما- قالَ: يا عبدَ اللهِ بنَ عمرَ، أَأَدَّيتُ حقَّهَا؟ قالَ: ” لا، وَلَا طَلْقَةٌ مِن طَلَقَاتِهَا “.

لا إلهَ إلَّا اللهُ!

فاحْرِصوا إخوةَ الإيمانِ على تعاهُدِ الوالدينِ، عَلَى تعاهُدِ الأمِّ والأبِ، جاهِدُوا أنفُسَكُم على ذلكَ، وتذكَّرُوا أنهُ بابٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ.

إنَّ الجنَّةَ التي فيها ما لا عَيْنٌ رأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ، إنَّ الجنَّةَ التي هيَ سِلْعَةُ اللهِ الغاليةُ، إنَّ مِن أبوابِ الجنَّةِ أنْ يتعاهَدَ كُلٌّ مِنَّا والديهِ، أباهُ وأُمَّهُ.

اللهُمَّ يَا مَنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، اللهُمَّ اجْعَلْنا قُرَّةَ عينٍ لوالِدينَا، اللهُمَّ اغْفِر لَهُما وارْحَمْهُما كَمَا رَبَّيانَا صغيرًا، اللهُمَّ أعِنَّا على القيامِ بواجِبِهِما يا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهُمَّ أعِنَّا على بِرِّهِما في الحياةِ وبعدَ المماتِ.

أقولُ ما قُلْتُ، وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فإنَّ كثيرًا مِن الناسِ مُقصِّرونَ في حَقِّ الوالدينِ، ما أكثرَ الذينَ يُقدِّمونَ الزوجةَ على والديهِ، ما أكثرَ الذينَ يُقدِّمونَ الأولادَ على الوالدينِ، ما أكثرَ الذينَ يُقدِّمونَ الأصحابَ والأصدِقاءَ على الوالدينِ، ما أكثرَ الذينَ يُقدِّمونَ اللَّذاتِ والشهواتِ على الوالدينِ.

يا عبدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ، إنَّ عقوقَ الوالدينِ كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ، وإنَّ بِرَّ الوالدينِ بابٌ عظيمٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ، واللهِ إنَّهُ لَبَابٌ عظيمٌ، وبعضُ الناسِ يَسهُلُ عليهِ أنْ يَبُرَّ أُمَّهُ؛ لأنَّ الابنَ قويٌّ والأمَّ في ضعفٍ فيميلُ إليهَا، وهيَ تُعامِلُهُ بالعاطِفَةِ، لكِنَّهُ يُقصِّرُ أيَّمَا تقصيرٍ في حَقِّ الأبِ، في مُجالَسَتِهِ، في مُحَادَثَتِهِ، في إدخالِ السُّرورِ عليهِ، يا للهِ! ما أكثرَ المُقصِّرينَ في ذلكَ.

لأنَّهُ يرَى الأبَ رجلًا متجلدًا قويًّا في رأيهِ وفي كلامِه …إلى غيرِ ذلكَ، حتَّى ولو كَبِرَتْ سِنُّهُ فيبقَى قويًّا في رأيِهِ وفي قيلِهِ وقولِهِ، فَلَا تَرَاهُ يتعاطَفُ معَ أبيهِ كَمَا يتعاطَفُ مَعَ أُمِّهِ.

إنَّهُ ينبغي لَنَا أنْ نتَعَاهَدهُما في كثرةِ الزيارةِ، وأنْ نُدخِلَ عليهِم السرورَ، وأنْ نأتيَ بأولادِنا ذكورًا وإناثًا وبأزواجِنا حتى نُدخِلَ السرورَ عليهِمْ، وأنْ نُحادِثَهم وأنْ نسهرَ معَهُم، وأنْ نُنفِقَ عليهِم مِن المالِ إنْ لم يكونوا مُستطيعينَ، فإنْ كانوا مُستطيعينَ أنْ نتعاهَدَهُم بالهدايا، إلى غيرِ ذلكَ.

ذكرَ ابنُ الجوزيُّ في كتابِهِ (بِرُّ الوالدينِ) عَن الحسنِ البصريِّ أنهُ قالَ: ” تَعَشِّ العَشَاءَ مَعَ أُمِّكَ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ‌حَجَّةٍ تَحُجُّهَا تَطَوُّعًا “.

اللهُ أكبرُ!

فتعاهدوهُمْ، ثم لا تَنسَوْهُمْ مِن الدُّعاءِ في حياتِهِم وبعدَ موتِهِم، إنَّ هذا أعظمُ البِرِّ لَهُم.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

خطبة ما تحتاجه من بر الوالدين - د. عبدالعزيز بن ريس الريس


شارك المحتوى:
0