السُّبُل المُعِينة على ترك الذنوب والخطيئة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فمما يهم المؤمن الفطن معرفةُ السبل المعينة لصلاح النفس وتهذيبها، وقد ألَّف ابن القيم كتابًا نفيسًا في ذلك وهو (الجواب الكافي)، وقد تكلم فيه على أشياء مفيدة للغاية.

وإليك-أيها الموفق- باختصار بعض الأسباب المُعينة على الثبات والاستقامة وصلاح النفس:

 

السبب الأول: الدعاء، وهو أعظم الأسباب بل هو مفتاح كل خير؛ لأن الله يقول: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186] فلنفزع إلى الله بالدعاء، فهو سبب عظيم لاستجلاب الخير ودفع الشر، وهو أسهل وأقوى طريق؛ لأنه سؤال من بيده كل شيء سبحانه وتعالى، فلنجتهد على الدعاء ولا سيما أوقات وأماكن وأحوال استجابة الدعاء.

 

السبب الثاني: الاستعانة بالله، قال سبحانه: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 4] وثبت عند الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استعنت فاستعن بالله»، فلابد أن نستعين بالله، فمن أعانه الله حصل له الخير كله، وكُفي عن كل أحد سوى الله سبحانه وتعالى.

 

السبب الثالث: مجاهدة النفس على ترك المعاصي وعلى فعل الطاعات، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69] فلنجاهد أنفسنا، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴾ [محمد: 17] فإذن لابد من مجاهدة النفس فإن النفس أمَّارة بالسوء، فلذا تحتاج إلى مجاهدة.

وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200] وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43].

وفي الصحيحين عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: «ومن يتصبَّر يُصبِّره الله».

 

السبب الرابع: ترك أسباب الذنوب والطرق المؤدية إلى المعاصي، فإن هناك أسبابًا كثيرة، وهي تختلف من شخص لآخر، فبعض الناس من أعظم أسباب وقوعه في الذنب: تقليب ما في الجوالات (هواتف النقال) من اليوتيوب وغيره، وبعض الناس من أعظم أسباب وقوعه في الذنب: تساهله في الاختلاط مع النساء في العمل الخ…، وكل واحد أدرى بنفسه، والله يقول: ﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14-15].

 

فلابد من ترك الوسائل والأسباب المؤدية للذنوب، كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208] وهذا مهم للغاية فإن الرجوع عن الذنب قبل فعله أسهل بكثير من الرجوع عنه بعد فعله وأثناءه، فلو تأملت كثيرًا من الذنوب الشهوانية والشبهاتية، فإنها ترجع إلى التساهل في ترك الأسباب الموصلة إلى الذنب، ولو أنه أغلق الأمر منذ ابتدائه لكان أسهل عليه.

 

ومن أمثلة أسباب المعاصي الشبهاتية من البدع والإلحاد مجالسة أهل البدع وإرخاء السمع لكل من هبَّ ودبَّ من دعاة الباطل والكفر، فهذا من أعظم أسباب الفتنة والضلال، وقد قال ابن بطة في [الإبانة الكبرى (1 / 390)]: ” اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواما من السنة والجماعة، واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: …. والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته، وسأذكر في هذين الوجهين ما يكون فيه بلاغ لمن قبل النصيحة، وكان بقلبه أدنى حياء إن شاء الله “.

 

السبب الخامس: التفكُّر في نهايات المعاصي؛ فإن لذة المعصية تنسى ولا يبقى إلا وزرها ومغبتها قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص: 218):” ثم لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر: لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك.

آهٍ، كم معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، وأقلها ما لا يبرح من المرارة في الندم! والطريق الأعظم في الحذر أن لا يتعرض لسب فتنة، ولا يقاربه. فمن فهم هذا وبالغ في الاحتراز، كان إلى السلامة أقرب“.

.

