تعقيب على الشيخ عبدالعزيز الطريفي في مسألة القراءة في صلاة الوتر


تعقيب على الشيخ عبدالعزيز الطريفي في مسألة القراءة في صلاة الوتر

الحمد لله، وبعد:

فقد أرسل إلي أحد الإخوة مقطعين صوتيين للشيخ عبدالعزيز الطريفي، يقرر فيه أن قراءة السور الثلاثة: (سبح، والكافرون، والإخلاص) تكون في حالة وصل الركعات الثلاثة في الوتر، وأما في حالة فصل الركعتين عن الركعة فيقرأ ما شاء دون تحديد! وأن هذا هو السنة.

واستدل لذلك بأنه جاء في المسند والسنن: (أنه لا يجلس إلا في آخرهن).

وذكر أن هذا الخطأ راج عند الناس وعند طلبة العلم وربما عند العلماء!!!

هذا مجموع كلامه في المقطعين.

وجوابًا على كلامه أقول:

إن مستنده في كلامه: ما رواه النسائي قال: أخبرنا يحيى بن موسى قال: أنبأنا عبدالعزيز بن خالد، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب قال: (كان رسول الله يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك اﻷعلى، وفي الركعة الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثالثة ب {قل هو الله أحد}، ولا يسلم إلا في آخرهن..) إلخ الحديث.

وهو من أفراد النسائي، وعزوه إلى المسند وهم.

والجواب عنه من أوجه:

أولا: أن زيادة: (ولا يسلم إلا في آخرهن) -التي هي الشاهد من هذا الحديث- منكرة لا تصح، فقد تفرد بها عبدالعزيز بن خالد بن زياد الترمذي، وهو لين الحديث، قال عنه أبو حاتم الرازي: (شيخ)، وقال ابن حجر: (مقبول) أي حيث يتابع، ولم يتابعه أحد عليها.

بل خالفه الثقات الحفاظ، فقد خالفه: عيسى بن يونس -وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين- فرواه عن سعيد بن أبي عروبة به موصولا عند النسائي، ولم يذكر هذه الزيادة.

وكذلك رواه عبدالعزيز بن عبدالصمد ومحمد بن بشر -وروايتهما عند النسائي- ويزيد بن زريع -وروايته ذكرها أبو داود- كلهم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به، ولم يذكروا هذه الزيادة أيضا.

وكذلك رواه الحافظ الحجة شعبة، عن قتادة به، ولم يذكر الزيادة أيضا.

وكذلك رواه الناس عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه به، ولم يذكروا الزيادة أيضا.

والحديث فيه اختلاف كثير في إسناده -بذكر أبي بن كعب وبعدم ذكره-، ومع اختلاف طرقه وتعددها لم يذكر أحد من رواة الحديث هذه الزيادة، بل تفرد بها عبدالعزيز بن خالد، ولا يقبل هذا التفرد منه، فليس هو من الثقات، وليس هو من المشهورين في الرواية، فلم يرو له إلا النسائي، بل لم يرو له النسائي غير هذا الحديث.

ولذلك حكم بنكارتها العلامة اﻷلباني -رحمه الله- في كتابه “صلاة التراويح” (ص110 في الحاشية).

ثانيا: الأحاديث الواردة في وتر النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث، جاءت عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وعمران وابن مسعود وغيرهم، وكلها فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ بسبح والكافرون والإخلاص، وكلها ليس فيها التصريح أنه سرد الثلاث ولا أنه فصل الركعتين عن الركعة.

وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن نصر المروزي، ثم قال عقيب ذلك: (والأخبار المفسرة التي لا تحتمل إلا معنى واحد أولى أن تتبع ويحتج بها).

يريد بذلك: أن اﻷحاديث التي فيها التصريح بالفصل بين الركعتين والركعة أولى بالعمل، ﻷنها صريحة، وغيرها مجمل، فيحمل المجمل على المفصل.

فهو يرى سنية الفصل، وسنية قراءة السور الثلاث فيها، بل وحمل على ذلك جميع أدلة الباب الواردة في قراءة السور الثلاث.

ووافقه اﻷلباني على ذلك.

وقد ذكر المروزي وكذلك اﻷلباني: أنه لا يثبت حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سرد الركعات الثلاث في الوتر، واﻷحاديث الواردة في ذلك كلها معلولة، لكن صح ذلك عن بعض الصحابة موقوفا عليهم، ففعله جائز، اقتداء بهم -رضي الله عنهم-.

ثالثا: جاء حديث عائشة صريحا في المراد.

فقد جاء الحديث من طريقين عن عائشة: (أن رسول الله كان يقرأ في الركعتين التي يوتر بعدهما بسبح اسم ربك اﻷعلى وقل يا أيها الكافرون، ويقرأ في الوتر بقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس). وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي واﻷلباني.

وقال الحاكم عقيبه: (وقد أتى بالحديث مفسرا مصلحا دالا على أن الركعة التي هي الوتر ثانية غير الركعتين اللتين قبلها).

