الحسد


الحسد

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، وبعد..
فهذه كلمات في “الحســد”؛ ذلك المرض القلبي الخطير، الذي إذا استقر في القلوب أنهكها، وإذا سرى في المجتمعات فرقها، وكان من ناتجه تشتت الجهود، وفشل المساعي.
وكم حريٌّ بالمرء أن يتفقد أحواله بين الحين والآخر، ويصونها من هذاء الداء الخطير أن يسري إليها دون تيقظ وانتباه.
قال بعض الأدباء: “الحسد داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض وأمر متعذر، وما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء”(1).
وقال بعض الناس لجلسائه:” أي الناس أقل غفلة؟
فقال بعضهم: صاحب ليل، إنما همه أن يصبح. فقال: إنه لكذا وليس كذا.
وقال بعضهم: المسافر، إنما همه أن يقطع سفره. فقال: إنه لكذا وليس كذا.
فقالوا له: فأخبرنا بأقل الناس غفلة. فقال: الحاسد، إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها، فلا يغفـل أبداً”.
ويروى عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس.
وما أتي المحسود من حاسده إلا من قِبَل فضل الله عنده ونعمه عليه، قال الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}(2).
والحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان؛ فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}(3).
منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر.
ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه، إلا استصغاره نعمة الله عليه، وسخطه على سيده بما أفاد غيره، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وأن لا يرزق أحداً سواه، لكان عند ذوي العقول مرحوماً، وكان لديهم في القياس مظلوماً، وقد قال بعض الأعراب: “ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم”.
والحاسد مخذول وموزور، والمحسود محبوب ومنصور، والحاسد مغموم ومهجور، والمحسود مغشي ومزور.
والحسد -رحمك الله- أول خطيئة ظهرت في السموات، وأول معصية حدثت في الأرض، خص به أفضل الملائكة فعصى ربه، وقايسه في خلقه، واستكبر عليه فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(4)، فلعنه وجعله إبليساً، وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً، وشوه خلقه تشويهاً، وموه على نبيه تمويهاً نسي به عزم ربه، فواقع الخطيئة، فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى، ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقي وغوى.
وأما في الأرض فابنا آدم حيث قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه، وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين.
لقد حمله الحسد على غاية القسوة، وبلغ به أقصى حدود العقوق، فأنساه من رحمه جميع الحقوق، إذ ألقى الحجر عليه شادخاً وأصبح عليه نادماً صارخاً.
ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول: جمعه حراماً ومنعه أثاماً، وألب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر، وقال له: لقد كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمك، فليس أمثالهم يوصَلون، فإنهم لا يشكُرون.
وإن وجد له خصماً أعانه عليه ظلماً، وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه، أو تفضل عليه بمعروف كفره، أو دعاه إلى نصر خذله، وإن حضر مدحه ذمه، وإن سئل عنه همزه، وإن كانت عنده شهادة كتمها، وإن كانت منه إليه زلة عظمها، وقال: إنه يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود.
وإن كان المحسود عالماً قال: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل ومبتغي نيل، لا يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل، قد أقبل بوجوه الناس إليه، وما أحمقهم إذ انثالوا عليه، فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته، وأقل رعته، وأسوأ طعمته.
وإن كان المحسود ذا دين قال: متصنع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى بشيء عليه، ويصوم لتقبل شهادته، ويظهر النسك ليودع المال بيته، ويقرأ في المسجد ليزوجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته.
وما لقيتَ حاسداً قط إلا تبين لك مكنونه؛ بتغير لونه وتخوص عينه، وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك.
وكان عبد الله بن أبي، قبل نفاقه، نسيج وحده، لجودة رأيه وبُعدِ همته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسيادة، وإذعانهم له بالرياسة، وما استوجب ذلك إلا بعدما استجمع له لبه، وتبين لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلاً، لما أطاق له حملاً.
فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، ورأى هو عز رسول الله -صلى الله عليه وسلم، شمخ بأنفه، فهدم إسلامه لحسده، وأظهر نفاقه، وما صار منافقاً حتى كان حسوداً، ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً، فحمق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوأ النار بعد الجنة.
ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار، فقالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنا كنا عقدنا له الخزر قبل قدومك لنتوجه.
ولو سلم المخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان، ومن السؤدد في ارتفاع، فوضعه الله لحسده، وأظهر نفاقه.
وما خالط الحسد قلباً إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تسجينه وكتمانه، حتى يتمرد عليه بظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستميله، ويستنطقه لظهوره عليه فهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته ومن الآسر على أسيره.
