تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله


تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله

الحمد لله رب العالمي، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن دين الإسلام مبني على أصلين عظيمين هما: تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى، وتحقيق الاتباع لرسول اللهr، ولا يصح إيمان أحدٍ حتى يأتي بهذين المعنين معاً، وهذا ما دل عليه كلمة: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله.

ولا ينشأ انحراف وبعد عن الدين إلا بسبب التقصير في هاتين المسألتين، أو التقصير في أحدهما.

وكلمة: شهادة أن محمداً رسول الله، تدل بلفظها على وجوب العلم بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي هو مرسل من الله تعالى.

ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل في مكة المكرمة، ونشأ بها، وعرف بعظيم الأخلاق، حتى لقب بـ«الصادق الأمين»، وكان جميل الخِلقة، حسن الهيئة، عظيم الهيبة.

وأُرسل على رأس الأربعين من عمره، فقام بنشر الإسلام في مكة، ثم هاجر إلى المدينة لنشر الإسلام، وقاتل المشركين، حتى نشر الله به الدين، وأظهر به التوحيد، وتوفاه الله تعالى في السنة العاشرة من الهجرة في المدينة المنورة، ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها.

ولا ريب أن البراهين النقلية والعقلية قد قامت وتبينت في الدلالة على كونه رسول الله r ولو لم يكن من ذلك إلا كونه كان أمياً، وقد نزل عليه هذا القرآن بلسان عربي مبين، فيه صلاح الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين(، وقال r : «إنما بعثت رحمة».[رواه مسلم]

فهو عليه الصلاة والسلام: عبدٌ لله فلا يعبد، ورسول الله فلا يُكَذَّب،

ولفظ شهادة أن محمداً رسول الله هذه الكلمة دلت على معاني ومقتضيات، وبهذه المعاني والمقتضيات تتحق شهادة أن محمداً رسول الله، وهي:

1- إطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر:

إن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى، قال جل ذكره: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾، وقال تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾.

وإليك هذه الصورة المشرقة لامتثال الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال رجل لحذيفة رضي الله عنه: (لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ؟

فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ!؟

لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَسَكَتْنَا؛ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.

ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَسَكَتْنَا؛ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.

ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَسَكَتْنَا؛ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.

فَقَالَ: قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؛ فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ).

تأمل -يا رعاك الله- كيف أن الصحابي فهم أنه لا بد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقام من فوره، مع شدة الحالة، وعظيم الوقعة.

(قَالَ اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ؛ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ؛ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ؛ فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ؛ فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ).

لاحظ كيف أن الصحابي ترك قتل رئيس الأحزاب يومئذٍ لأجل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم له، مما يدلك على شدة التزامهم للنهي.

قال: (فَرَجَعْتُ، وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ؛ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ؛ فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا؛ فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ؛ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، قَالَ: قُمْ يَا نَوْمَانُ) [متفق عليه]

2- تصديقه فيما أخبر

إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما يتكلم بما أمره الله تعالى به؛ كما قال تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾؛ فيجب تصديقه في كل ما يخبر سواء فهم العقل ذلك أم لهم يفهمه، أدركه العقل أم لم يدركه؛ حار فيه العقل أم لم يحر فيه.

وهذا مثال مشرق لتصديق الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ!؟ قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَاوَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً؛ فَتَبِعَهَا الرَّاعِي؛ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي!؟ قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ، وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي الْقَوْمِ. [رواه البخاري ومسلم]

فتأمل كيف أن الصحابة ما قالوا: كيف؟ ولا: لَـمَ؟ وإنما سبحوا الله تعجباً من قدرة الله تعالى على إنطاق هذه البهائم، ثم انظر كيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يصدقان بهذا الخبر وهما ليسا موجودين، إن في هذا لدليل على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظيم إيمانهما، وتحقيقهما لشهادة أن محمداً رسول الله.

3- تفضيل قوله على قول من سواه من البشر

مما يدل على وجوب تفضيل قوله r أنه عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق؛ فأفضل الخلق يجب أن يكون قوله أفضل القول بعد قول الله تعالى.

ومما يدل على فضله تحقيقه للعبودية، حتى ناداه الله بهذا الوصف فقال تعالى: )فأوحى إلى عبده ما أوحى(، )وأنه لما قام عبد الله(.

وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفَّع» [صحيح مسلم]

ومن الدلالة على تفضيل قوله: أن لا يعبد الله إلا بما شرع؛ فلا تعبد الله بشيء إلا إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عبد الله به، أو أمر به، أو أشار إليه، أو دل أصحابه عليه.

فلا ينبغي لمسلم أن يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أحد كائناً من كان، فلا يقدم قول جماعته وحزبه ولا قول قبيلته ونظامه؛ وبذلك يُعلم أنه مقدم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحدٍ.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس له أن يدعها لقول أحدٍ.

4- التحاكم إليه

المقصود التحاكم إلى شرعه ودينه، ولا يتم ذلك إلا بالتحاكم إلى ما أنزل عليه من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما﴾.

فتحكيمه عليه الصلاة والسلام في كل صغيرة وكبيرة على الأفراد والمجتمعات، الحكام والرعايا، واجب فرض متحتم، لا محيد عنه لمؤمن منقاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

5- اعتقاد ختم النبوة بعده

وقد قام الدليل على أنه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، وليس بعده نبي؛ فضلاً عن أن يكون بعده رسول، قال الله تعالى: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين(.

وقد أخبر r أنه خاتم النبيين؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» [رواه البخاري ومسلم]

ومما يدل على أنه خاتم النبيين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى الناس كافة؛ كما قال تعالى: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا(، وقال r : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» [رواه البخاري]

6- محبته ونصرته:

ومن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله محبته صلى الله عليه وسلم ونصرته وموالاته، وتعظيمه، قال عليه الصلاة والسلام: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ) [متفق عليه]

وأما تعظيمه ونصرته ونصرة دينه فهذا واجب على كل مسلم، كل بحسب قدرته قال الله تعالى: ﴿فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾، وقال تعالى: ﴿ثم جاءكم رسول من عند الله مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه﴾.

ويتم تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور: في الاعتقاد، والعبادات، والمعاملات، في الظاهر والباطن، في السمت والهيئة، في الملبس والمشرب، قال الله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر﴾.

وكلما كان الرجل متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان مبتعداً عن التشبه بالكفار، وعن أمورهم وعاداتهم وزيهم.

ومن السهل ادعاء المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وادعاء اتباعه، ولكن آية ذلك الآية التي تسمى بآية الامتحان، وهي قوله تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾.

فليعرض أحدنا أعمال قلبه وبدنه على دين الله تعالى؛ فحينها يعرف قدر محبته لله تعالى ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا والله نسأل أن يرزقنا نصرة نبيه، وأن يجعل في قلوبنا محبته ومحبة شرعه، وأن يجعل لنا من حوضه نصيباً، وفي شفاعته حظاً، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

كتبه/ د.محمد هشام طاهري


شارك المحتوى: