تعليم الأطفال توحيد ذي العزة والجلال


الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نَتَكَلَّمُ عَنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ، وَأَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ، وَأَعْظَمِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَوَّلُ الأَمْرِ وَآخِرُهُ، وهو الْغَايَةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا الْخَلْقُ، ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [ الذاريات : 56]

إِنَّهُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي حَاجَتُنَا إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، وَضَرُورَتُنَا إِلَيْهَا فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، فَلاَ سَعَادَةَ لِلْقُلُوبِ إِلاَّ بِتَوْحِيدِ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ، وَلاَ نَعِيمَ وَلاَ سُرُورَ وَلاَ أَمْنَ إِلاَّ بِتَحْقِيقِهِ ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [ الأنعام : 82 ]

وَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَسَاسُ دَعْوَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللهِ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- مِنْ أَوَّلِهِمْ نُوحٌ، إِلَى آخِرِهِمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حَرَصُوا عَلَى دَعْوَةِ أَبْنَائِهِمْ لِتَحْقِيقِهِ، وَاهْتَمُّوا بِهِ أَشَدَّ اهْتِمَامٍ؛ فَهَذَا نُوحٌ يَدْعُو وَلَدَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ رَكْبِ الْمُوَحِّدِينَ، وَتَحْذِيرُهُ مِنْ مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الضَّلاَلِ الْمُعَانِدِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ * وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود : 42].

وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – يُوصِي أَبْنَاءَهُ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[البقرة : 132] وَيَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يُوصِي أَبْنَاءَهُ فِي لَحَظَاتِهِ الأَخِيرَةِ بِالتَّوْحِيدِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].

وَفِي أَوَّلِ وَصَايَا مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لُقْمَانَ لابْنِهِ: تَحْذِيرُهُ لَهُ مِنَ الشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [ لقمان : 13]

وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْتَمَّ بِأَمْرِ تَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ لِلصِّغَارِ وَفِي مَرْحَلَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ جِدًّا مِنْ مَرَاحِلِ طُفُولَتِهِمْ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْوِلاَدَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلاَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا»

[رواه الترمذي، وأحمد وحسنه الألباني].

قَالَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ مُبَيِّنًا الْحِكْمَةَ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ: «وَسِرُّ التَّأْذِينِ وَاللهُ أَعْلَمُ: أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَقْرَعُ سَمْعَ الإِنْسَانِ كَلِمَاتُهُ -أَيْ: كَلِمَاتُ الأَذَانِ– الْمُتَضَمِّنَةُ لِكِبْرِيَاءِ الرَّبِّ وَعَظَمَتِهِ، وَالشَّهَادَةِ الَّتِي أَوَّلُ مَا يُدْخَلُ بِهَا فِي الإِسْلاَمِ! فَكَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ تَلْقِينِهِ لِشِعَارِ الإِسْلاَمِ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا؛ كَمَا يُلَقَّنُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ وُصُولُ أَثَرِ التَّأْذِينِ إِلَى قَلْبِهِ، وَتَأَثُّرُهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ! مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ هُرُوبُ الشَّيْطَانِ مِنْ كَلِمَاتِ الأَذَانِ، وَهُوَ كَانَ يَرْصُدُهُ حَتَّى يُولَدَ فَيُقَارِنُهُ لِلْمِحْنَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ وَشَاءَهَا! فَيَسْمَعُ شَيْطَانُهُ مَا يُضْعِفُهُ وَيَغِيظُهُ أَوَّلَ أَوْقَاتِ تَعَلُّقِهِ بِهِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ الإِسْلاَمِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ سَابِقَةً عَلَى دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ» [تحفة المودود بأحكام المولود ص25-26 ].

وَمِنِ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ بِعَقِيدَةِ النَّاشِئَةِ أَنَّهُ كَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ– يَجْعَلُ مَسْؤُولِيَّةَ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى الآبَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ – : «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ…» الْحَدِيثُ [متفق عليه]، وَلِذَلِكَ حَرَصَ عَلَى اسْتِغْلاَلِ رُكُوبِ الْغُلاَمِ الصَّغِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَعَهُ لِيُعَلِّمَهُ التَّوْحِيدَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: «يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ…» الْحَدِيثُ [رواه الترمذي، وصححه الألباني].

وَاسْتَغَلَّ جُلُوسَهُ مَعَ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَى مَائِدَةِ طَعَامٍ لِيُعَلِّمَهُ أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ، وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ وَيَأْكُلَ مِمَّا يَلِيهِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.

اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ صَلاَحًا لأَبْنَائِنَا وَأَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، اللَّهُمَّ احْفَظْ لَهُمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ بَلاَءٍ وَشَرٍّ وَفِتْنَةٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ عَلَى الأُمَّةِ جَمِيعًا وَعَلَى الآبَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ : وَاجِبَ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ ! خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ فِتَنُ الشُّبُهَاتِ، وَكَثُرَ فِيهِ دُعَاةُ الإِلْحَادِ وَالضَّلاَلِ وَالْفَسَادِ، وَتَنَوَّعَتْ أَسَالِيبُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ عَبْرَ كُلِّ وَسِيلَةٍ مُتَاحَةٍ يَصِلُ مَضْمُونُهَا لِلصَّغِيرِ قَبْلَ الْكَبِيرِ.

فَجَمِيلٌ مِنَ الْوَالِدَيْنِ تَعْلِيمُ الصَّغِيرِ نُطْقَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَهَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ الرُّمَيْصَاءُ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- أَسْلَمَتْ وَكَانَ أَنَسٌ صَغِيرًا، لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ، فَجَعَلَتْ تُلَقِّنُ أَنَسًا: قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قُلْ أَشْهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.

كَذَلِكَ التَّدَرُّجُ مَعَ الصَّغِيرِ فِي التَّعْلِيمِ؛ لِيَنْشَأَ عَلَى مَحَبَّةِ خَالِقِهِ وَرَجَائِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.

 


شارك المحتوى:
0