واحتج الشافعي وأصحابه بهذا الحديث، لكن أعل أحمد وابن معين زيادة المعوذتين، كما ذكره ابن الجوزي.

وعلى كل؛ فالحديث مفسر للمراد بين الدلالة بأن السور الثلاثة يقرأ بها حتى في حال فصل الركعتين.

رابعا: أن هذا الفهم الذي ذكره الطريفي لم يذكر له فيه سلفا، وإنما اعتمد على ظاهر رواية النسائي، وتبين أن الزيادة منكرة لا تصح.

خامسا: أن المقرر عند أهل العلم قديما وحديثا هو خلاف ما ذكره الطريفي.

ودونك بعض النقول:

قال عبدالله بن أحمد: سمعت أبي يقول: (أعجب إلي أن يقرأ إذا هو أوتر في الركعة اﻷولى: بـ {سبح اسم ربك اﻷعلى}، وفي الثانية: {قل ياأيها الكافرون}، ثم يتشهد ويسلم، ثم يوتر بركعة يقرأ فيها بـ {الحمد} و{قل هو الله أحد}).

وقال أبو داود: (سمعت أحمد ابن حنبل في الوتر قال: يعجبني أن يسلم في الركعتين. قال: وكان يصلي بنا إمامه في شهر رمضان يقرأ في الركعتين بـ {سبح} و{قل يا أيها الكافرون}، ثم يسلم من الثنتين، ثم يقوم فيركع واحدة، يقرأ بفاتحة الكتاب و{قل هو الله أحد}).

وقال سفيان الثوري: (كانوا يستحبون أن يقرأ في الركعة اﻷولى {سبح}، وفي الثانية {قل يا أيها الكافرون}، ثم يتشهد وينهض، ثم يقرأ في الثالثة {قل هو الله أحد}، وإن قرأت غير هذه السور أجزأك). نقله ابن نصر.

وهو نص على أن عمل السلف هو بقراءة السور الثلاثة في غير حالة الوصل، سواء أراد سفيان أن يسلم بينهما أو لا.

وقال أبو عيسى الترمذي في الجامع: (والذي اختاره أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم أن يقرأ بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، و{قل يا أيها الكافرون}، و{قل هو الله أحد}، يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة). انتهى.

ولم يفرق بين حالة الوصل والفصل.

وقال شيخنا العلامة عبدالمحسن العباد البدر في شرح أبي داود: (فهذه السور الثلاث يؤتى بها في هذه الركعات الثلاث التي هي آخر صلاة الليل، ويأتي بها مسرودة لا يجلس بعد الثانية، أو يأتي بها بتشهدين، أي يصلي ثنتين ثم يتشهد ويسلم، وهذا هو اﻷولى، وهو الذي جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا في روايات..) إلخ.

ومن أهل العلم من يرى أنه يزيد قراءة المعوذتين على سورة الإخلاص في ركعة الوتر اﻷخيرة.

وهو مذهب الشافعي، واختاره الحافظان ابن نصر المروزي وابن المنذ.

قال الإمام الشافعي: (يقرأ في الركعتين قبل الوتر بـ {سبح اسم ربك اﻷعلى} في اﻷولى، وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون}، ويقرأ في الركعة الواحدة بـ {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}).

وقال الحافظ ابن نصر: (فالذي نختاره لمن صلى بالليل رمضان أو غيره: أن يسلم من كل ركعتين، حتى إذا أراد أن يوتر صلى ثلاث ركعات، يقرأ في اﻷولى بـ {سبح اسم ربك اﻷعلى}، وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون}، ويتشهد في الثانية ويسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، يقرأ فيها بفاتحة الكتاب و{قل هو الله أحد} والمعوذتين). انتهى.

وقال ابن المنذر: (وإذا أراد أن يوتر بثلاث صلى ركعتين، قرأ في اﻷولى منها بـ {سبح اسم ربك اﻷعلى}، وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون}، ثم يسلم ويأتي بالركعة الثالثة ويقرأ فيها بـ {قل هو الله أحد} والمعوذتين).

فأكثر أهل العلم يرون استحباب الفصل بين الركعتين والركعة، ومع ذلك يرون استحباب قراءة السور الثلاث في الركعات الثلاث مع فصلها.

ومنهم من يزيد المعوذتين على سورة الإخلاص في الركعة اﻷخيرة.

فعمل أكثر الناس اليوم ليس خطأ شائعا؛ بل عملهم سائر على فهم السلف الصالح للنصوص، ولن يكون فهمنا للنصوص أولى أو خيرا من فهم سلفنا -رحمهم الله-.

ورحم الله القائل:

وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف

هذا ولم أقف -بعد البحث- على من يقول: إن قراءة السور الثلاث خاص بحالة سرد الركعات الثلاثة. بل هو فهم محدث، لا ينبغي التعويل عليه.

فلعل الشيخ الطريفي يراجع رأيه فيه.

والله أعلم.

وكتبه/ عبدالله بن صالح العنزي

قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الثلاثاء 17/9/1435هـ


شارك المحتوى: