[ عمل السلف والخلف بالتكبير المطلق في عشر ذي الحجة ] مناقشة،،،


[ عمل السلف والخلف بالتكبير المطلق في عشر ذي الحجة ]

[مناقشة]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد.

فهذه مدارسة لبعض الإشكالات الواردة على شعيرة التكبير المطلق في العشر، وتَصْحِيْحٌ لنسبة عمل السلف لهذه الشعيرة، فإني قد اطلعت على كلام لأحد المشايخ الفضلاء -حفظه الله ووقاه من كل سوء- فأحببت أن أناقش بعض ما ساقه من أدلة، وكذا ما أورده من إشكالات.

نقول وبالله نستعين:

أولا: قول الشيخ: [ هذا التفسير(أي أن الأيام المعلومات هي العشر)…..ضعفه جمع من المحققين.. ]

يُجاب عليه: بأن هذا قد صح عن ابن عباس بإسناد صحيح، وهو القول المشهور، رواه البيهقي عن ابن عباس: “من طريق: عفان بن مسلم، عن هشيم، ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ” الأيام المعلومات أيام العشر، والمعدودات أيام التشريق “(السنن الكبرى ٣٧٣/٥)

وقد ذكر -الشيخ المشار إليه- تصحيح النووي له، وصححه الحافظ ابن حجر كما في: ((تلخيص الحبير)) ونقل تصحيحه أيضا عن ابن السكن(((٦٠٨/٢))

وأخرجه البخاري معلقا مجزوما به، وهذا يدل على صحته عنده إلى من أضيف إليه كما ذكره شيخ الإسلام وابن حجر والنووي والشنقيطي، بل جعله ابن تيمية على شرطه: “وعُرْفُه في الأحاديث المعلقة إذا قال: قال فلان كذا، فهو من الصحيح المشروط”((الفتاوى الكبرى،(٣٨/٦))

وهشيم قد صرح بالتحديث، وعنعنته في بعض الطرق الأخرى لا تضر لما يأتي:

١-فقد صرح بالتحديث كما هنا وكما عند البيهقي((شعب الايمان (٣١٨/٥))

٢-قد رواه عنه يحيى بن سعيد كما عند ابن عبد البر في الاستذكار ((٢٤٤/٥)).

ويحيى لا يَحمِل عن شيوخه ما دلسوا فيه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح: “والقطان لا يحمل من حديث شيوخه المدلسين إلا ما كان مسموعا لهم صرح بذلك الإسماعيلي”((٣٠٩/١))

٣-رواه شعبة عن هشيم ((تغليق التعليق، (ص٣٧٧)).

وشعبة لا يحدث عن المدلس إلا ما صرح فيه بالسماع، قال الحافظ: “وشعبة لا يحدث عن شيوخه الذين ربما دلسوا إلا بما تحقق أنهم سمعوه”((فتح الباري، (١٩٤/٤))

وله طريق آخر صحيح أيضا، فقد قال الحافظ في ((تغليق التعليق)): “أما تفسير ابن عباس فقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن عمرو بن دينار سمعت ابن عباس يقول ((اذكروا الله في أيام معدودات الله أكبر)) ((اذكروا الله في أيام معلومات)) الله أكبر قال الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر”(تغليق التعليق، ((٣٧٧)).

هل خالف ابن عباس أحد من الصحابة في هذا التفسير؟

الجواب: لم يخالف أحد من الصحابة، إلا ما جاء عن ابن عمر ولكن في صحة هذه الرواية عن ابن عمر نظر وذلك من ناحيتين:

١- إسناد الرواية متكلم فيه.

فالرواية من طريق ابن عجلان: حدثني نافع؛ أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر” وصحح اسناده ابن كثير في تفسيره

(( ٤١٦/٥))

وتصحيح مثل هذا السند فيه نظر، لأن ابن عجلان متكلم فيه، لذلك صدَّر الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب الحكم عليه ب”صدوق” قال الحافظ : “محمد ابن عجلان المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة “(٤٩٦/١).

