إمام على كتفه قطة … وانتهت القصة !


الحمدلله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،
فقد انتشر مقطع لأحد الأئمة وهو يصلي بالناس التراويح، وإذا بقطة تصعد على كتفه، وكان يقرأ من سورة الأنعام، وثبت في صلاته حتى أنهى القراءة، ثم نزلت القطة، وركع الإمام، وتابعه المصلون.
وهذا المقطع الطريف أثار جدلا، بين من جعله كرامة، ودليلا على صحة هذا الدين، وعظمة القرآن، الذي تصغي إليه القطط، وبين من استغل هذه الحادثة للضحك على المسلمين، والطعن فيهم وفي دينهم، سيما في الأحاديث الآمرة بالإحسان إلى الحيوانات، والتحذير من تعذيبها، وأن ذلك من أسباب دخول النار.

ولي مع هذا كله وقفات:

– الأولى: إن الدعوة إلى الله لا تكون إلا عن علم، قال تعالى: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني))، وفي الحديث المتواتر: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، فأمر صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدين في الثلث الأول من الحديث، وحذر من الكلام في دين الله بلا علم في ثلثه الآخر.
ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “من دعا إلى الله بغير بعلم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح”.
وعليه، فمن انبرى من العامة لاستنباط الأحكام، أو صرف صكوك الغفران، أو إسقاط النصوص على واقعة عيان، فقد تكلم في دين الله بغير علم، وصاح على نفسه بالجهل المركب بعد أن كان مستورا تحت غطاء الجهل البسيط.

– الوقفة الثانية: لا ينبغي أن ينجر المسلمون وراء العاطفة، فيصيروا لعبة في أيدي مواقع التواصل، وكل يكتب ويعلق في كل المواضيع، والهدف كثرة الإعجابات، وتوالي التعليقات، وللبعض ربح المال من الإشهارات.

– الوقفة الثالثة: هذه القصة بدايتها: قطة صعدت على كتف إمام وهو يصلي؛ ونهايتها: قطة نزلت من على كتف إمام وهو يصلي.
هذه البداية، وهذه النهاية، وليس وراء هذا شيء من التأويلات، فضلا عن الرجم بالغيب، ووصف إحساس القطة وهي تسمع القرآن، ناهيك عن الحكم على الذي حصلت له القصة بالكرامة والولاية!؟

– الوقفة الرابعة: وافق صعودُ القطة على كتف الإمام قراءتَه لسورة الأنعام، ومن هذا جعل بعضهم ذلك آية وكرامة لأن القطة من الأنعام!؟
هكذا قال الذين لا يعلمون، ظنا منهم أن القطة من جملة الأنعام، وهو جهل وتخريف، ولعب وتحريف، إذ المراد بالأنعام: الإبل والبقر والغنم، بإجماع أهل اللغة، وهي التي تؤكل، ويُركب بعضها، قال تعالى: ((الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون)).

– الوقفة الخامسة: إن جميع الكائنات تسبِّح لله، قال تعالى: ((وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)).
قال ابن كثير في (تفسيره): “أي: لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغتكم. وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل”. انتهى.
وعليه، فهذه القطة كغيرها من المخلوقات تسبح لله الواحد الأحد، ولكنها لا تتكلم لغتنا، ولا تفقهها، فكيف تفهم القرآن وتتلذذ به؟! وهي غير عاقلة، وغير مكلفة؟!
ولو كان هذا حقا، لوقع مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يركبها خير خلق الله، وتسمع ذكر لله، ولم يُنقل لنا شيء من هذا.
وإنما حن له صلى الله عليه وسلم الجذع، لما كان يسمع من الذكر، وهذا أمر خاص، أخبرنا عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من عند الله.
فكيف يدعي معرفة ذلك أحد الآن؟
كيف يسمح البعض لنفسه تفسير حادثة قدرية على ما يهواه، ويلوي النصوص الشرعية لتوافق رأيه وهواه؟!

– الوقفة السادسة: القواعد الشرعية حاكمة على الحوادث القدرية، وليس العكس.
ومعنى هذا أن الشرع يفسر لنا ما يقع من الأمور مما يتعلق به حكم، لأن ديننا شامل، وشرعنا كامل، لا أن يأتي أحدنا إلى حادثة قدرية، وقعت موافقة، ويذهب يفتش عما يؤيدها أو يعارضها في الشرع، سيما بتكلف بعيد، وتوجيه غير سديد.
فمثلا، لو تكلم أحد في حكم دخول القطط للمساجد، وبحث في الأدلة عما يوافق أو يؤيد ذلك، لكان حسنا، إذ هذه مسألة يترتب عليها عمل.
وأما تعلق هرة بثوب إمام، فهذا لا فائدة منه، ولا طائل تحته، ولا يترتب عليه عمل، اللهم السؤال عن نجاسة الثوب بملامسة الهرة، مع العلم أنها من الطوافين علينا، ولا نجاسة بلمسها، لما في ديننا من رفع للحرج، ويسر في الأحكام.

– الوقفة السابعة: جعل بعضهم هذه الحادثة دليلا على صحة الدين، وأن القرآن حق، وهذا يشبه من وجه الذي أراد أن يدخل ابنه الصغير الجنة فأقدم على قتله قبل البلوغ.
فهو أراد خيرا، ولكنه فعل إفكا، وارتكب جرما…
وأعرف أنك ستستغرب من هذا التشييه، سيما بهذا الأمر الفظيع، وحُق لك ذلك، ولكنني أدعوك لتتأمل معي ما قد يقع بسبب هذه الاستدلالات الباطلة، من الجناية على الدين الحق.
هَبْ أن هذه الحجة انطلت على البعض، فهل تأمن أن ينشر النصراني واليهودي بل والمجوسي والبوذي أو حتى الملحد فيديوهات لهم، وهم يقرؤون اورادهم، والحيوانات تصغي لهم،

بل ربما حلقت الطيور فوق رؤوسهم!؟
إذا أبطلت حجتهم أبطلت حجتك، وإذا صدقتهم، فقد شهدت بأن ما هم عليه حق

وهذا والله عين الظلم، أن يسوى بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والنور والظلمة، ((ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).

الوقفة الثامنة: إن ديننا حق، وما جاء به نبينا صدق، وكتابنا أعظم كتاب نزل على نبي، ودلائل ذلك ظاهرة لا تخفى.
يقول ابن سعدي في تفسير قول الله تعالى ((لا إكراه في الدين)): “يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه”. انتهى.

الوقفة التاسعة: أقول للذين استغلوا ما كُتب حول هذا الموقف، فصاروا يستهزئون بالمسلمين، ويسخرون من بعض الأحاديث، أو يطعنون في دواوين السنة، أقول لهؤلاء:
الحمدلله الذي يظهر لنا خبث سرائركم بين الحين والآخر، حتى لا ينسى الناس معادنكم، ويحذروا من مناتنكم، فإن جهال المسلمين قصدوا خيرا وأخطؤوا الطريق، وأما أنتم فلا قصدكم سليم، ولا فعلكم قويم، قلوبكم مريضة، وعقولكم سقيمة، أعياكم الحق وأهلُه بالحجة والبرهان، فتمسكتم بقشة حتى تطمئنوا أنفسكم بأنكم أصحاب عقل وبيان، ولا أقول أهل عقيدة وإيمان، فأنتم أصحاب دنيا، وطالبو شهرة، ولهذا لا نسمعكم إلا مع الطبولايات، وهي المسائل التي تقرع عندها طبول مواقع التواصل، وتعقد لها بعض منصات الإعلام.

الوقفة العاشرة: إن من أعظم ما يعصِم به العبدُ نفسَه -بعد توفيق الله- من جهالات العامة والدهماء، وشبهات المتربصين الخبثاء، تعلمَ العلم الشرعي، والإقبالَ على حفظ القرآن والسنة، والتشبعَ بقواعد الشريعة وأصولها، وخاصة دراسة التوحيد والعقيدة الصحيحة التي بها صحة الدين، وهي مصدر عز المسلمين.
يقول الشيخ مبارك المِيلي ‎الجزائري رحمه الله: “وإذا كان حفظ الصحة بالغذاء والدواء، فإن حفظ التوحيد بالعلم والدعوة، ولا يحفظ التوحيد علم كعلم الكتاب والسنة، ولا تجلي الشرك دعوة كالدعوة بأسلوبهما”. (رسالة الشرك ص 34).

هذه عشرة كاملة، كتبتها على عجل، واللهُ المسؤول أن يجعلها موافقة للصواب، مجانبة لطريق أهل الجهل والارتياب.
والحمد لله رب العالمين.

وكتب: د. الصغير بن عمار
ظهر الأحد 18 رمضان 1444
9 أفريل 2023


شارك المحتوى:
1