وقال ابن الوردي في لاميته:

إِنَّ أَهْنَــــا عِيشَــــةٍ قَضَّــــيْتُهــــا . . . ذَهَبَــــــتْ لَذَّاتُهَــــــــــــــا وَالإِثْـــــمُ حَلَّ

 

السبب السادس: فعل الطاعات، فإن في الإكثار من الحسنات فوائد منها: أنه يُكفِّر السيئات، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114] ومنها أن الحسنة تدعو أختها، كما قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5-7] قال عروة بن الزبير وغيره من السلف: “الحسنة تدعو أختها“.

ولا يحقرنَّ أحدٌ حسنة يفعلها، قال ابن حجر في كتابه [فتح الباري (11/ 321)]: “فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه ولا في قليل من الشر أن يجتنبه؛ فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها“.

 

السبب السابع: محاسبة النفس، فإن النفوس تحتاج إلى محاسبة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18] وذلك أن من أسباب المعصية الغفلة، قال عز وجل: ﴿ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205] وقال: ﴿ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28] فالمحاسبة سبب عظيم لترك الغفلة.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في [مجموع الفتاوى (10 / 426)]: ” ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته.“.

 

وقال ابن القيم في كتابه [مدارج السالكين (2 / 477)]: ” محاسبة النفس، حتى تعرف ما لها وما عليها. ولا يدعها تسترسل في الحقوق استرسالا، فيضيعها ويهملها.

وأيضا فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها. فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها.

قال الحسن رضي الله عنه: إن المؤمن – والله – لا تراه إلا قائما على نفسه: ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة؟ ما أردت بمدخل كذا ومخرج كذا؟ ما أردت بهذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا. ونحو هذا من الكلام. فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها “.

 

السبب الثامن: مجالسة الصالحين وأهل الخير، فإن الإنسان يتأثَّر بأصحابه، وكما قيل: “الصاحب ساحب”. وقد قال سبحانه للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الكهف: 28] وبعض الناس يظن أن الكلام على جلساء السوء خاص بالمراهقين والشباب الصغار وبأمثالهم، وهذ خطأ، بل هو لكل واحد منا حتى الممات، فلابد من مجالسة الصالحين؛ فإن الإنسان قوي بإخوانه ضعيف بنفسه قال سبحانه: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] ومن فوائدها التشجيع على فعل الطاعات.

 

السبب التاسع: تذكُّر الموت، فإن تذكر الموت مفيد في احتقار الدنيا وعدم التعلق بها، والتنافس عليها قال سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10] وقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].

وقال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]

ومما يفيد في تذكر الموت: زيارة المقابر، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فزوروا القبور فإنها تُذكر الموت».

 

والسبب العاشر: الفزع إلى التوبة؛ فإن كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم».

 

لا سيما والشيطان يُجلب على الإنسان بخيله ورجله ثم نفسه الأمارة بالسوء تدعوه إلى السوء، ثم الدنيا بفتنتها تصده عن الخير وتجعله غافلًا، وأحيانًا الأولاد والزوجة، إلى غير ذلك، فالواجب اجتناب المعاصي والطرق المؤدية إليها، ثم إذا وقعنا في المعصية أن نفزع إلى التوبة، ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

 

فمن رحمة الله العظيمة أن فتح باب التوبة ليسهل لمن زلَّ وعصى أن يرجع ويؤوب ولله يتوب، وينبغي ألا نجعل وقوعنا في المعاصي سببًا لليأس والقنوط، فإن الشيطان يأتي للمتعبدين من هذا الباب، فيؤيسهم حتى ييأسوا من روح الله، قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

 

أسأل الله أن يثبتنا وأن يهدينا وأن يصلحنا وأن يزيدنا وأن يحسن لنا الخاتمة، وأن يجمعنا ووالدينا وأحبابنا في الفردوس الأعلى.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

د. عبدالعزيز بن ريس الريس

المشرف على موقع الإسلام العتيق

Islamancient.com

28 / 10 / 1441هـ


Tags: ,

شارك المحتوى: