اطلعت على التوصيات والنتائج التي خلصت إليها الندوة التي عقدت مؤخراً بالقاهرة وعنوانها (الوهابية خطر على الإسلام رؤى نقدية) وقدمت فيها سبعة أبحاث من عدد من الأكاديميين والمفكرين.
وقد رأيت أن هذه التوصيات -وللأسف- فيها جناية على الدعوة الإسلامية السنّية السلفية التي قام بها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-، ولا تزال المملكة العربية السعودية تتبناها من قِبل ولاة أمرها وعلمائها وشعبها (التي عبر عنها المشاركون بالوهابية، وسنعبر عنها في المقال كذلك على حد تعبيرهم وليس إقراراً للإطلاق)؛ لأنها دعوة الإسلام الصافي الخالي من شوائب البدع والمحدثات، البعيد عن الغلو والجفاء، لقيامها على الأصول الصحيحة: الكتاب والسنّة والإجماع والقياس الصحيح، مع التفريق بين المسائل المنصوص عليها ومسائل الاجتهاد في العمل والاختلاف، وتعظيم أئمة الهدى الأربعة وغيرهم، وحفظ مكانتهم، ومعرفة فضلهم، والاعتذار لمن خالف منهم الدليل، والرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسنّة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وقوله جلَّ شأنه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، مع مراعاة المصالح والمفاسد والمآلات ومقاصد الشريعة وقواعدها، وإعمال المحكم، ورد المتشابه إليه. وشواهد هذا في مؤلفات الإمام محمد وعلماء الدعوة كثيرة جداً، وهي مطبوعة متداولة.
وبعد هذا أعود فأقول: بعد قراءة التوصيات المذكورة ظهر ما يلي:
أولاً: التحامل المسبق على الدعوة نتيجة تراكمات وموروثات لا تستند لأي دليل شرعي أو واقعي، بل في كتب الدعوة ردها وإبطالها، وواقع علماء المملكة يشهد بخلافه، والبراهين على ذلك كثيرة، وفي موقع دار الإفتاء ووزارة الشؤون الإسلامية ما يكشف ذلك، ولهذا يمكن أن نصف ما ذكره بأنه مجرد افتراءات وكذب محض، كان على المشاركين التنزه عنه إن علموا الحقيقة، أو التثبت إن جهلوا ذلك.
ثانياً: افتقار الندوة إلى الموضوعية، وتجلى هذا في أمور منها:
1- عنوان الندوة قاض على الموضوعية، فهو حكم مسبق على الدعوة، فالندوة لم تكن نقدية كما يظهر من عنوانها، بل هي حكم على الوهابية بأنها خطر على الإسلام، والنقد يقتضي ذكر السلبيات والإيجابيات وعدم الحكم حتى يستكمل النظر في الموضوع من جميع جوانبه، وفق المعايير النقدية الصحيحة، والاستقراء من الأصول، والنظر في التطبيق العملي، مع التفريق بين حقيقة الانتساب وادعائه.
2- قصر المشاركة على شخصيات لها تصورات سابقة، وعندها نتائج مسبقة، وإقصاء ذوي العلم بالوهابية المتميزين بالموضوعية والإنصاف من المشاركة أو المداخلة؛ لاستجلاء الحقيقة، وبيان الحق -إن كانوا يريدون ذلك-!!
3- إجمال الكلام في مواضع يجب فيها التفصيل والتوثيق، كما في الموضوعات التي ركز عليها البيان، مما يأتي ذكره والرد عليه إجمالاً.
4- تغييب الحقائق الواقعية، فقد جاء في البيان في وصف الوهابية (وأنها تهدد الأمن والسلم في كافة دول العالم الإسلامي لما تبثه من أفكار إرهابية وإجرامية شديدة الخطورة، أفكار تدفع الشباب الإسلامي إلى تكفير وإرهاب المجتمع والحكام لأوهى الأسباب، وأن العالم المعاصر لم يعان من تنظيم أو دعوة مثلما عانى من الوهابية، سواء تمثلت في (القاعدة) أو في التنظيمات الإسلامية الأخرى).
