الاشتراط في الاعتكاف


[[ الاشتراط في الاعتكاف ]]

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:

فإن الاشتراط في الاعتكاف موضع خلاف بين الفقهاء، والمقصود: هل جائز للمعتكف أن يشترط ما يخرج به من المسجد، ولا ينقطع اعتكافه؟

والكلام على هذه المسألة في الآتي:

أولًا: الأصل في الاعتكاف لزوم المسجد؛ لأنه معناه، ولهذا أجمع العلماء على أن المعتكف إذا خرج لغير حاجة فاعتكافه باطل، وهذا أصل يجب استصحابه، فلا يقال بجواز الخروج في أي صورة إلا بدليل يخصصها، والصورة التي دل الدليل على جوازها للمعتكف، هي خروجه إلى أمر لابدّ منه، بإجماع العلماء، كخروجه لقضاء حاجته من بول وغائط، أو لصلاة الجمعة عند من لا يشترط كون المسجد جامعًا، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ -وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا).

ثانيًا: ما عدا هذه الصورة لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جوازها فعلًا أو قولًا، وعلى هذا يقال:

– إذا خرج لقربة وطاعة غير متعينة، كتشييع جنازة، أو عيادة مريض؛ بطل اعتكافه.

– إذا كان خروجه بناءً على شرط اشترطه في اعتكافه، كأن يشترط عيادة المريض، أو شهود الجنازة، ونحوهما؛ فالاعتكاف باطل؛ لأن الشرط ينافي الاعتكاف، وهو مذهب الإمام مالك -رحمه الله-، وهو الأظهر للآتي:

1- ما تقدم من أن الأصل لزوم المعتكف للمسجد، كما تقرر في (أولًا).

2- ماذكره الإمام مالك رحمه الله في (الموطأ ٣١٣/١) بقوله: (لم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك من الأعمال، ما كان من ذلك فريضة أو نافلة، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون، لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه، وقد اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعرف المسلمون سنة الاعتكاف).

ثالثًا: استُدِل على جواز الاشتراط بحديثين:

الحديث الأول: ما جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ اَلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أُرِيدُ اَلْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم–: (حُجِّي وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي).

بجامع أن الحج يَحْظر على المحرم أشياء كانت مباحة له قبل الإحرام، والاعتكاف كذلك، كوطء الزوجة.

وهو استدلال ضعيف؛ لوجوه:

أحدها: أن هذا قياس في العبادات، والعبادات سبيلها التوقيف، يتبع فيها ماورد به الدليل، وعلى هذا فالقياس باطل من أصله.

الثاني: أنه يلزم من هذا القول جواز الاشتراط في الصلاة؛ لأن المصلي إذا دخل في الصلاة حرم عليه ما كان مباحًا له قبل دخوله فيها، كالأكل والشرب والضحك…، ولا أحد يقول بذلك.

الثالث: أن الاشتراط في حديث ضباعة متعلق بالخروج من العبادة، والاشتراط في الاعتكاف من أجل الاستمرار فيها، لا الخروج منها، وهذا ظاهر في الضعف، ولو قيل بالقياس في ذلك لكان يقال: إنه يجوز الاشتراط في الخروج من نذر الاعتكاف بالشرط.

الرابع: قد يقال: إن إرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- لضباعة بالاشتراط في الحج دليل على أن الأصل عدم الاشتراط في العبادات؛ لأنه لو كان يصح الاشتراط فيها لكان معلومًا لضباعة، ولما خص به النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج.

الحديث الثاني: حديث: (المسلمون على شروطهم).

وهو استدلال ضعيف كذلك؛ لوجوه:

أحدها: أن ثبوت الحديث فيه نظر؛ فعامة طرقه لا تثبت.

الثاني: لو صح فليس فيه دليل؛ لأنه وارد في معاملة الناس بعضهم مع بعض، كما هو ظاهر من سياق الحديث، وليس في معاملة المخلوق للخالق.

الثالث: أنه جاء في الحديث نفسه: (إلا شرطًا حرّم حلالًا أو أحلّ حرامًا)، وهذا يؤيد القول بعدم جواز الاشتراط في الاعتكاف (على القول بعمومه)؛ لأن الاشتراط لم يثبت دليله، فكان من جنس تحليل ما حرّم الله، فيكون دليلًا على منع الاشتراط، وليس على اعتباره، ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: (مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهْوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَة شَرْطٍ).

رابعًا: القول بجواز الاشتراط يقتضي حدّا ينتهي إليه في نوعه ومدّته، ولابدّ؛ حتى يتبيّن حدّ الاعتكاف المعتبر شرعًا، ولم يأتِ في الأدلة ما يدل عليه، ولو كان الشرط معتبرًا لأتى به الشرع وبيّن حدّه، فدل ذلك على بطلان القول بالاشتراط. وما ذهب إليه بعض الفقهاء من تعيين الشرط الجائز من الممنوع بدون دليل تحكم في النصوص، يفضي إلى تعطيل دلالاتها بمجرد الرأي المحض، أو القياس الفاسد أو الباطل.

هذا ما تيسّر ذكره، والعلم عند الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

كتبه/ د. عبدالعزيز بن محمد السعيد

الجمعة9/16/ 1436هـ


شارك المحتوى: