الغزو الغربي لتفكيك الأسر


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي مَنَّ عَلَيْنَا بِنعمَةِ الأولادِ، وَفَتَحَ لَنَا مِن أسبابِ الهدايةِ كُلَّ بابٍ، وَرَغَّبَ في طُرُقِ الصَّلاحِ وَحَذَّرَ مِن طُرُقِ الفَسَادِ.

وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، المَلِكُ الكريمُ الوهَّابُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أفضَلُ الخَلْقِ بِلَا ارتيابٍ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ والتَّابعينَ لَهُم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ‌وَخَلَقَ ‌مِنْهَا ‌زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ للأُسرةِ -التي هيَ الأمُّ والأَبُ والأَبناءُ- مِنزِلَةً عظيمةً في الإسلامِ، فتكاثَرَتِ الأدلةُ الشرعيةُ، والتَّوجيهاتُ الرَّبانيَّةُ للأُسرةِ، فأمَرَتْ بِبِرِّ الوالدينِ والإحسانِ لَهُما، وهذا عمودُ صلاحِ الأُسرةِ، قالَ تعالى: ﴿‌وَقَضَى ‌رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].

وبيَّنَ طاعةَ الزوجةِ للزوجِ، قالَ سبحانهُ: ﴿‌الرِّجَالُ ‌قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ … وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: 34].

وأوضَحَتْ حقَّ الزَّوجةِ على الزوجِ، قالَ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ ‌مِثْلُ ‌الَّذِي ‌عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228].

وبيَّنَتْ مسؤوليَّةَ الأبِ والأُمِّ في أشياءَ كثيرةٍ، قالَ تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقال ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ‌رِزْقُهُنَّ ‌وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233].

ورَوى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» متفقٌ عليهِ.

وكلُّ هذا يدلُّ على أهميَّةِ الأُسرةِ، ويُؤكِّدُ ذلكَ أنَّ المجتمعَ مُكوَّنٌ مِن أُسَرٍ، والدولةُ مِن المجتمعِ، فإذا صَلَحَتْ الأُسرةُ المسلمةُ، صَلَحَتْ المجتمعاتُ والدولُ، ومَتَى ما كانَتْ الأُسرَةُ المسلمةُ مُتماسِكَةً، كانَ سببًا عظيمًا لصَلَاحِها وحُسنِ حالِها.

والغَربُ الكافرُ يُحاوِلُ تفكيكَ الأُسَرِ بمَكرٍ كُبَّارٍ وبِطُرُقٍ شتَّى، مِنها: دعوةُ الآباءِ والأُمَّهاتِ للنَّظرةِ الفرديَّةِ، وأنَّ الأَهَمَّ مصلحتُهُما وراحَتُهُما دونَ غَيْرِهِمَا، وهذا معَ كونِهِ خطأً شرعيًّا فهوَ غَلَطٌ عقلًا بالنسبةِ له؛ لأنَّهُ في وقتٍ يَرجو الاستفادَةَ مِنهم، لاسِيَّمَا مَعَ كِبَرِ السِّنِّ المَصحوبِ بالعَجْزِ والحاجَةِ فكيفَ يعاملُهم بنظريةٍ مبنيةٍ على حبِ الذاتِ فيقابلونَهُ بالمثلِ.

ودعوةُ الأولادِ ذكورًا وإِناثًا إلى التَّمَرُّدِ والاستِقلالِ، عَن طريقِ وسائلِ التواصُلِ، وهذا مَعَ كونِهِ جُحُودَ جميلِ الوالدَيْنِ، فهوَ أيضًا طريقٌ ليُصبِحَ الأولادُ فَريسَةً سائِغَةً ليَستَغِلَّهُم أيُّ أحَدٍ لِمصالِحِهِ، فيستفيدوا مِن أموالِهِم بإيقاعِهِم في المخدِّراتِ والمُسكِراتِ، ويستفيدُوا مِن البناتِ في قضاءِ الأَوطارِ والشَّهَواتِ، وهكذَا.

ودعوةُ الزَّوجةِ إلى الانفِصالِ عن الزَّوجِ، لِتَتَّسِعَ دائرةُ حُرِّيَّتِها وانطِلَاقِها، ثُمَّ بعدَ مُضِيِّ الأيَّامِ تُدرِكُ كَمْ خَسِرَتْ مِن كَنزٍ عظيمٍ جُبِلَتْ على الحاجةِ إليهِ وهو الزوجُ، وَلَوْ كابَرَتْ ثُمَّ كابَرَتْ.

وقوَامَةُ الرِّجالِ على النِّساءِ ليسَ بالمالِ فَحَسْب، بَلْ لِما فَضَّلَ اللهُ بعضَهُم على بعضٍ في الخِلْقَةِ، كَمَا قالَ سبحانهُ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ‌بِمَا ‌فَضَّلَ ‌اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا﴾ [النساء: 34].

اللهُمَّ أعِنَّا على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللهُمَّ أصلِح الأُسَرَ والمُجتمعاتِ والدُّولَ يا أرحمَ الرَّاحمينَ.

أقولُ ما قُلْتُ، وأستَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم، فاستغفِروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي مَنَّ عَلَى عِبادِهِ بالأموالِ والأولادِ، وجَعَلَ ذلكَ فِتْنَةً لِعبادِهِ ليختَبِرَ بذلكَ مَنْ يقومُ بحَقِّهِمْ ويَصُونَهُمْ عَن الفَسَادِ مِمَّنْ يُضَيِّعُهُمْ ويَتْرُكُهُمْ هَمَلًا، فيكونونَ خَسَارةً عليهِ في الدُّنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ.

وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لهُ المَلِكُ الكريمُ الجَوَادُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ الداعي إلى الهُدَى والرَّشادِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وأصحابهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ في القولِ والفعلِ والاعتقادِ.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ على الأبِ قائِدِ الأُسرَةِ السَّعيَ لإصلاحِ الأُسرَةِ، وعلى الزَّوجةِ والأبناءِ مُعَاوَنَتُهُ ومُساعدَتُهُ والتَّعاوُنُ على البِرِّ والتَّقوى، ومِن أسبابِ صَلَاحِ الأُسرَةِ ما يَلِي:

أولًا: الدُّعاءُ، فليجتَهِدْ الوالِدانِ في الدُّعاءِ لِصلاحِ أولادِهِما، قالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ‌هَبْ ‌لَنَا ‌مِنْ ‌أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: 74].

والدُّعاءُ سَبَبٌ عظيمٌ لِصلاحِ الأولادِ، بَلْ لَا سبَبَ يُدانِيهِ فضلًا عن أنْ يُساويهِ.

ثانِيًا: تربيةُ الأولادِ على الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، مِن طاعةِ اللهِ ثُمَّ الوالِدينِ، والحياءِ، وحُسنِ الأخلاقِ، والكَرَمِ، والشَّهامَةِ، وحُسنِ المَنطِقِ والكلامِ، ومِن المُفيدِ أنْ يستعينَ الأبُ بِمُرَبٍّ فاضِلٍ يُساعِدْهُ في تربيةِ أبنائِهِ، فَكَمْ تُهْدَرُ الأموالُ في مَطَاعِمَ ومآكِلَ وكمَالِيَّاتٍ، فوَضْعُهُ في مُرَبٍّ أهَمُّ بكثيرٍ، وتربيةُ الرُّوحِ والعقولِ مُقدَّمةٌ على تربيةِ الأبدانِ والأجسادِ.

ثالِثًا: تربيةُ الأجيالِ على تمييزِ القُدواتِ ومعرِفَتِهِم، فكَمْ تضرَّرَ أولادُنَا بعَدَمِ معرِفَةِ القُدُواتِ، فجَعَلَ بعضُهُم مِن مشاهيرِ وسائلِ التَّواصُلِ قُدوَةً لِمُجرَّدِ كونِهِم مَشَاهيرَ، وجَعَلَ بعضُهُم لاعِبي كُرَةِ القَدَمِ قُدُواتٍ، وهكَذا.

وهذا خطأٌ، يجبُ أنْ يعرِفوا القُدُواتِ، وأَهَمُّهُم رسولُ اللهِ ﷺ، فيَعرِفوا هَديَهُ وسيرَتَهُ، وأخبارَهُ وأحوالَهُ، ثُمَّ يَعرِفوا أصحابَهُ الكِرامَ، وفي مُقدَّمَهِم الخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ، وأنْ يَعرِفوا العُلماءَ الرَّبَّانيينَ، كالإمامِ أحمدَ وشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ، وشيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ، وعلمائِنا الأجِلَّاءِ، كالشيخِ العلامةِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ، والألبانيِّ، وابنِ عثيمينٍ -رحمهم اللهُ-.

رابِعًا: تربيةُ الجيلِ والنَّشْءِ على القَنَاعَةِ، وأَلَّا تكونَ الدُّنيا وجَلْبَ الأموالِ أكبرَ مَقْصِدٍ، بَلْ مع العَمَلِ وتحصيلِ الأموالِ تمتَلِئُ قلوبُهُم بالقناعَةِ وعَدَمِ الشُّحِّ والجَشَعِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ».

خامِسًا: تربيةُ الشبابِ والشَّابَّاتِ على أهميَّةِ الزَّواجِ، والسَّعي لتعجيلِهِ ما أمْكَنَ، رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ».

وليَكُنِ الأَبُ عَوْنًا عَلَى زَوَاجِ أبنائِهِ، وليَعلَموا أنَّ الزواجَ سببٌ مِن أسبابِ الغِنى، قالَ سبحانهُ: ﴿إِنْ يَكُونُوا ‌فُقَرَاءَ ‌يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 32] وروى ابنُ جريرٍ عَن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” ابْتَغوا الْغنى فِي الْبَاءَة “، وذكرَ ابنُ كثيرٍ في مُسنَدِ الفاروقِ عن عُمَرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” زَوِّجوا أولادَكم إذا بَلَغوا، لا تَحمِلُوا آثامَهم “.

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلَّا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، أعِنَّا عَلَى صلاحِ أنفُسِنَا وأزواجِنَا وأولادِنَا، اللهُمَّ هَبْ لَنَا مِن أزواجِنَا وأولادِنَا قُرَّةَ أعيُنٍ، واجْعَلنَا للمُتَّقينَ إمامًا.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

الغزو الغربي في تفكيك الأسرة


شارك المحتوى:
0