بسم الله الرحمن الرحيم
” التبليغ عن المبتدع بين واجب الديانة ووظيفة السلطان”
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد..
الشريعة ذات عمق مقاصدي، فلم تأمر بإقامة الجماعة وتنظيم شؤون الدولة لتكون مجرّد جهاز ضبطٍ إداري، بل لتكون سياجًا يحوط الدين ويحرس جماعة المسلمين من غوائل الانحراف والاضطراب، ومن ثَمَّ كان التعاون بين العالم والسلطان في حفظ الدين أصلًا من أصول السياسة الشرعية، لا عارضًا من عوارض النصح.
وقد تكلم بعض الناس في وسائل التواصل الاجتماعي في هذه القضية بكلام ممجوج، فرأيت من الواجب بيان هذه المسألة لئلا يفتتن بها الشباب، وقد جعلت الكلام على نقاط:
- أولا: أصل الرفع إلى السلطان في الأمور العلمية والمنهجية موجود من عهد النبي gوالصحابة j
وإليك بعض الشواهد:
فمنها: صنيع عمر بن الخطابh -كما في الصحيح- لما سمع قراءة هشام حكيم تختلف عن قراءته أخذه بتلابيبه حتى أدخله على الرسول g .
ومنها: الإمام الذي كان يقرأ بـ(قل هو الله أحد) في كل ركعة فقد خشي أصحابه أن يكون هذا إحداث في الدين فرفعوا أمره إلى النبيg .
ومنها: لما أتى صبيغ يسأل الناس عن متشابه القران رفعوا أمره الى عمر بن الخطاب h وأخبروه بذلك، حتى ضربه عمرh ونفاه عن المدينة، وأمر الناس أن لا يجالسوه. يقول الراوي: فلقد رأيتُه كالقعود الأجرب ما دخل مجلسا إلا تفرقوا وتركوه لوحده.
ومنها: لما كان حذيفة يحدّث بأحاديث، فخاف سلمان الفارسي أن يكون حديث حذيفة h فيه ضرر على الناس- لأن غالب الناس لا يُنْزِلون الأحاديث منزلتَها- فقال سلمان h له: (والله لتَنْتَهِيّن أو لأَكتبَنّ إلى عمر).! فما بالك بأهل البدع المضللة.!
ومنها: أن معاوية h شكى أبا ذر h الى الخليفة عثمان h بسبب مسألة فقهية. يقول أبو ذرh : كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية h في هذه الآية: ﵟوَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِﵞ [التوبة: 34] وقال معاوية h: نزلت في أهل الكتاب، قال: فقلت: نزلت فينا وفيهم. قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام. فكتب يشكوني إلى عثمان h، قال: فكتب إلى عثمان h أن أقدم المدينة، فقدمت المدينة وكثر الناس عليّ كأنهم لم يروني قبل ذلك. قال فَذُكر ذلك لعثمان h فقال لي: (إن شئت تنحيت فكنت قريبا) فذاك أنزلني هذا المنزل، ولو أُمّر عليّ حبشيٌّ لسمعتُ ولأطعتُ).
ومنها: أن أبا الدرداء h شكا معاوية h إلى عمر h في مسألة فقهية في الربا، فكتب عمر h إلى معاوية ينهاه عن ذلك ومثلها عن عبادة h وهي أشهر.
ومنها: ما هو أقل من ذلك كله: وهو أن يُذكر صاحب بدعة أو نفاق فتجدُ بعضَهم ساكت لا يتكلم فيه، فهذه كانت قرينة عند السلف. ومن ذلك: ما حدث مع كعب بن عجرة h حين تكلم رجل في رأس المنافقين (عبد الله ابن أبي)، وكان كعب بن عجرة h ساكت -وكان بينه وبين (عبد الله ابن ابي) قرابة-، فخرج الرجل الى عمر h وأخبره بأن كعب بن عجرة h ساكت، ولم يطعن في رأس المنافقين؟! فاستدعاه عمر، وقال: ذُكر عندك (عبد الله ابن أبي) فلم يكن منك شي. قال: يا أمير المؤمنين إن الرجل إنما أراد إهانتي والإساءة لي فقال عمرh: (وددت لو ضربت أنفه). فكان السلف يتعاونون مع السلطة فيبلغونهم ويخبرونهم حتى فيما يشكون فيه، حتى في أدق الأشياء حماية لأديان الناس وعقائدهم.
ثانيا: بين المبتدع الداعية والمبتدع غير الداعية.
فرّق السلف ـ بعينٍ فاحصة ـ بين من وقع في بدعةٍ دون أن يدعو إليها، وبين من جعلها رايةً يلوّح بها وسبيلًا يسلكه الناس من بعده، فالأول يَكفَى في أمرِه النصحُ والبيان، إذ لم يجاوز ضرُرُه نفسَه، وهذا ما ورد فيه قول الإمام أحمد: (لهم والدات وأخوات) فإنما ذكروا له (مبتدعة) فقط، ويظهر أنّهم من عوام المبتدعة، لا شأن لهم بعلم ولا دعوة ولا تنظير، فإنه يقول فيه: (يتعرضون ويكفرون) وهذا شأن السفهاء من عوام المبتدعة.
وأما قصة سفيان بن عيينة فلا ذِكْرَ لمبتدع فيها أصلا، وإنما فيها: أن رجلا حُبس بسبب سفيان، ولعله بسبب خصومة أو سب وشتم أو غير ذلك. فقال له الفضيل: تحبس رجلاً لعل السجن يقع عليه فيموت، قم فأَخْرِجْه. فأَخْرَجَه سفيان. وهذا دليل على أنها بسبب أمر شخصي، فتنازل عن حقه. ويُخْطِئُ بَعْضُهم: يظن أن سفيان هو الذي أنكر حبسه، وهو الذي قال للفضيل: قم فأَخْرِجْه.! لا. بل العكس.
وقريب من هذا ما حدث للإمام أحمد مع رجل يقال له (شمخصة) قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن صالحا ابنك يريد أن يدخل هو وأبو يوسف إلى السلطان، فيخبروه بقصة شمخصة، أنه شتمك وقد أشهدوا عليه – وكان قد شهد عليه أبو بكر بن حماد المقرئ – فقال أبو عبد الله: «قل لهم لا تعرضوا له، وأنكر أن يذهبوا إلى السلطان»
وقد حصل ذلك لسفيان الثوري، قال أحمد بن يونس: صليت عند المقام عشاء الآخرة، وسفيان الثوري عند المقام، فجاءت امرأة، فوقفت عليه، فقالت: يا سفيان، بأي شيء تستحل أن يحبس ابني بسببك؟ -وكان ابنها من أصحاب الحديث-، قال أحمد بن يونس: فرأيت سفيان قد قام إلى المقام، فإذا الوالي بين يديه، فقال: لِـمَ تحبس رجلا بسببي؟ قال: فقال له الأمير: أو قال الوالي -شك المروزي-: هذا الليل، وباب السجن مغلق، قال سفيان: (لا أبرح من هذا الموضع حتى تخرجه، فقام فأخرَجه).
وقد كان كثير من العلماء يتنازلون عن حقوقهم الشخصية ولا ينتصرون لأنفسهم، حتى لو كان الخصم مخالفا لهم في المنهج اذا كان أصل الشكوى شخصي.
ومثله: ما حدث للإمام أحمد مع ابن الثلجي، فإن المتوكل لما أخذ الخلافة قالوا للإمام أحمد هذا ابن الثلجي يذكرك اي (طعنا وسبا) فأذن لنا نكتب للخليفة فقال الإمام أحمد: لا.
فإن قال قائل: طيب لماذا لم يكتب الإمام احمد للسلطان عن (ابن الثلجي) لأجل بدعته ودعوته؟
الجواب: المتوكل وإن كان صاحب سنة في المجمل، لكن لا تظن أنه على التمام في كل شيء، وخاصة فيما يتعلق بحبس المخالف فضلا عن قتله، فهذا ابن أبي دؤاد رأس الفتنة، لم يحبسه فضلا عن قتله، بل نَصّب ابنه قاضيا ويقول الذهبي: (وكان في المتوكل نصب نسأل اللّٰه العفو)! فالإمام أحمد يعلم أنه يوجد أمورٌ لا يمكن الإحاطة بها على التمام من كل وجه، وانما أرادوا أن يشكوه الى السلطان لأمر شخصي.
وكل ما ورد عن الإمام أحمد أو غيره في عدم الرفع للسلطان فإنما هو في أصحاب المعاصي والمنكرات الذي لا يتعدى ضررها أو في أهل البدع غير الدعاة.
فقد جاء في كشاف القناع: (ونص أحمد في المبتدع الداعية يحبس حتى يكف عنها، ومن عرف بأذى الناس وأذى مالهم حتى بعينه ولم يكف عن ذلك حبس حتى يموت أو يتوب).!
ثالثا: تبليغ السلطان عن المبتدع الداعية من باب إزالة الضرر، وشواهده من فعل السلف:
وهذي قاعدة مطردة أن (الضرر يزال)، أما أني أثْبِت ضرر المبتدع على عقائد الناس ودينهم، ثم أقول: إن عاقبه السلطان بمنع أو حبس -بما يستحقه- فهذا حق ودين، ولكن: أنت لا تبلغ السلطان -كما قاله بعض المعاصرين- فهذا من أعظم التناقض! أن يكون فعل السلطان حق وإعانتي على هذا الحق باطل.!!
وأما من يقول: بل منع السلطان له من الأصل باطل فهذا لا نقاش معه.!!
فالداعية والمنظّر من أهل البدع: فهو رأس فتنةٍ، ومفتاح شرٍّ، تتسرّب من خلاله سموم الأفكار إلى العامة، وتُلبّس على الجهال أمر دينهم، فصار ضرره عامًا، لا يندفع إلا بردع السلطان.
- وقد تعدد الشواهد من أحوال السلف على تبليغهم السلطان عن الدعاة من أهل البدع لإزالة ضررهم على الناس:
فمنها: عن عبد الله بن نافع الصايغ قال: قال مالك بن أنس: ويلك يا عبد الله، من سألك عن هذه المسألة؟ قلت: رجلان ما أعرفهما. قال: اطلبهما فجئني بهما أو بأحدهما حتى أركب إلى الأمير فآمره بقتلهما أو حبسهما أو نفيهما.
ومنها: فعل سفيان بن عيينة لما قال الناس له: قدم بشر المريسي. قال: ما يقول؟ قالوا: يقول: القرآن مخلوق. قال: جيئوني بشاهدين حتى آمر الوالي بضرب عنقه).
ومنها: قال عبد الله بن أحمد: سَأَلت أبي عَن رجل ابتدع بِدعَة يَدْعُو اليها وَله دعاة عَلَيْهَا هَل ترى ان يحبس؟ قَالَ: (نعم أرى أن يحبس وتكف بدعته عَن الْمُسلمين).
فكانوا رحمهم الله أعقل من هؤلاء -المعاصرين- فكانوا يتعاونون مع أُمرائِهم لإزالة الضرر على دين الناس ودنياهم، ومن أعظم ذلك: إماتة البدع وما يضر الناس في دينهم، ويبلّغُون الولاة عن هؤلاء المبتدعة.
- بل كانوا يستعدون السلطان فما هو أقل من البدع وله شواهد:
منها: فعن ابن هانئ: قلت لأحمد: إن بعض الصيادين يصطادون بالفأر والضفادع؟ قال: ويفعلون هذا!؟ مرهم وانههم. قيل له: فإن لم يقبلوا مني هل أستعدي عليهم السلطان؟ قال: إن قدرت فاستعدِ عليهم، لعلهم ينتهون). فإذا كان في فأر وضفدع يستعدى بالسلطان ويشكون عنده فكيف بمن يلبس على الناس دينهم وربما أدخلهم في الكفر وخاصة العامة الذين لا يميزون.
ومنها: استعداؤهم السلطان في عدم إتقان الرجل للحديث. قال الشافعي: كان شعبة يجئ إلى الرجل، يعنى الذي ليس أهلاً للحديث، فيقول: (لا تحدث وإلا استعديت عليك السلطان).
قال حماد بن زيد: (رأيت شعبة قد لبب أبان بن أبى عياش: يقول: استعدي عليك إلى السلطان). وأبان متروك الحديث وكان صالحا عابدا.
ومرةً ذهب شعبة الى السلطان ليمنع (جعفر بن الزبير) من التحديث. حتى أصبحت سمة بارزة لشعبة يمدح بها ويقيسون عليها. يقول هشيمُ بنُ بَشير: لو كَانَ شُعْبة حيّاً استعدى عَلى إبراهيمِ بنِ هُدْبة لأنه يروي مناكير). فتأمل مجرد مناكير يستعدي عليه السلطان.
ومنها: استعداؤهم السلطان فيمن يتلكم في العلماء ويبغضهم: فقد كان الرجل المبتدع يُعرف ببغضه لأحمد بن حنبل والطعن فيه فكان من تكلم فيه شكوه الى السلطان يقول ابن أبي حاتم: كان الحسن بن الصباح البزار إذا بلغه أن إنسانا ذكر أحمد بن حنبل جمع المشايخ وأتاه وقال: أستعدي عليه). استعدي عليه أي يبلغون السلطان أو الشرط.