والحاسد لا يغفل عن فرصته إلى أن يأتي الموت على رمته، وكيف يصبر من استكن الحسد في قلبه على أمانيه، ولقد كان إخوة يوسف حلماء، وأجلة علماء، ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد ليوسف، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان المغلظة، إنهم له لحافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم، فخالفوا العهود ووثبوا عليه بالظلم والقوة، وألقوه في غيابة الجب، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم، طمعاً أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسليه، وحبه لهم من بعد غمه يلهيه، فأسالوا عبرته وأحرقوا قلبه.
وكيف لا تقر أعين المحسودين بعد يوسف وقد ملكه الله خزائن الأرض، بصبره على أذى حساده ومقابلته إياهم بالعفو والمكافأة، وحسن العشرة والمواخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه ممتارين، ووفدوا عليه خائفين وهم له منكرون، فأحسن رفدهم، وأكرم قراهم، فأقروا له لما عرفوه بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجداً لما وردوا عليه وفداً.
فإذا أحسست -رحمك الله- من صديقك بالحسد فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شره وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه، فإن ذلك من حبائل نفاقه.
فلا تكن عن حاسدك غبياً، وعن وهمك بما في ضميره نسياً، إلا أن تكون للذل محتملاً، وعلى الدناءة مشتملاً، ولأخلاق الكرام مجانباً، وعن محمود شيمهم ذاهباً، أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفاً، وقد قيل: “الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها”.
وربما كان الحسود للمصطنع إليه المعروف أكفر له وأشد احتقاداً، وأكثر تصغيراً له من أعدائه.
ومتى رأيت حاسداً يصوب إليك رأياً إن كنت مصيباً، أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئاً، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك، أو قصر من غيبته لك، فهو الكلب الكلب، والنمر النمر، والسم القشب، والفحل القطم، والسيل العرم، إن ملك قتل وسبى، وعصى وبغى، حياتك موته، وموتك عرسه وسروره، يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي، لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك، عدوك بطانة وصديقك علانية.
وقلتَ: إنك ربما غلطت في أمره لما يظهر لك من بره.
ولو كنت تعرف الجليل من الرأي، والدقيق من المعنى، وكنت في مذاهبك فطناً نقاباً، ولم تك في عيب من ظهر لك عيبه مرتاباً، لاستغنيت بالرمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسر عن الجهر، وبالخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل.
وإن رفعت القذى عن لحيته، وسويت عليه ثوبه فوق مركبه، وقبلت صبيه بحضرته، ولبست له ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزلة، واستحسنت كل ما يقبح من جهته، وصدقته على كذبه، وأعنته على فجرته، فلن يستقيم لك أمره.
فما هذا العناء؟! كأنك لم تقرأ المعوذة، ولم تسمع مخاطبة الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد.
أتطلب ويحك أثراً بعد عين، أو عطراً بعد عروس، أو تريد أن تجتني عنباً من شوك، أو تلتمس حلب لبن من حائل ، إنك إذاً أعيا من باقل، وأحمق من الضبع، وأغفل من هرم.
إن كنت تجهل ذلك، فأنت كمن أضله الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؛ فنعوذ بالله من الخذلان.
إنه لا يأتيك ولكن يناديك ولا يحاكيك ولكن يوازيك، أحسن ما تكون عنده حالاً أقل ما تكون مالاً، وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون ضلالاً، وأفرح ما يكون بك ، أقرب ما تكون بالمصيبة عهداً، وأبعد ما تكون من الناس حمداً.
فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزمنى، أهون من معاشرته، والاتصال بحبله.
والغل نتيج الحسد، وهو رضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، كما أنه ليس فرع إلا له أصل، ولا مولود إلا له مولد، ولا نبات إلا من أرض، ولا رضيع إلا من مرضع، وإن تغير اسمه؛ فإنه صفة من صفاته، ونبت من نباته، ونعت من نعوته.
ورأيت الله جل جلاله ذكر الجنة في كتابه فحلاها بأحسن حلية، وزينها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحل أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ، فذكر في كتابه ما منّ به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوأها لهم فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}(5).
فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغل والحسد من قلوبهم، فتهنوا بالجنة، وقابلوا إخوانهم على السرر، وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه لسلامة صدورهم، ونزع الغل من قلوبهم، ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه من قلوبهم، لافتقدوا لذاذة الجنة، وتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة، ولمسهم فيها النصب، وأعقبوا منها الخروج، لأنه عز وجل فضل بينهم في المنازل، ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات، وسنى العطيات.
فلما نزع الغل والحسد من قلوبهم ظن أدناهم منزلة فيها، وأقربهم بدخول الجنة عهداً، أنه أفضلهم منزلة، وأكرمهم درجة، وأوسعهم داراً بسلامة قلبه، ونزع الغل من صدره، فقرت عينه وطاب أكله؛ ولو كان غير ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون، والاهتمام بالقلوب، ولحدثت العيوب والذنوب.
وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في صرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته.
فإذا فعلت ذلك فكل هنياً مرياً، ونم رضياً، وعش في السرور ملياً.
ونحن نسأل الله الجليل أن يصفي كدر قلوبنا، ويجنبنا دناءة الأخلاق، ويرزقنا حسن الألفة والاتفاق، وأن يحسن توفيقنا”.
18 ذو القعدة 1427هـ – 8/12/2006م.

(1) رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم: 2888.
(2) سورة النساء، الآية:54.
(3) سورة البقرة، الآية: 109.
(4) سورة الأعراف، الآية:12.
(5) سورة الحجر، الآيات 45-48.

شارك المحتوى: