الخليفة الثاني – من سيرة الفاروق


الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أنشأ وبرا وخلق الماء والثرى لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى ، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى ، وأصلي على نبيه محمد المبعوث في أم القرى ، صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرا وعلى عمر الملهم في رأيه فهو بنور الله يرى ، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثا يفترى ، وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الشرى وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم في الورى وسلم تسليما .

أما بعد (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

معاشر المسلمين، نعيش اليوم في مدينة ابي القاسم صلوات الله وسلامه عليه، نستنير بسير بناتها الأوائل ، ونهتدي بهداهم، ونستلهم موارد عزهم ومجدهم، من خلال سيرة رفيعة جليلة وتاريخ مشرق مجيد.

مع سيرة من اختارهم ربنا جل في علاه ليكونوا جندا

وصحبا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإن في ذلك حفظا لمقامهم ، وهو حق واجب مؤكد على كل مسلم ومسلمة ، إذ أن محبتهم دين وإيمان وبغضهم كفر ونفاق، فمن سبهم أو طعن فيهم أو قدح في إيمانهم أو عدالتهم فهو خبيث العقيدة قبيح السريرة عدو لله ولرسوله وللإسلام واهله ولا سيما الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر وابنتيهما زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والأخرة

فاحذروا من يطعن فيهم أشد الحذر بأي لباس تزيا ، مفكرا أو مثقفا أو باطنيا ، وأخطره وأشده خبثا من تسمى باسم أهل السنة وهو يقدح فيهم او يرضى الطعن فيهم أو يرى أن ذلك من حرية الرأي ، فما كان هؤلاء ليبغضوهم ويحبونكم ، وما كانوا ليعادوهم ويوالونكم ما دمتم تتولون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

فالزموا محبة أصحاب نبيكم صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم فإن المرء مع من أحب يوم القيامة وإن لم يعمل بمثل عمله. كما في حديث انس.

عباد الله: سبق لنا الحديث عن الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق ، واليوم في ومضة برق مع خليفته أبي حفص الفاروق عمر بن الخطاب

يا راشدًا هَزَّتْ الأجيالَ سيرَتُهُ      وبالميامين حصرًا تشْمَخُ السِيَرُ

لك السوابقُ لا يحظى بها أحدٌ          ولمْ يَحُز مثلها جنُّ ولا بشرُ

عن ماذا أتكلم؟!

أأتكلم عن إيمانه الصلب ، أم عن شجاعته وبطولته، أم أروي لكم قصص زهده وفقره وخشوعه، أم أطوف بكم في حدائق بيانه وحكمته؟!أم أبهر أسماعكم بقوته في الحق وصدعه به ؟!

رجل مبارك عظيم، صنع منه الإسلام أعجوبة نادرة، فما

عرف التاريخ مثله، وما أنجبت النساء نظيره، تخرج من مدرسة محمد  الذي رباه برعايته وفجر طاقاته ، يقول : ((إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون ـ أي: مُلهمون ـ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)).

عمر وما أدراك ما عمر ؟! الأسد الذي قلبَ إمبراطوريةَ هرقل وكسرى، وجعل عاليهَا أسفلهَا، وغنمَ أموالَها، وهو لا يجدُ خبزَ الشعيرِ لِيأَكله ، فعلام يتكبر المترفون .

نقرأ سيرة عمر لنهتدي بهديه ، نقرأ سيرة عمر لحياتنا نحن لا لغيرنا ، عبرة وقدوة ، لترق به قلوبنا وتستقيم به حالنا ، فليست سيرة عمر سوطا يجلد به غيرنا لننفث به نكد صدورنا على حكامنا ، ولا لنثير رعاعا على راعيها كما هو صنيع غالب من يتكلم عنه ، سيرة عمر للغافل ليستفيق وللاهي ليتدارك حاله ، وللعابد ليستقل عمله ، وللمربي كيف يسوس نشأه ، وللمسؤول بأي رتبة كان ليعرف عظم الأمانة عليه .

فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه    أو من يحاولُ للفاروقِ تشبيـهًا

قرشي من بني عدي، كان قبل الإسلام بدويًا جلفًا شرسَ الأخلاق، شديد الوطأة على المسلمين، شديد الحنق على رسول الله  ودعوته، حتى نفر الناس منه ويئسوا من إسلامه، فقال القائل: والله، لا يسلم عمر حتى يسلمَ حمارُ الخطاب.

ولد  بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وتوفي وله ثلاث وستون سنة في مثل عمر النبي  وأبي بكر.

وكان عمر  طويلاً جسيماً أصلع أسمر، وكان لفرط طوله يركب الدابة فيرفع رجليه عن الأرض لئلا تمس رجلاه الأرض وهو راكب ولذا كان يقال له: (الراجل الراكب).

وكان يجيد الكتابة بكلتا يديه، وكان في الجاهلية سفير

قريش لدى القبائل إذا وقع بينهم حرب أو مفاخرة.

اسلم عمر فكان اسلامه فتحا وعزا للإسلام واهله استجابة من الله لدعاء نبيه حين قال (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بابي جهل أو بعمر بن الخطاب) رواه الترمذي وصححه الألباني . وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه : قال : «ما زلنا أَعِزَّة منذ أسلم عمر». أخرجه البخاري ، وهاجر فكانت هجرته نصرا .

كان نقش خاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر).

له من من الفضائل الكثير : رضي الله عنه ومن ذلكم أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ففي الحديث: «بينا أنا نائم رأَيتُني في الجنة ، فإِذا امرأة تتوضأ إِلى جانب قصر ، فقلتُ : لمن هذا القصر؟ قالوا : لعمر ، فذكرتُ غيرَتَه ، فوّليتُ مُدْبِرا ،  قال أبو هريرة : فبكى عمر ونحن جميعا في ذلك المجلس مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم قال عمر : بأبي أنت يا رسولَ الله ، أعليكَ أغَارُ ؟». أخرجه البخاري ومسلم.

وشهد له صلى الله عليه وسلم بالعلم فعن عبد الله بن عمر  رضي الله عنهما : قال : سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : «بينا أنا نائم أُتيتُ بقَدَح لبن ، فشربتُ منه ، حتى إِني لأَرى الرِّيَّ يخرج من أَظفاري، ثم أَعْطَيْتُ فَضْلي عمرَ بنَ الخطاب، قال مَنْ حولَه: فما أوَّلتَ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: العِلْمُ». أخرجه البخاري، ومسلم

وشهد له بالدين والإيمان فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :قال : سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (بينا أنا نائم رأيتُ الناس يُعْرَضون وعليهم قُمُص ، فمنها ما يبلغ الثَّدْيَ ، ومنها ما يَبْلُغُ دون ذلك ، وعُرِضَ عليَّ ابنُ الخطاب، وعليه قميص يجترُّه، قالوا : فما أوَّلته يا رسولَ الله ؟ قال : الدِّين) أخرجه البخاري، ومسلم.

وشهد له بالشهادة في سبيل الله وذلك لما صَعِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ

وَشَهِيدَانِ . رواه البخاري.

ومما امتن الله به عليه  إصابته للحق وموافقته ربه في كثير من المسائل التي يتفاوت فيها اجتهاد الصحابة يقول -صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّ الله تعالى جَعَلَ الحقَّ على لسانِ عمرَ وقلبِهِ» ، وقال ابن عمر : «ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه ، وقال فيه عمر إِلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر». أخرجه الترمذي.

فوافق ربه في حجاب النساء واتخاذ مقام إبراهيم مصلى وقتل أسرى بدر وغير ذلك.

ومما اختصه الله به خوف الشيطان منه حتى إنه لا

يسلك طريقا فيه عمر كما في الصحيحين .

وارى الله نبيه في المنام ورؤياه وحي ما سيؤول إليه حال الإسلام وأهله في خلافة عمر من العز والرفعة والسؤدد بطول مدت خلافته وفتح البلاد واتساع رقعة الدولة في وقته .

فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «بينما أنا نائم رأيتُ أني على حَوضي أسقي الناس، فأتاني أبو بكر فأخذ الدَّلْوَ من يدي ليُرِيحَني ، فنزع ذَنوبَيْنِ ، وفي نزعه ضَعْف ، واللهُ يغفر له ، فأتى ابنُ الخطاب، فأخذه منه ، فلم يزل ينزع حتى تولَّى الناسُ والحوضُ يتَفَجَّر». رواه البخاري ومسلم .

عباد الله :عرَف عمر ربَّه، وعرف قدرَ نفسه، فتواضع لله، فرفَع الله ذكرَه وأعلى شأنه، حمل قربةً على عنقه فقيل له في ذلك فقال: إنّ نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلَّها.

وأما طعامه وشرابه فقد كان شيئًا عجيبًا، فلقد نفرت

النفوس من رداءة طعامه وغِلظته، ولما قيل له في ذلك قال: والذي نفسي بيده، لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، لكني أستبقي طيباتي، لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ

فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا .

وقال مرة: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنّا ندعه ليومٍ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا

إخوة الإسلام: كان عمر رضي الله عنه مع عظمته العابدَ القانت والإمام البكاء. قال عبد الله بن عيسى: “كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء”. وكان يمر بالآية وهو يقرأ فتخنقه العبرة، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد، يحسبونه مريضا.

ومرة زار أبا الدرداء فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثا

حدثناه رسول الله ؟ قال: أي حديث؟ قال:(ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، قال: نعم، قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.  عباد الله :فأي دنيا انفتحت على عمر وقد كان يربط بطنه من الجوع وقد ضرب سلطانه المشرق والمغرب ، فما حالنا وحاله !

وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر بن الخطاب أخد تِبنة من الأرض فقال: ليتني كنتُ هذه التّبنة، ليتني لم أُخلق، ليت أمّي لم تلِدني، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نِسيا منسيًّا.

قال الحسن: كان عمر يمرّ بالآية من ورده فيسقطُ حتى يعاد منها أيامًا.

بعد آخر حجة وصل عمر إلى المدينة ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث فعبروا له الرؤيا فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس: إن كان ضيع أحداً أو ظلم أحداً أو سفك دم أحد فهذا جسمه فليقتص منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء.

صلى عمر الفجر في أحد الأيام، وفي أثناء الصلاة أتاه أبو لؤلؤة المجوسي فطعنه وطعن معه ثلاثة عشر رجلا .

قال عثمان بن عفان: أنا آخركم عهدا بعمَر، دخلتُ عليه ورأسُه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟! فقال عمر: ضع خدّي بالأرض لا أمّ لك، وسمعتُه يقول: ويلي وويلَ أمّي إن لم تغفِر لي حتى فاضَت نفسه.

بارك الله ولكم في الوحيين أقول ما سمعتم واستغفر الله

 

 

 

الخطبة الثانية :

حمدا لله على آلائه ، وصلاة وسلاما على أفضل أنبيائه وعلى آله وصحبه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد

عباد الله: هذا عمر  يجب أن نعرفه ونعرف سيرته نحن المسلمون، ولا يكفي لسيرته مسلسل تمثيلي خبيث ، القائمون به حثالة والمفتون به أهل التميع والرذالة .

وإذا كنا نتطلَّع لسيرة عمر فإننا نتمنى إقامة دينه وزهده وأخلاقه في أنفسنا، فليست أمثالًا يُتَغنى بها أو سِيرًا يُتربَّحُ من خلالها.

ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ

وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .

اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد ما زهرت النجوم وتلاحمت الغيوم.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا, مُطْمَئِنًا, رَخَاءً, سخَاءً, وسَائِرَ بلَادِ المُسْلِمِينَ ، اللهم أيد بالحق إمامنا ووليّ أمرنا، وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة برحمتك يا ارحم الراحمين .

اللهم كن لإخواننا المرابطين على ثغور بلاد الحرمين

اللهم عجل نصرهم واكبت عدوهم  بقوتك يا قوي يا عزيز

لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وجابر المنكسرين، وراحم

المستضعفين ، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه ، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين اللهمَ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا،

اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .


شارك المحتوى:
0