مع أن أحمد وابن معين وغيرهم قد وثقوه، ولكن تكلم فيه غيرهم، وخاصة في روايته عن نافع كما هو الحال في روايتنا هذه.

قال ابن رجب في شرحه على علل الترمذي: “وروى أبو بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد، قال: كان ابن عجلان مضطرب الحديث في حديث نافع، ولم يكن له تلك القيمة عنده ((٤١١/١))

“وقال العقيلي يضطرب في حديث نافع”((تهذيب التهذيب ٣٤٢/٩))

فهذا قد يوهنُ الرواية، وخاصة إذا ضُم إلى ذلك تفرد ابن عجلان المُتكلم في روايته عن نافع دون أصحاب نافع الكبار كمالك وايوب وعبيد الله وغيرهم .

٢-ابن عجلان قد خالفه ابن أبي ليلى فرواه عن نافع بذكر الأيام المعدودات فقط، وفسرها بأيام التشريق ولم يتعرض للأيام المعلومات”((المحلى، ٣١٩/٥))

قال ابن حزم: “ما نعلم له حجة إلا تعلقه بابن عمر، وقد روينا عن ابن عمر خلاف هذا” ((المحلى ٣٢٠/٥)) فذكر رواية ابن أبي ليلى.

وابن أبي ليلى على جلالته وفقه إلا أن فيه ضعف في الرواية، وربما قاربت رواية ابن عجلان في نافع رواية ابن أبي ليلى، إلا أن الأصل هو الاستدلال برواية ابن عجلان عن نافع إلا أن يكون هناك ما يُستنكر في روايته، وهنا تعاضدت أمور تدل على نكارتها، وهي:

١-طعن بعض الأئمة في روايته عن نافع

٢-تفرده عن أصحاب نافع الكبار في هذه الرواية.

٣-مخالفة ابن أبي ليلى له.

ثانيا: قول الشبخ: [ والمراد بقوله تعالى{ويذكروا اسم الله} …عند التذكية….].

الشيخ يذكر ما ذكره بعض العلماء من إشكال، وسوف أنقل كلام الشنقيطي -وهو ممن يُضعِّفُ تفسير الأيام المعلومات بعشر ذي الحجة- لتوضيح الإشكال الوارد على تفسير الأيام المعلومات بعشر ذي الحجة، وثم أُورِد كلا ابن رجب لدفع هذا الإشكال.

يقول الشنقيطي: “تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه: بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر، لا شك في عدم صحته، وإن قال به من أجلاء العلماء، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا.

والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقربا إليه كما لا يخفى، والقول بأنها العشرة المذكورة، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر، وأنه لا نحر بعدها، وكلا الأمرين باطل كما ترى ; لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين بعده جائز. وكذلك الثالث عند من ذكرنا، فبطلان هذا القول واضح كما ترى”((أضواء البيان، (١١٧/٥)).

 

 

يقول ابن رجب دافعا هذا الإشكال: “والقول الأول أصح، فإن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذكره في هذه الأيام المعلومات: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق).

والتفث: هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار، وقضاؤه: إكماله.

وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام، فقد جعل ذلك بعد ذكر في الأيام المعلومات، فدل على أن الأيام المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه بالبيت العتيق.

فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد قضاء التفث ووفاء النذور والتطوف البيت العتيق، والقرآن يدل على أن الذكر فيها قبل ذلك.

وأما قوله تعالى: (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) .

فإما أن يقال: إنَّ ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر، وهو أفضل أوقات الذبح، وهو آخر العشر.

وإما أن يقال: إنَّ ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، ليس هو ذكره على الذبائح، بل ذكره في أيام العشر كلها، شكرا على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام، فإن لله تعالى علينا فيها نعما كثيرة دنيوية ودينية، وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل، وتختص عشر ذي الحجة منها بحمل أثقال الحاج، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها.

وأما الدينية فكثيرة، مثل: إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده، وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها، وذبحه في آخر العشر، والتقرب به إلى الله، والأكل من لحمه، وإطعام القانع والمعتر. فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكرا على هذه النعم كلها، كما صرح به في قوله تعالى: (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم)، كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان، وإكمال العدة، شكرا على ما هدانا إليه من الصيام”((فتح الباري، ٥/٩))

وقال في موطن آخر: “وأيضا فقد قال الله تعالى بعد هذا: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق”

فجعل هذا كله بعد ذكره في الأيام المعلومات وقضاء التفث، وهو شعث الحج، وغباره ونصبه.

والطواف بالبيت إنما يكون في يوم النحر وما بعده.

ولا يكون قبله وقد جعل الله سبحانه هذا مرتبا على ذكره في الأيام المعلومات بلفظة “ثم” فدل على أن المراد بالأيام المعلومات ما قبل يوم النحر، وهو عشر ذي الحجة.

وأما قوله تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) فقيل: إن المراد ذكره عند ذبحها، وهو حاصل بذكره في يوم النحر، فإنه أفضل أيام النحر، والأصح أنه إنما أريد ذكره شكرا على نعمة تسخير بهيمة الأنعام لعباده، فإن لله تعالى على عباده في بهيمة الأنعام نعما كثيرة قد عدد بعضها في مواضع من القرآن”(تفسير ابن رجب، ((١٦٥/٢))

 

 

ثالثا: قول الشيخ: [ -وهو يذكر أثر ابن عمر وأبي هريرة في تكبيرهما بالأسواق- : [ وقد ذكر الحافظ مع سعة اطلاعه أنه لم يره موصولا …].

والجواب: يُقالُ بما أن البخاري قد أودعه في صحيحه مجزوما به فهذا يكفي في قوته وشهرته، وأما تقاصر علم من بعدهم على العثور عليه فهذا يدل على عظم علم المتقدمين وسعة اطلاعهم، فكم من أثر بيض له الحافظ في كتابه ((تغليق التعليق)) ولم يجده موصولا، وربما ذكره الحافظ ابن رجب، وبعض الآثار لم يجدها لا ابن حجر ولا ابن رجب.

فهذا لا يؤثر على صحة الأثر وأهميته

 

 

رابعا: قول الشيخ عن الراوي: [ “وسلّام” مختلف فيه…].

الجواب: سلام لم يضعفه أحد، قال ابن معين لا بأس به، وقال أبوحاتم صدوق صالح الحديث، وسئل ابن معين هل هو ثقة؟ قال: لا. وهو يقصد أن حديثه ليس في مرتبة الصحيح بدليل قوله الآخر لا بأس به، وقد جاء عن ابن معين أنه قال إذا قلتُ لا بأس به فهو ثقة، جاء في تاريخ ((ابن أبي خيثمة)): “قلت ليحيى: إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف، قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة”((١٩٢/٣))، وهذا يعني أنَّ (سلّاما) عنده ثقة، لكنه ليس كالثقات الأثبات كمالك وشعبة وغيرهما.

 

 

خامسا: قول الشيخ: [ على فرض صحته…].

الجواب: الأثر صحيح وإسناده قائم، وسوف أذكر إسناده وندرس رجاله ليتبين بذلك صحته وجودته

قال الفاكهي:حدثني إبراهيم بن يعقوب، عن عفان بن مسلم، قال: ثنا سلّام بن سليمان أبو المنذر القارئ، قال: ثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: ” كان أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما يخرجان أيام العشر إلى السوق، فيكبران، فيكبر الناس معهما، لا يأتيان السوق إلا لذلك “((أخبار مكة للفاكهي، (٣٧٢/٢))

رجال الإسناد:

١-يعقوب بن إبراهيم إمام ثقة حافظ

٢-عفان بن مسلم، يكفي فيه قول أبي حاتم: إمام ثقة متقن متين

٣-سلّام بن سليمان لم يضعفه أحد .

قال ((ابن معين وأبو داود)): لا بأس به، وقال أبو حاتم صدوق صالح الحديث .

٤-حميد الأعرج وثقه ((أحمد وأبو داود وأبو زرعة))

٥-مجاهد معروف لا يُسأل عن مثله.

فالسند صحيح، وأقل أحواله أن يكون في أعلى درجات الحسن.

سادسا: قول الشيخ: [ فعل صحابي وهو مختلف بالاحتجاج به…].

الجواب: فعل الصحابي إذا اشتهر كفعل ابن عمر وأبي هريرة بخروجهم للسوق، ورفعهم أصواتهم بالتكبير حتى يكبر الناس بتكبيرهم، يدل على اشتهاره.

قال ابن القيم: “وإن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة”((إعلام الموقعين، (٩٢/٤))

 

 

سابعا: قول الشيخ: [ ثم إنَّ هذا الأثر لا وجود له في الكتب المشهورة….وإنما عزاه ابن رجب لكتاب الشافي وكتاب العيدين ].

الجواب من ثلاثة أوجه:

١-وجود هذا الأثر في صحيح البخاري مجزوما به = يدل على شهرته وقوته، بل يُعد على شرط الصحيح كما ذكره شيخ الإسلام، وكفى بهذا شهرة .! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وعُرْفُه في الأحاديث المعلقة إذا قال: قال فلان كذا، فهو من الصحيح المشروط”((الفتاوى الكبرى، (٣٨/٦)). وذكر جماعة من العلماء ((كابن تيمية وابن حجر والنووي والشنقيطي)) صحة ما ذكره البخاري مجزوما به إلى من علقه عنه.

٢-الشيخ -حفظه الله- ذكر أن ابن رجب عزاه إلى كتاب الشافي وكتاب العيدين (وهما في عداد المفقودات)، وهما كتابان لإمامين كبيرين، وقد اطلع عليها ابن رجب لانها من كتب الحنابلة، والحنابلة لهم ميزة اختصاص في الاهتمام بالآثار وجمعها، وكان كثير من هذه الكتب بالشام، وابن رجب قد استفاد من المكتبات الشامية بخلاف الحافظ ابن حجر فقد كان اطلاعه عليها قليل فإنها لم تكن في متناول يده.

٣-قد فات الشيخ أنَّ هذا الأثر مخرج في كتاب مشهور ومطبوع، وهو كتاب أخبار مكة للفاكهي((٣٧٢/٢)).

 

 

ثامنا: قول الشيخ: [ التكبير من الشعائر الظاهرة أين نَقْلُه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بقية الصحابة..].

الجواب من وجوه:

١-نفس الإشكال يرد على التكبير المقيد.! فيقال: التكبير المقيد من الشعائر الظاهرة أين نَقْلُه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأين نَقْلُه عن بقية الصحابة ؛ لأنه لم يرد إلا عن أربعة أو خمسة من الصحابة.

فإن قيل: التكبير المقيد نُقِل فيه الإجماع.

قيل الإجماع الذي فيه هو الإجماع السكوتي، وهو أن يُنقل عن بعض الصحابة ولا يُعلم لهم مخالف، فالتكبير المقيد نُقِل عن ((أربعة أو خمسة)) من الصحابة ولم يُعلم لهم مخالف، وكذلك التكبير المطلق نُقِل عن ((اثنين)) من الصحابة ولم يُعلم لهم مخالف، وكلا التكبيرين قد اشتهر عن الصحابة، فلا فرق بينهما إلا زيادة في العدد وهذا وصف غير مؤثر في الإجماع السكوتي

٢-يكفي استدلالاً على مشروعية التكبير المطلق أنه عمل به “اثنان”من الصحابة ولم يُعرف لهم مخالف، كاستدلالنا على مشروعية التكبير المقيد بأنه عمل به بعض الصحابة ولم يُعلم لهم مخالف

٣-لا يلزم لمشروعية التكبير المطلق أن يُنقل عن كل صحابي، كما لم يُنقل ذلك في التكبير المقيد.

