فضائل العشر الأواخر وبعض سننها


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ الليلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يذَّكَّرَ أو أرادَ شُكُورًا، وَوَفَّقَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِعِمَارَتِهَا بالطَّاعَاتِ المُتنوِّعَةِ لِيزْدَادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ وأُولئِكَ كانَ سعيهُمْ مشكورًا، وخَذَلَ مَن أعْرَضَ عن ذِكْرِهِ واتَّبَعَ هواهُ وأولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مصيرًا.

وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ وَلَهُ الحمدُ وكانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسَلَهُ بينَ يَدَي الساعةِ بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللهِ بإذنِهِ وسِرَاجًا مُنيرًا، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِمْ وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌اتَّقُوا ‌رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان: 33].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ مِن فضلِ اللهِ على الأُمَّةِ المُحمَّديِّةِ أنْ مَنَّ علَيها بمواسِمِ الخيراتِ؛ لِترتَفِعَ في الدرجاتِ وتفوزَ بالمقاماتِ العالياتِ، بأنْ تعملَ أعمالًا قليلةً فتظفَرَ بأجورٍ كثيرةٍ، ومِن الحِكَمِ في تجديدِ مواسِمِ الخيراتِ تجديدُ الهِمَّةِ والنشاطِ في العباداتِ.

وإنَّ مِن مواسِمِ الخيراتِ ومَوَاطِنِ النَّفَحاتِ العشرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، ولِهذِهِ العشرِ فضائِلُ عظيمةٌ ومَنَاقِبُ جليلةٌ:

الفضيلةُ الأولى: عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ ‌فِي ‌الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ،

وهذا إِنَّمَا لعظيمِ فضلِها وجزيلِ ثوابِها.

الفضيلةُ الثانيةُ: رَوَى البخاريُّ ومسلٌم عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يَعْتَكِفُ ‌فِي ‌الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.

والاعتكافُ الشرعيُّ: مُلازَمَةُ المسجدِ وعدمُ الخروجِ منهُ، إلَّا أنَّ حقيقتَةُ أنَّ العبدَ يعكُفُ بقلبِهِ وقالِبِهِ على رَبِّهِ وَمَا يُقرِّبُهُ مِنهُ، وأنْ يقطعَ العلائِقَ بالخلائِقِ، وإيَّاكَ واعتِكافَ البطَّالينَ الذينَ جعلوا اعتِكافَهُم مَجمَعًا للاختلاطِ بالناسِ، وهدرِ الوقتِ في القيلِ والقالِ، وتَتبُّعِ الانترنتِّ، والانهِماكِ في صنوفِ الطعامِ ومَلَذَّاتِ المأكَلِ والمَشرَبِ.

الفضيلةُ الثالثةُ: عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ ‌الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا ‌لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ،

وَلَمْ يفعَل ذلكَ إلَّا لِفضلِها وكثيرِ أجرِها، فيُستحبُّ أنْ تُحي ليالي العشرِ بالقيامِ وقراءةِ القرآنِ ومُناجاةِ الرحمنِ وانكسارِ القلبِ بخشوعِهِ وخضوعِهِ لمولاهُ سبحانهُ.

الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ في العشرِ ليلةَ القدرِ، وهيَ أفضلُ ليالي الدُّنيا على الإطلاقِ، قالَ تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * ‌لَيْلَةُ ‌الْقَدْرِ ‌خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 2-3].

وهذهِ الليلةُ خيرٌ مِن عبادةِ ثمانينَ سنةٍ -إنْ تقبَّلَ اللهُ بِكرَمَهِ- فاحْرِصوا في ليالِي العشرِ على إتقانِ صلاةِ الفرائِضِ -وهيَ صلاةُ المغربِ والعشاءِ- فإنها أفضلُ الصلاةِ في تِلكَ الليلةِ، واحْرِصوا على القيامِ معَ الإمامِ حتَّى ينصرِفَ فإنهُ بأجرِ قيامِ ليلةٍ كاملةٍ، فإذا أدرَكَت ليلةَ القدرِ كانَتْ بأجرِ قيامِ ليلةِ القدرِ كُلِّها.

روَى الأربعةُ عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌مَعَ ‌الْإِمَامِ ‌حَتَّى ‌يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ».

الفضيلةُ الخامسةُ: روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

اللهُمَّ مُنَّ عَلَينا بالجِدِّ والاجتهادِ في هذهِ العشرِ، واجعَلْنا مِمَّنْ قامَها إيمانًا واحتِسابًا فغَفَرْتَ لهُ ذنبَهُ.

أقولُ ما قُلْتُ، وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فاستغفِروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، أَمَرَ بالمُسَارَعَةِ إِلَى الخَيْرَاتِ، ومُبادَرَةِ الوَقْتِ قَبْلَ الفَوَاتِ، وأَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ في ربوبيَّتِهِ وإلهيَّتِهِ، وَمَا لَهُ مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أوَّلَ مُبادِرٍ إلى الخيراتٍ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ ذَوِي المَنَاقِبِ والكَرَامَاتِ، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:

فإنَّ الخيلَ الجِيادَ المُضمَّرَةَ إذا قارَبَتْ الوصولَ جَدَّتْ في سيرِها واشتدَّتْ، فَهَا أنتُم قارَبتُم توديعَ شهرِ الخيرِ والبَرَكَةِ شهرِ رَمَضانَ، فَجِدُّوا في الطاعةِ واجْتَهِدوا فإِنَّ خيرَ رمضانَ آخِرُهُ، وفي آخِرِهِ ليلةُ القدْرِ، رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنها قالَتْ: قال ﷺ : «‌تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي ‌الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».

ورَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «‌تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ، مِنَ ‌الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».

ورَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «‌تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي ‌السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ».

والمُرادُ بالليالي الوِتريَّةِ بالنَّظَرِ لِنهايةِ الشهرِ، ونهايةُ الشهرِ مجهولةٌ بالنسبةِ لَنَا، رَوَى البخاريُّ عَن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي ‌خَامِسَةٍ ‌تَبْقَى». فَقَدْ تكونُ ليلةُ القدرِ في ليلةِ أربعٍ وعشرينَ؛ لأنَّها بالنَّظَرِ لآخرِ الشهرِ تُوافِقُ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ.

فاجْتَهِدوا في ليالي العشرِ كُلِّها، وَحَاوِلوا أنْ تَلْزَمُوا المساجِدَ في ليالِيها ما استطَعْتُمْ، واجْعَلُوا أكثَرَ قِراءَتِكُم للقرآنِ في ليالِيها،

وأكثروا من الدعاءِ بالعافيةِ في ليالي العشرِ ثبتَ عندَ ابنِ أبي شيبةَ عنْ عائشةَ أنها قالتْ: لو عرفتُ أيَ ليلةٍ ليلةُ القدرِ ما سألتُ اللَّهَ فيها إلا العافيةَ.

واجْتَهِدُوا على الصدقةِ في كُلِّ ليلةٍ، فإنَّها إنْ وافَقَتْ ليلةَ القدرِ وافَقَتْ فضلًا عظيمًا، وَقَدْ كانَ السَّلَفُ يجتهِدونَ على الصدقةِ في كُلِّ ليلةٍ مِن ليالي العشرِ.

واغْتَسِلُوا وتَجَمَّلُوا وتطيَّبُوا في ليالي العشرِ، فَقَدْ كانَ السلَفُ يستحِبُّونَ الاغتسالَ في ليالي العشرِ كَمَا ذكرَهُ ابنُ جريرٍ.

أيُّها المسلمونَ، إنَّنَا لا ندرِي، قَدْ يكونُ رمضانُنا هذَا آخِرَ رمضانَ في حياتِنا، فاجْتَهِدوا فيهِ اجتهادَ المُودِّعَ، والذِي لا يَنتَظِر عَودَتَهُ خوفًا مِن هجومِ هادِمِ اللَّذاتِ ومُفرِّقِ الجَمَاعاتِ الموتِ، قالَ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا ‌تُرْجَعُونَ ‌فِيهِ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] وقالَ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ ‌أَحَدَكُمُ ‌الْمَوْتُ ‌فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 10-11] وقالَ تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ‌وَمَا ‌الْحَيَاةُ ‌الدُّنْيَا ‌إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].

فَمَا أكثَرَ مَنْ صامَ رمضانَ الماضِي ومَاتَ قبلَ أنْ يُدرِكَ رمضانَنا هذا، ولا ندري قَدْ نكونُ مِثلَهُم فلا نُدرِكُ رمضانَ الآتِي، فَجِدُّوا واجْتَهِدُوا وأَمِّلُوا الخيرَ مِن رَبِّكُم الكريمٍ الرحمنِ الرحيمِ.

اللهُمَّ وَفِّقْنا لإِدراكِ ليلةِ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا يا رَبَّ العالمينَ …

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0