وهذه مخالفة للواقع، فقد كان علماؤنا من أوائل من أصدر بيانات استنكر فيها الإرهاب والتكفير والتفجير، وبيَّن حرمة الدماء المعصومة، وحذَّر من الظلم والعدوان أو خفر الذمم، أو عدم الوفاء بالعهود والمواثيق، أو الخروج على الحكام ومنازعتهم، وتجريم من فعل ذلك، وليس كل من زعم أنه على منهج السلفية كان ذلك في الواقع للخطأ تارة، أو التجاوز تارة، أو التلبيس تارة أخرى. بل علماء الدعوة (الوهابية) لا يرون هذه التنظيمات والجماعات أصلاً؛ لأنها خلاف ما أمر الله به من الاجتماع وترك التفرّق والاختلاف، فضلاً عن اشتمالها على ما لم يقره الشرع وإن زعمت أنها على طريقة السلف، أو أنها تستند إلى أقوال أئمة الدعوة؛ فإن الاعتبار بالموافقة حقيقة لا بمجرد الدعوى.
ثالثاً: التناقض الصريح، ومن ذلك أنه جاء في بيان الندوة (وأنه لولا المال السعودي لما انتشرت الوهابية ولولا النفاق الأمريكي لأمكن مقاومتها والقضاء عليها، ولكن أمريكا والسعودية تستفيدان من هذا الشذوذ الفكري المنتسب زوراً للإسلام والمسمى بالوهابية وذلك لإرهاب العالم تارة أو لابتزازه تارة أخرى).
ونحن نقول: هل يعقل أن تؤيد المملكة الفكر التكفيري الشاذ، وهي من أكثر الدول معاناة له؟ وهل يعقل أن تؤيده ليعيث في أرضها فساداً ويأتي على مصالحها؟ وهل تؤيده وهي التي وضعت خططاً على مستوى الدولة للأمن الفكري، سواء في الوقاية أو العلاج؟ وهل يعقل أن أمريكا تنافق المملكة في أمر ترى أنه يستهدف أمنها ويقضي على مصالحها؟ فما فائدتهما من هذا الشذوذ كما ذكر في البيان؟ أليس من التناقض أن ترى أمريكا الوهابية تهدد الأمن والسلم ويعاني منه العالم، ومع ذلك تنافق؛ ليبقى أمنها ومصالحها مهددة!
ومن تناقض البيان أنه جاء فيه عن الوهابية (ولذلك اعتبره البعض بمثابة «دين آخر غير دين الإسلام»)، ونحن نقول: إذا كان ديناً آخر، لم يكن أهله مسلمين، وبالتالي وقعتم فيما نعيتموه على غيركم، فلازم قولكم تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويأتي بأركان الإسلام فبم كفرتموهم إن كنتم تعتقدون قول هذا البعض -الذي لم يذكره البيان- وإن لم تعتقدوه فلم أوردتموه؟
ومن تناقض البيان: وصفه للوهابيين بأنهم ينفون الآخر، كما سبق ذكره، ثم جاء في التوصية الثالثة: (طالب العلماء والخبراء في الندوة بضرورة إعداد إستراتيجية إسلامية وعالمية ثقافية وسياسية لمقاومة الوهابية، وأنه ينبغي أن يكون للأزهر الشريف دور في ذلك لأنه مؤسسة الاعتدال الإسلامي قبل أن يتم اختراقه من الوهابية ومن يسمون بالدعاة الجدد من السلفيين المتشددين، إن الأزهر الشريف إذا عاد كمؤسسة تنويرية ووسطية معتدلة فإنها تستطيع الرد بقوة على هذا الغلو الوهابي المعادي لروح الإسلام المحمدي المعتدل).
فنقول: من الذي ينفي الآخر، أهم الوهابية الذين يدعون للحوار والمجادلة بالتي هي أحسن والنصح للخلق أم متبنو هذه التوصيات الذين يدعون إلى نفي الآخر وإقصائه، برأيهم الأوحد؟
رابعاً: اشتمل البيان على بعض الموضوعات التي حاولوا من خلالها إدانة الوهابية بمخالفة الشريعة وهي مجرد اتهامات لا أساس لها من الشرع أو الواقع، فنذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار، فمن ذلك قولهم: إنها (تقوم على نفي الآخر وتكفيره). وعلماؤنا يقولون: إن التكفير حكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا منهج كل مسلم؛ لقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} فلا يُكفِّرون إلا من كفَّره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل هم من أشد الناس تثبتاً في تكفير من أظهر الانتساب إلى الإسلام، ولا يكفِّرون إلا بما أجمع العلماء على التكفير به، بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع. وعلى رأي الندوة سيكون كل علماء الإسلام من الأئمة الأربعة وغيرهم ينفون الآخر ويكفرونه، بل سيكون علماء الحنفية أخطر الناس على العالم؛ لأنهم كفروا بكثير من المسائل والصور التي أحجم العلماء عن التكفير بها ومنهم الوهابية! فأين الخبراء والمفكِّرون المشاركون في الندوة عن هذه الحقيقة هل غابت عنهم، وبعضهم حنفي المذهب؟ أو غيّبوها؟ وهل علم هؤلاء المشاركون أن الإمام محمد بن عبدالوهاب وأئمة الدعوة قد نقضوا مذهب الخوارج المتقدمين والمتأخرين منهم بالأدلة الشرعية والمأثور عن سلف الأمة، وأن الدولة بولاة أمرها وعلمائها قد وضعوا لجاناً شرعية تناصح المتلبسين بالفكر التكفيري الخارجي مما يقارب عشرة أعوام لما ظهرت بوادره، وأظن أن الأمر لا يخفى على أمثال المشاركين في الندوة لشهرته عالمياً. وبه يعلم بطلان قول البيان عن الدعوة: (دين يدعو إلى الإرهاب والقتل باسم الله، والله منه براء، وأن ما يجري في العراق وأفغانستان، بل وحتى السعودية راعية هذا الفكر من قتل وإرهاب على الهوية يؤكد أننا أمام دعوة للإجرام والقتل وليس أمام دعوة لإسلام سمح معتدل).
وأما نفي الآخر فكلمة مجملة في النفي وتفسير الآخر. ويكفي شاهداً على ردها ما تفيض به كتب الوهابية من نقل عن العلماء على اختلاف مشاربهم من المفسرين والمحدِّثين والفقهاء وغيرهم، والاعتبار بالحق. وكذلك يشهد لرده مشاركة علماء المملكة في المجامع والمحافل الإسلامية والعلمية، واستقطاب الجامعات والمؤسسات العلمية لكثير من العلماء والمفكرين، ولم ينفوا الآخر كما ذكر البيان في صورته التعميمية الإجمالية.
ومن ذلك قول البيان: (إن الوهابية لها موقف سلبي من المرأة والعلم، والموسيقى وجميع الفنون، ومن المسيحيين، بل من أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى كالشيعة والأشاعرة وغيرهم).
ونحن نطالب بتفصيل هذه الدعوى ليعلم الجميع أن هذا ما هو إلا مجرد افتراء كغيره من الافتراءات التي فاض بها البيان، ومع ذلك نقول على وجه الإجمال: إن الذي يجب أن يعرفه الجميع أن الأحكام المتعلقة بالمرأة في عباداتها ولباسها وزينتها وخروجها وعملها ونكاحها ومعاملاتها وسائر أحوالها تنتظمه الشريعة بأدلتها وقواعدها ومقاصدها، وأحكام العلماء في المملكة تنطلق من هذا فهل هذا عمل سلبي؟
وأما العلم فهم على آثار من سبقهم من أهل العلم والإيمان، فيرون أن أعظم العلوم وأجلّها علم الكتاب والسنّة وما كان وسيلة لفهمهما، وأما العلوم الدنيوية فلا يحجرون ما وسعه الله، فإن الأصل إباحة تعلمها ما لم تكن محرّمة بالدليل الشرعي، أو تؤول إلى محرم، ولا إخال أحداً من أهل العلم ينتقد هذا المسلك، بل لا يخرج عنه، وتأصيل هذا وتطبيقه من زمن الإمام محمد بن عبدالوهاب إلى وقتنا الحاضر. وحلق العلم في الحرمين والمساجد والجامعات في المملكة والمؤسسات التعليمية والهيئات العلمية التي تحتضن أصناف العلوم، وتستقطب العلماء والمفكرين والباحثين من أقطار الدنيا شاهد قائم، فضلاً عن وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية والمجلات المتخصصة، فأين السلبية؟!
وأما الموسيقى فهم في الحكم تابعون لمن قبلهم من الصحابة والتابعين وأهل العلم من كافة المذاهب، كما دون ذلك العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي في كتابه (كف الرعاع) والحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه (نزهة الأسماع) فلم يأت علماء المملكة ببدع من الحكم.
وأما الفنون فلم يفصح البيان عنها، ونحن نقول: إن الفنون تجري عليها الأحكام الشرعية، بحسب ماهيتها، فالقضاء بالحل والحرمة عائد إلى ماهية الفن.
وأما موقفهم من المسيحيين فهم من أرعى الناس لحقوقهم كما جاء في الكتاب والسنّة، ومن ذلك أنهم يوجبون العدل معهم ويحرمون ظلمهم، ويوجبون الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق، ويوجبون صلة الرحم منهم، ويكرمون ضيفهم، ويرعون حق الجوار، ويرون الإحسان إليهم وبرهم ما لم يكونوا محاربين، ويبيحون التعامل معهم بالبيع والشراء والنكاح وغيرها من المعاملات التي لم ينه عنها الشرع، ويجادلونهم بالتي هي أحسن، قياماً بحق الله وشفقة عليهم، مع أنهم مخالفون لهم في الدين، ولا يقرونهم عليه.
وأما المذاهب الإسلامية الأخرى فالوهابية يحكمون بإسلام كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ما لم يأت بناقض من نواقض الإسلام مما هو مقرر عند أهل العلم في كتاب المرتد، ولا يخرجونه من الملة إلا عند توافر الشروط وانتفاء الموانع، ويحكمون على أفعالهم من حيث الخطأ والصواب والسنّة والبدعة بحسب الأصول الشرعية، مع التفريق بين وصف الفعل بالبدعة وإطلاق ذلك على الفاعل، فإنهم قد يصفون العمل بالبدعة ولكن لا يبدعون الفاعل لكونه متأولاً ومجتهداً مخطئاً أو جاهلاً أو نحو ذلك مما يرفع الوصف عنه.
وأخيراً نقول: هل بعد هذا مجال في أن يصف المنتدون الوهابية بأنها (دعوة للجاهلية، وأن أغلب الموروث الوهابي قائم على الإرهاب الفكري والديني، ومخاصمة الواقع والعقل؟).
ونحن نطالب المنتدين بالتفصيل دون الإجمال، والتوثيق في النسبة، وإقامة البينة على الدعوى، وعدم الخلط بين اختيار العلماء والتحجير على الغير، والقراءة بتجرد، والنقد بموضوعية، وأظن المنصف لو قرأ لأيقن أن الوهابية ما هي إلا دعوة إلى التوحيد الخالص وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح، وأعيد إلى أذهان المنتدين أن الموسوعة البريطانية وصفت الوهابية بأنها الدعوة إلى الإسلام الصحيح.
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
*رئيس مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها
|