علو الله


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذِي علَا بذاتهِ وبصفاتهِ، هوَ الذِي خلقَ السماواتِ والأرضَ فِي ستةِ أيامٍ ثمَّ استوَى علَى العرشِ مالكمْ منْ دونِه منْ وليٍّ ولَا شفيعٍ أفلَا تتذكرونَ.

وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لَا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]

أمَّا بعدُ:

فإنهُ يجبُ علَى كلِّ مسلمٍ أنْ يعتقدَ فِي ربِّه الاعتقادَ الصحيحَ الذِي عليهِ الصحابةُ والتابعونَ لهمْ بإحسانٍ، وهوَ اعتقادُ أهلِ السنةِ قالَ سبحانَهُ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]

فلَا اعتقادَ مرضٍ للهِ إلَّا الاعتقادُ الذِي كانَ عليهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ وَصحابتُه الكرامُ الذِي هوَ اعتقادُ أهلِ السنةِ -أسألُ اللهَ أنْ يحيينَا علَى اعتقادِ أهلِ السنةِ وأنْ يميتنَا علَى ذلكَ إنهُ الرحمنُ الرحيمُ-.

وإنَّ ممَّا يعتقدُه أهلُ السنةِ: مَا دلَّ عليهِ كتابُ اللهِ وصحيحُ سنةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ وأجمعَ عليهِ السلفُ الصالحُ؛ وهوَ أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ قالَ سبحانَهُ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، وقالَ سبحانَهُ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، ومعنَى أنهُ يصعدُ إليهِ: أنهُ فوقَ المخلوقاتِ سبحانَهُ لذَا صعدَ إليهِ.

وأخرجَ مسلمٌ منْ حديثِ معاويةَ بنِ الحكمِ السُّلميِّ أنهُ لمَّا أرادَ أنْ يعتقَ جاريةً مملوكةً أتَى بهَا إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فقالَ لها: ” أينَ اللهُ؟ ” قالتْ: فِي السماءِ، قالَ: ” مَن أنَا؟ ” قالتْ: أنتَ رسولُ اللهِ، قالَ: ” أعتقهَا، فإنهَا مؤمنةٌ”

ومعنَى فِي السماءِ: أيْ أنهُ فوقَ السماءِ وفوقَ المخلوقاتِ كمَا قالَ سبحانَهُ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أيْ علَى الأرضِ، وقالَ سبحانَهُ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أيْ علَى جذوعِ النخلِ.

فالجوابُ الصحيحُ الوحيدُ علَى سؤالِ أينَ اللهُ؟ القولُ: إنهُ فِي السماءِ.

وقدْ ذكرَ هذهِ العقيدةَ الصحابةُ إلَى الأئمةِ الأربعةِ أبِي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ –رحمَهمُ اللهُ-

قالَ أبُو حنيفةَ: مَن قالَ لَا أعرفُ ربِّي فِي السماءِ أمْ فِي الأرضِ فقدْ كفرَ، وكذَا مَن قالَ إنهُ علَى العرشِ، ولَا أدرِي العرشُ أفِي السماءِ أم فِي الأرضِ. (الفقهُ الأبسطُ ص49)

و قالَ الإمامُ مالكٌ: اللهُ فِي السماءِ وعلمُه فِي كلِّ مكانٍ لَا يخلُو منهُ شيءٌ. (أخرجهُ أبُو داوودَ فِي مسائلِهِ).

وقالَ الإمامُ الشافعيُّ: القولُ فِي السنةِ التِي أنَا عليهَا ورأيتُ أصحابنَا عليهَا، أهلُ الحديثِ الذينَ رأيتُهم فأخذتُ عنهُم مثلُ: سفيانَ ومالكٍ وغيرِهما: الإقرارُ بشهادةِ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ اللهَ علَى عرشِه فِي سمائِهِ يقربُ منْ خلقِه كيفَ شاءَ. (وصيةُ الإمامِ الشافعيِّ ص / 53 – 54).

وقالَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ فِي الردِّ علَى الجهمية: وقد أخبرنا أنه في السماء فقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]

وهذهِ العقيدةُ تكاثرتِ الأدلةُ منَ الكتابِ والسنةِ علَى بيانِهَا حتَّى قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنّ عندِي أكثرَ منْ ألفِ دليلٍ علَى أنَّ اللهَ فوقَ المخلوقاتِ بذاتِهِ.

وعلوُّ اللهِ فوقَ خلقِهِ لَا يُنافِي أنهُ عالمٌ بكلِّ شيءٍ، وأنَّ علمَه محيطٌ بكلِّ شيءٍ فِي الأرضِ وَالسماءِ وللماضِي وَالمستقبلِ قالَ تعالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وقالَ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]

ومعَ وضوحِ الأدلةِ علَى علوِّ اللهِ إلَّا أنَّ أهلَ البدعِ خالفُوا فِي ذلكَ وضللُوا جمعًا منْ عوامِّ المسلمينَ، فقالُوا أقوالاً مخالفةً لاعتقادِ أهلِ السنةِ؛ ومنْ ذلكَ أنهمْ ينفونَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ فوقَ المخلوقاتِ، وممَّا يقولونَ: إنَّ اللهَ فِي كلِّ مكانٍ حتَّى يقولَ بعضُهم: إنَّ اللهَ حالٌّ فِي المخلوقاتِ وهذَا اعتقادٌ كفريٌّ والعياذُ باللهِ.

وإنهُ لمَّا خالفَ أهلُ البدعِ اعتقادَ أهلِ السنةِ حاولُوا أنْ يتشبثُوا بأدلةٍ ويلبِّسُوا بهَا علَى الناسِ، ومنْ تلكمُ الأدلةُ قولهُ تعالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] قالُوا: اللهُ فِي السماءِ وفِي الأرضِ، وقدْ أجابَ أهلُ السنةِ علَى هذَا بأنْ قالُوا: معنَى الآيةِ هوَ المعبودُ فِي السماءِ كمَا أنهُ المعبودُ فِي الأرضِ، أمَّا اللهُ سبحانَهُ فهوَ فوقَ المخلوقاتِ للأدلةِ الكثيرةِ والتِي تقدَّم بعضُها.

وممَّا استدلَ بهِ أهلُ البدعِ علَى أنَّ اللهَ سبحانَهُ ليسَ فوقَ المخلوقاتِ بلْ فِي كلِّ مكانٍ: قولُ اللهِ سبحانَهُ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] فقالُوا: هذَا يدلُّ علَى أنَّ اللهَ فِي كلِّ مكانٍ. فردَّ عليهمْ أهلُ السنةِ فقالُوا: إنَّ معنَى هذهِ الآيةَ علمُ اللهِ فهوَ يعلمُ مَا تفعلُ مخلوقاتُه وعلمُه محيطٌ بكلِّ مكانٍ، ويدلُّ لذلكَ أنَّ اللهَ ابتدأَ الآيةَ بالعلمِ فقالَ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة: 7]، ثمَّ اختتمَ الآيةَ بالعلمِ فقالَ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]

فإذًا معنَى الآيةِ أنَّ اللهَ فوقَ المخلوقاتِ، لكنهُ يعلمُ ما يفعلهُ عبادُه.

اللهمَّ إلهَنَا أحيينَا علَى التوحيدِ والسنةِ وأمتْنَا علَى التوحيدِ والسنةِ، واجعلنَا نلقَاك وأنتَ راضٍ عنَّا إنكَ أنتَ الرحمنُ الرحيمُ

 

الخطبةُ الثانيةُ

 

الْحَمدُ للهِ الْعليِّ الْعَظِيمِ ربِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ علَى نعمهِ السابغةِ الظَّاهِرَةِ والباطنةِ وَالْحَمْدُ للهِ علَى نعْمَةِ التَّوْحِيدِ وَأشْهدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدهُ لَا شريكَ لَهُ شَهَادَةً توجبُ منْ فَضلهِ الْمَزِيدَ

وَأشْهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسُولُه خَاتمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشَّفِيعُ فِي الْيَوْمِ الشَّديدِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ وعَلى آلهِ صَلَاة أدخرها ليَوْم الْوَعيدِ … أمَّا بعدُ:

فإنَّه لَا اعتقادَ صحيحٌ إلَّا اعتقادُ أهلِ السنةِ، فكلُّ اعتقادٍ مخالفٌ لعقيدةِ أهلِ السنةِ فهوَ اعتقادٌ باطلٌ، فإنَّ أهلَ السنةِ همُ الفرقةُ الناجيةُ وهمُ الطائفةُ المنصورةُ، أخرجَ الشيخانِ عنِ المغيرةِ بنِ شعبةَ ومعاويةَ بنِ أبِي سفيانَ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ قالَ:” لَا يزالُ طائفةٌ منْ أمتِي ظاهرينَ، حتَّى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهمْ ظاهرونَ”. وبيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ أنَّ المسلمينَ سيفترقونَ علَى فرقٍ وأنَّ الفرقَ كلهَا ضالةٌ إلَّا أهلَ السنةَ، فقدْ ثبتَ عندَ أحمدَ وأبِي داودَ عنْ معاويةَ بنِ أبِي سفيانَ، أنَّه قامَ فينَا فقالَ: ألَا إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ قامَ فينَا فقالَ: ” إنَّ هذهِ الملةَ ستفترقُ علَى ثلاثٍ وسبعينَ: ثنتانِ وسبعونَ فِي النارِ، وواحدةٌ فِي الجنةِ، وهيَ الجماعةُ ”

فالفرقةُ الناجيةُ واحدةٌ وهمْ أهلُ السنةِ.

فاللهَ اللهَ أهلَ الإيمانِ أنْ نعتقدَ اعتقادَ أهلِ السنةِ فِي ربِّنا وفِي دينِنا، فإنَّه لَا حقَّ إلَّا فِي اعتقادِهمْ.

وممَّا يتحسرُ لهُ أنَّ كثيرًا منَ المسلمينَ يجهلونَ اعتقادَ أهلِ السنةِ معَ أنَّ أمرَ الاعتقادِ -الذِي هوَ فِي القلبِ- أمرٌ عظيمٌ؛ لأنهُ الأصلُ ومَا عداهُ مبنيٌّ عليهِ، أخرجَ الشيخانِ منْ حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ قالَ: قالَ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: ألَا وإنْ فِي الجسدِ مضغةً إذَا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه وَإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّه ألَا وهيَ القلبُ ”

ويجبُ علينَا أنْ نعرفَ الاعتقادَ الصحيحَ فِي ربِّنا الذِي هوَ اعتقادُ أهلِ السنةِ، وأوصيكُمْ بمراجعةِ كتابٍ نفيسٍ مختصرٍ وهوَ كتابُ (العقيدةُ الواسطيةُ) لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ- رحمَه اللهُ-، فإنَّ فيهِ بياناً شافيًا لعقيدةِ أهلِ السنةِ، وكتابُ (مائتَا سؤالٍ وجوابٍ فِي العقيدةِ) للشيخِ حافظٍ الحكميِّ – رحمَه اللهُ- وكلاهمَا موجودانِ فِي الشبكةِ العنكبوتيةِ (الإنترنتُ)

اللهمَّ يَا مَن لَا إلهَ إلَّا أنتَ يَا رحمنُ يَا رحيمُ أعزَّ الإسلامَ وَالمسلمينَ، اللهمَّ أعزَّ الْإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أعزَّ الْإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ علِّم المسلمينَ الاعتقادَ الصحيحَ فيكَ، اللهمَّ علِّمهم اعتقادَ أهلِ السنةِ، ووفِّقِ المسلمينَ بأنْ يعتقدُوا اعتقادَ أهلِ السنةِ واجمعهمْ علَى الحقِّ يَا ربِّ العالمينَ.

أيُّها المسلمونَ بادرُوا بالتزامِ اعتقادِ أهلِ السنةِ قبلَ الموتِ الذِي يهجمُ بغتةً ووقتهَا لا ينفعُ الندمُ ولَا التحسرُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.

اللهمَّ وفِّقْ وليَّ أمرِنَا لكلِّ خيرٍ.

اللهمَّ وفِّقهُ لنشرِ اعتقادِ أهلِ السنةِ ووفِّقْ جميعَ ولاةَ المسلمينَ لذلكَ.

وقومُوا إلَى صلاتِكم يرحمْكم اللهُ

د. عبد العزيز بن ريس الريس

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0