٤-التكبير والتسبيح والتحميد دبر الصلوات وكذا التهليل مع رفع الصوت من الشعائر الظاهرة، ولو اجتهد الانسان أن يأثره عن بعض الصحابة ربما لا يجد إلا واحدا أو اثنين.

٥- ((التكبير المطلق)) في عشر ذي الحجة إنما هو تطبيق لعموم الآية (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) وإذا كان هناك نص عام فلا يلزم أن نبحث هل فعله الصحابة أو لا ؟!

لأن الأصل أنهم فعلوه.

قال الشيخ ابن عثيمين: “وهنا قاعدة يجب أن نعمل بها: إذا جاءت النصوص اللفظية عامة فلا تسأل: هل عمل بها الصحابة أم لا؟ لأن الأصل أنهم عملوا بها، وعدم العلم بعملهم ليس علما بعدم عملهم، فالأصل أنهم عملوا به”((اللقاء المفتوح رقم(١٩٩)) فكيف إذا وجدنا بعض الصحابة قد عمل به.

٦-أن بعض الصحابة قد ينسون بعض العبادات، كما جاء عن عمران بن حصين في البخاري : أنه صلى مع علي رضي الله عنه بالبصرة فقال: «ذكَّرَنا هذا الرجلُ صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذَكَر أنَّه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع”((١٥٦/١))

قال الحافظ: “وفيه إشارة إلى أن التكبير الذي ذكره كان قد ترك وقد روى أحمد والطحاوي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري قال ذكَّرَنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها وإما تركناها عمدا”((فتح الباري، (٢٧٠/٢))

٧-ليس هناك عدد معين إذا تحقق قلنا صح واشتهرت هذه الشعيرة بعمل هولاء الصحابة .

٨-ومما يدل على ثبوت ذلك في عهد الصحابة واشتهاره وكذا عصر التابعين.

ما جاء في ((أخبار مكة)) (للفاكهي) من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت، قال: ” كان الناس يكبرون أيام العشر حتى نهاهم الحَجَّاج ” والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم، يكبر الناس في الأسواق في العشر”((٣٧٣/٢))وهو إسناد صحيح.

وثابت تابعي جليل، من مشايخه ابن عمر وابن الزبير وانس وابو برزة وابن مغفل وغيرهم، فيدخل في قوله دخولا أوليا الصحابة الذي أدركهم ثم التابعون.

وهذا نص ولله الحمد واضح في عمل الأمة به.

ويكفي منه دلالة: قوله”والأمر بمكة على ذلك إلى هذا اليوم”. فهل مثل أهل مكة يجمعون على عمل هو ضلال أو بدعة أو خطأ.

وعمل أهل مكة أيضا له وزنه، ولذلك ركن له أحمد في دعاء الختمة، قال ابن قدامة: “وقال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قل أعوذ برب الناس} [فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة”((المغني ١٢٦/٢))

 

 

تاسعا: قول الشيخ: [ وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحكم وحماد أنهما قالا التكبير في العشر محدث].

الجواب من وجوه:

١-قولهما محدث المراد منه: عدم معرفتهم له، فقد جاء عند الفاكهي في ((أخبار مكة)) أن شعبة قال: “فلم يعرفاه”((٣٧٣/٢)). فهذا منتهى علمهما، ومن علم حجة على من لم يعلم.

٢-أن سؤال شعبة لهما عن التكبير في العشر دليل على أن التكبير كان معمولا به ومشتهرا في الكوفة كما سيأتينا النقل عنهم.

٣-إذا خفيت هذه السنة على الحكم وحماد فلا ضير ؛ فإنه قد خفي على الصحابة بعض السنن.

٤-ونحن نقول لو أن أهل الكوفة (وليس فقط حمادا والحكم) لا يعملون بذلك، لقُدم عليهم عمل أهل مكة بلا خلاف، فكيف إذا كان المخالف لأهل مكة اثنان ؟!

٥-معلوم أنَّ أهل الكوفة قد كانت تخفى عليهم كثير من السنن، ولذلك خفي عليهم حرمة النبيذ، حتى كان صالحوهم يشربونه، يقول شيخ الإسلام: “بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة؛ فإنهم كثيرا ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك”((مجموع الفتاوى، (٣٢٨/٢٠)).

ويقول: “ومن ذلك ” صلاة الكسوف ” فإنه قد تواترت السنن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صلاها بركوعين في كل ركعة واتبع أهل المدينة هذه السنة وخفيت على أهل الكوفة حيث منعوا ذلك. وكذلك ” صلاة الاستسقاء ” فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح {عن النبي أنه صلى صلاة الاستسقاء} وأهل المدينة يرون أن يصلي للاستسقاء وخفيت هذه السنة على من أنكر صلاة الاستسقاء من أهل العراق”((٣٦٢/٢٠))

 

 

٦-أن (أبا حنيفة) من اخص تلاميذ حماد والحكم وقد كان يعمل بذلك، بل كان أهل الكوفة يأمرون به.

جاء في الدر المختار: “في المجتبى قيل لأبي حنيفة ينبغي لأهل الكوفة وغيرها أن يكبروا أيام العشر في الأسواق والمساجد قال نعم وذكر الفقيه أبو الليث أنَّ إبراهيم بن يوسف كان يفتي بالتكبير فيها قال الفقيه أبو جعفر: والذي عندي أنه لا ينبغي أن تمنع العامة عنه لقلة رغبتهم في الخير وبه نأخذ”((١٨٠/٢)) فهولاء من علماء الكوفة كانوا يعملون به ويأمرون به ويتواصون بها.

 

 

الخلاصة: نلخص الكلام بطريقة تُوضح اشتهار التكبير المطلق وعمل الأمة به في الأمصار الإسلامية.

١-عمل أهل الكوفة بالتكبير: قد أثبتنا ذلك عن علمائهم، وكذلك قلنا أن سؤال شعبة دليل على اشتهار التكبير في الكوفة مما دفع شعبة للسؤال

٢-عمل أهل المدينة : تكبير ابن عمر وأبي هريرة في الأسواق وتكبير الناس بتكبيرهما

٣-عمل أهل البصرة: وذلك من قول ثابت البناني البصري “كان الناس يكبرون أيام العشر”

٤-عمل أهل مكة: وذلك مأخوذ من أثر ثابت السابق : ” والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم، يكبر الناس في الأسواق في العشر”

والذي يظهر لي أن تكبير ((ابن عمر وأبي هريرة)) إنما كان بمكة أيام الحج، وهذا أعظم في الدلالة لاجتماع جميع الأمصار في موسم الحج واقتداء الناس بهما، فقد كان ابن عمر لا يترك الحج وقال نافع: “حججت معه ثلاثا وثلاثين حجة” حتى أيام القتال والفتنة كان يحج وكان أصحابه يتخوفون عليه كما في ((صحيح البخاري)): “عن نافع، أن بعض بني عبد الله، قال له: لو أقمت العام، فإني أخاف أن لا تصل إلى البيت”((صحيح البخاري، ١٢٧/٥)) وفي موطن آخر: “عن نافع، أنَّ عبيد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله، أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ليالي نزل الجيش بابن الزبير، فقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، وإنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت…..” ((صحيح البخاري ((٨/٣))، ولأنه يصعب اجتماع ابن الزبير وابن عمر أيام موسم الحج بالمدينة ولا يحجان، ولعل السوق المذكور إنما هي أسواق مكة المشهورة التي كان الناس يكبرون فيها كما هو في أثر ثابت “والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم، يكبر الناس في الأسواق في العشر”.

فيظهر والله أعلم أن خروج ابن عمر وابن الزبير إلى السوق إنما هو سوق مكة أيام موسم الحج.

حسن صنيدح


شارك المحتوى:
0