فاذا كان مجرد الكلام في عالم يستعدى بالسلطان فكيف بمن لبّس على الناس دينهم؟!
ومنها: استعداؤهم السلطان على رجل يروي حديثاً واحدً منكرا. كحديث (سَنّ النبي g الاستنشاق والمضمضة للجنب) لما حدث به محمد بن بركة قام الشيخ أبو عبد الرحمن الحلبي فكلّم السلطان حتى منعه السلطان من التحديث.
ومنها: استعداؤهم السلطان فيمن يقرأ بالقراءات الشاذة، فكانوا يرفعون أمرهم إلى السلطان ليمنعوهم من الإقراء كما حدث “لابن مقسم” وكان من القراء الكبار والنحويين البارزين رفع العلماء أمره إلى السلطان يقول الخطيب البغدادي: (فأحضرهُ السلطان واستتابه بحضرة القُرَّاء والفُقهاء فأذعنِ بالتوبة، وكُتِبَ محضرٌ بتوبته، وأثبت جماعة من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه).
ومنها: استعداؤهم السلطان لمن يتصدر للفتوى وليس بأهل أو أن تَصُدَّره يَضُرُّ الناسَ، فقد كان بعض الفقهاء القضاة إذا وجد من يفتي خلاف قوله كتب الى السلطان عنه حتى لا يلبس على العامة، كما فعل ابن ابي ليلى مع أبي حنيفة فمنع السلطان ابا حنيفة من الفتيا، حتى إن ابنة أبي حنيفة سألته مسألة فقهية فقال لها: سلي اخاك حماد فإن السلطان منعني من الفتيا.
ورحم الله ابن تيمية يقول تلميذه ابن القيم (وكان شيخنا رضي اللّٰه عنه، شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء، أجعلت محتسبا على الفتوى! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب)
يقول ربيعة بن أبي عبد الرحمن: (ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق).
قال الخطيب البغدادي (ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها).
إشكال وجوابه
- قد يقول قائل: قد يكون من المبتدعة أناسٌ معذورون مجتهدون؟
فيقال: العبرة بالضرر، متى ما كان في كلامه أو فعله ضرر وجب منعه، ولو كان رجلا صالحا فكيف لو كان مبتدعا خببيث الطوية؟! ولا تلازم بين كونه معذور وبين الإبلاغ عنه؛ لأن العبرة بالضرر فقد يضر الناس من هو صالح تقي.
قال ابن تيمية في المجموع (10/375): «وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذورا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد».
رابعاً: في معنى التبليغ عن المبتدع إلى السلطان
إن التبليغ إلى السلطان ليس غيبةً ولا وشاية ولا تجسس، وإنما هو شهادة على الحق، وإعانة على إقامة العدل. ومن قال: “لا تُبلِّغ، فإن هذا ليس من شأن العلماء” فقد خلط بين مقامين، وجعل الوظائف الشرعية في تضادٍّ لا تكامل.
فالعالِم يُبيّن ويُنكر بالحجة، والسلطان يمنع ويزجر بالقوة، ولا يقوم أحدهما مقام الآخر، بل يقومان معًا لإتمام واجبٍ واحد: حراسة الدين.
فإذا تقرّر أنّ للحاكم حقًّا وواجبًا في منع المبتدع الداعية، فقد لزم بالضرورة أن يكون إظهار هذا الحق، والإعانة على إعماله، من تمام الواجب.
ومن كتمه فقد عطّل نصيحة السلطان، وأقرّ الفساد في موطن الإصلاح.
خاتمة
إنّ التبليغ عن المبتدع إلى السلطان ليس خصومةً شخصية، ولا غيرةً حادّة، بل هو نصرةٌ للدين، وقيامٌ بفرض الكفاية، وردٌّ للشرّ العامّ.
ومن جعل هذا الباب من وشاية الخصوم فقد جهل مقاصد الشريعة، وأطفأ شعلة الحسبة، وأطلق العنان لأهل الأهواء.
فالتعاون بين أهل العلم وأهل السلطان هو توازن القوة والحجة، وبه يثبت الدين وتستقيم الجماعة، فلا يُمنع العالم من بيانه، ولا يُكتم السلطان عن بلاغ الحقّ إليه.
والحمد لله رب العالمين
وكتبه د. حسن صنيدح العجمي
السبت، 18 جمادى الأولى 1447 هـ الموافق:8/11/2025 م